مثقفون مغاربة يقيّمون تجربة آسيا جبار

تجربتها في الكتابة الأدبية بالفرنسية لا تتجزأ عن التجربة المغربية

مليكة العاصمي  و حسن نجمي
مليكة العاصمي و حسن نجمي
TT

مثقفون مغاربة يقيّمون تجربة آسيا جبار

مليكة العاصمي  و حسن نجمي
مليكة العاصمي و حسن نجمي

أعرب عدد من المثقفين والنقاد الأدباء المغاربة عن أسفهم لفقدان الساحة الأدبية المغاربية والعربية للروائية الجزائرية آسيا جبار التي رحلت أول من أمس الجمعة بفرنسا عن عمر ناهز 79 عاما.
وقال الشاعر حسن نجمي إن وفاة الكاتبة الجزائرية آسيا جبار هو خسارة كبيرة للأدب المغاربي والإنساني المعاصر، مشيرا إلى أنها كانت إلى جانب مجموعة من الأدباء الجزائريين الكبار من أمثال كاتب ياسين، مولود فرعون، مولود معمري، رشيد بوجدرة، رشيد ميموني وآخرين شكلوا إضافة لتجربة الكتابة الأدبية في المغرب الكبير خصوصا منها الكتابة السردية، والروائية، والقصصية.
ووصف نجمي الروائية الجزائرية بأنها «كاتبة صادقة وعميقة لم تكن تكتب من أجل الكتابة المجردة البعيدة عن واقعها وتاريخها بل كانت جدية وتستمد الخلفية الفكرية والمعرفية لكتاباتها من تجربