«جيوب اليمين المتطرف» تذكّر ألمانيا بتاريخها المظلم

تعيش ألمانيا حاضرها وشبح الماضي يطوف دائماً بالقرب. في العاصمة برلين، مجسّم ضخم لضحايا المحرقة النازية يقع بالقرب من أهم معلم في المدينة، بوابة براندنبرغ. المجسم يبدو من بعيد كأنه مقبرة جماعية. وهو بني بالفعل لكي يبدو كذلك. فهو عبارة عن صناديق من الإسنمت، بأحجام مختلفة مصفوفة بالقرب من بعضها. هي تبدو من بعيد كأنها توابيت، العشرات منها، مرصوصة بعضها إلى جانب بعض.
هذا المجسم وجد ليذكر الألمان بتاريخهم الأسود «كي لا يتكرر». وهو ليس الوحيد. علامات أخرى كثيرة وجدت لتبقي أهوال النازية في الذاكرة.
على أنقاض المقر الأمني للرايخ في برلين، معرض «طوبوغرافية الإرهاب» بالهواء الطلق. يوثّق جرائم النازية بصور تظهر سجناء تعرضوا للتعذيب والقتل كانوا يقبعون في أقبية سجون الرايخ. وغيرها الكثير.
مربعات ذهبية صغيرة لا يزيد حجم المربع على 10 سنتمترات، تراها مزروعة بين حجارة الطرقات والأرصفة في أماكن كثيرة بألمانيا. عليها مكتوب اسم وتاريخ ميلاد ووفاة. الاسم هو لأحد ضحايا النازيين، من اليهود معظمهم، ولكن أيضاً من فئات أخرى تعرضت للإبادة على يد النازيين مثل الأقليات الغجرية. الحجرة التي تسمى بالألمانية «شتولبرشتاين» وهي تعني حرفياً «حجرة عثرة»، تزرع أمام المنزل الذي كانت تسكنه الضحية قبل قتلها.
ولكن كل هذه الإشارات ليست كافية على ما يبدو لبعض الألمان. ولم تعد بالنسبة لهؤلاء «البعض» إلا مجسمات تاريخية لا تعني الكثير، ولا هدف لها. وحتى إن منهم من يذهب أبعد من ذلك. مثل ألكسندر غولان، رئيس حزب «البديل لألمانيا»، الذي يعتبر أن ألمانيا «تبالغ» بتذكّر تاريخ النازيين وجلد نفسها بسببه. هو يقول إن حقبة النازية ما هي إلا «وصمة عار قصيرة» في تاريخ طويل ناجح لألمانيا. ويريد تخطيها كي تعود ألمانيا إلى سابق مجدها.
والواقع أن حزبه المصنّف بأنه يميني متطرف، صعد على أنقاض اللاجئين والكراهية الموجّهة إليهم. وهو رغم أنه تأسس عام 2013، لم ينجح في أن «يجد صوته» فعلياً إلا بعد أزمة اللاجئين في ألمانيا عام 2015 عندما سمحت المستشارة أنغيلا ميركل باستقبال قرابة مليون لاجئ سوري، هي تقول ما باتت جملة من أشهر ما قالته: «بإمكاننا أن نفعل ذلك». وبالفعل فعلت ألمانيا ذلك، واستقبلت اللاجئين ومنحت كثيراً منهم منزلاً ثانياً وفرصة ثانية في الحياة. ولكن الثمن كان باهظاً بالنسبة لميركل. فهل أساءت تقدير مدى انفتاح مواطنيها واستعدادهم لتخطي الماضي؟
قرار ميركل هذا كان سبباً مباشراً لزيادة نسبة معاداة اللاجئين والمسلمين والكراهية التي باتت عناوين حملة «البديل لألمانيا» الانتخابية. عناوين لقيت آذاناً صاغية لدى شريحة لا بأس بها من الألمان. ونجحت بإدخال الحزب اليميني المتطرف إلى البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) عام 2017. وأصبح «البديل لألمانيا» أكبر حزب معارض في البرلمان. وباتت تلك المرة الأولى التي يدخل فيها البرلمان حزب يميني متطرف يُجيّش علناً ضد شريحة من السكان ويفوز بسبب تجييشه.
فوزه دفع بالكثيرين للتساؤل قلقاً وخوفاً: هل بدأت ألمانيا بتخطي ونسيان تاريخها الأسود؟ وهل باتت وصمة العار التي يُربى عليها الألمان شيئاً من الماضي؟ وهل ستعود ألمانيا لإحياء أفكار النازية والتمييز ضد سكانها على أساس اللون والعرق والدين؟
أسئلة كثيرة مقلقة لم تخمد منذ دخول «البديل لألمانيا» إلى البرلمان، بل على العكس تزيد إلحاحاً. وإذا سألت عائلات ضحايا «مجزرة هاناو»، فهم يقولون إن الحزب دفع بالخطوط الحمر لتصبح غير مرئية، والكثير مما كان محظوراً باتت اليوم مناقشته أمراً عادياً.
المجزرة هذه وقعت قبل عام وأسبوعين تحديداً، في مدينة صغيرة ليست بعيداً عن فرانكفورت. في 19 فبراير (شباط) من عام 2020، دخل رجل ألماني أبيض يدعى توبياس راتجن (43 عاماً) مساء إلى مطعم للشيشة وفتح النار على الجالسين. قتل 5 منهم، كلهم من أصول مهاجرة. أكمل إلى مكان ثانٍ قريب، أيضاً يقدم الشيشة. فتح النار هناك من جديد على الجالسين وأردى 4 آخرين قتلى، أيضاً كلهم من أصول مهاجرة، وإن ليسوا كلهم مسلمين. ثم ذهب إلى منزله، قتل والدته وأعفى والده، ثم قتل نفسه.
عندما وصلت الشرطة ودخلت منزله، عثرت على أشرطة فيديو ومنشورات وحتى بيان يحمل نظريات مؤامرة يؤمن بها الرجل، وأفكار شديدة العنصرية وكراهية لا متناهية للاجئين ومن هم من أصول مهاجرة. أفكار باختصار يعبّر عنها النازيون الجدد، الذي عادوا للصعود بشكل واضح منذ دخول «البديل لألمانيا» البوندستاغ. تركيزه في البيان الذي تركه خلفه، كان تحديداً على القادمين من دول الشرق الأوسط وجنوب أفريقيا الذين يعتبرهم «غير أنقياء ولا يتمتعون بذكاء كافٍ»، مقارنة بتمجيد الألمان وقدرتهم «على رفع الجنس البشري».
كل هذه الأدلة لم تكن كافية للمحققين الذين بعد عام على الجريمة، ما زالوا لم ينشروا نتائج التحقيق بعد. وحتى إن نسخة مسرّبة من تحقيقات أظهرت أن التركيز ليس على تطرف الرجل، بل على «جنونه» وأنه يعاني من «أمراض عقلية». ورغم أن اختيار الضحايا كان واضحاً للجميع بأنه جاء على أساس اللون والأصل، ولكن هذا لم يكن مثبتاً بالنسبة للمحققين الذين اعتبروا اختيار الضحايا «عشوائياً»، وفق التقارير.
استنتاجات ما إذا مقصودة أم عن غير قصد، أو أنها كانت نهائية أم لا، غير واضحة بعد. ولكنها بغض النظر، تسلّط الضوء على المشاكل الكثيرة التي تعاني منها الأجهزة الأمنية الألمانية، سواء الشرطة أو الجيش، المخترقة أحياناً من قبل اليمين المتطرف. فضائح كثيرة لفت بالشرطة والجيش في أكثر من مدينة ألمانية في السنوات الماضية. من ظهور صور لأشخاص في الخدمة العامة مفترض أنهم حياديون، يؤدون تحية النازية، إلى العثور على كومات وكومات من الأسلحة المخزّنة لدى أحد الجنود بحسب استخدام بعمليات ضد لاجئين… وغيرها كثير من الحوادث المحبطة.
وما هو أكثر إحباطاً بالنسبة لأهالي ضحايا هاناو، عدا عن أنهم لم يتلقوا إجابة مفيدة من الشرطة بعد حول سبب قتل أبنائهم، أنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان. هم أشخاص ولدوا وكبروا في ألمانيا. ويتحدثون الألمانية كلغتهم الأم. ولكن ما زال ينظر إليهم بشكل مختلف. كأنهم أجانب.
يقولون إن والد القاتل، وهو مسن بالغ من العمر 73 عاماً، يرسل إليهم تهديدات. وإنه يحمل نفس أفكار ابنه، المتطرفة. يقولون إنه يلومهم هم على ما حصل وليس ابنه. ويشتبهون بأنه هو من شجع ولده على ارتكاب المجزرة.
ولكن الشرطة في المقابل، ترفض اعتبار الوالد إلا شاهداً. روايته بأنه كان نائماً في الساعة الثامنة ليلة الجريمة، ولم يسمع شيئاً ولا حتى الطلق الناري داخل المنزل، قبلتها الشرطة. ولكن ليس عائلات الضحايا. والتهديدات التي يرسلها لهم، لم تدفع الشرطة لفتح تحقيق معه. وحتى إنها طلبت منهم «تركه وشأنه» والتوقف عن «إزعاجه»، بعد أن قضى بضعة أيام في المستشفى وعاد لمنزله. كل هذا، يجعل عائلات ضحايا هاناو يشعرون اليوم بأنهم «متروكون»، وأنهم لم يعودوا بأمان في ألمانيا، بلدهم الذي ولدوا فيه.
ومع ذلك، فإن شيئاً من الأمل ما زال موجوداً.
ففي ذكرى المجزرة، كانت صور ضحايا هاناو في كل زاوية من شوارع منطقتي نويكولن وكرويتزبيرغ في برلين. منطقتان تعيش فيهما جاليات كبيرة من أصول مهاجرة. مسيرة كبيرة كذلك انطلقت في ذلك اليوم في الشوارع تلك، شارك فيها نحو 6 آلاف شخص، يرفعون صور الضحايا ويدعون لنبذ التطرف. ولكن المسيرة لم تمتد لشوارع أخرى في برلين، أكثر تجانساً لجهة سكانها «البيض».
هذا الأمل امتد كذلك، وإن لفترة وجيزة، أبعد قليلاً. فقبل أيام، نشرت صحف ألمانية أن المخابرات الداخلية وضعت حزب «البديل لألمانيا» تحت المراقبة، ما يعني أنه بات من السهل عليها جمع معلومات عن الحزب وأعضائه، فيما قد يكون تمهيداً لحظر هذا الحزب بسبب تطرّفه وترويجه لأفكار معارضة للدستور. ولكن لم يدم هذا الخبر طويلاً. إذ حكمت محكمة في كولن بأنه لا يمكن للمخابرات مراقبة الحزب حالياً لأن هذا يضعه في موقف أضعف من الأحزاب الأخرى، قبيل انتخابات محلية مهمة وفيدرالية في الخريف المقبل. ولكن قرار المحكمة هذا مؤقت، وقد تعود المخابرات وتقلبه في أي لحظة.
إلا أن المقلق فعلاً في ألمانيا، أن البلاد مقبلة على نهاية عهد، مع اقتراب موعد تقاعد ميركل في سبتمبر (أيلول) المقبل. من سيحل مكانها وكيف ستكون الحياة السياسية من بعدها؟ لا أحد يعلم. هل سيعود حزبها إلى اليمين، بعد أن قضت عشرين عاماً تشده نحو الوسط؟ وهل سيحكم البلاد مستشار يغازل اليمين المتطرف لأهداف انتخابية وينهي حقبة 15 عاماً قادت فيها ميركل البلاد إلى مكان أكثر تقبلاً للآخر رغم أنه لم يكن من دون عواقب؟
رمادية تخيّم على سماء ألمانيا حالياً، بانتظار أن ينتهي فصل الشتاء وتحل الفصول الأخرى ربما تحمل معها وضوحاً أكبر. وربما مع عودة مراقبة حزب «البديل لألمانيا» وحظره في النهاية، تعود الخطوط الحمر لتظهر بوضوح أكبر، ومعها تبقى الذكريات السوداء التي تطوف في سماء البلاد «كي لا تتكرر».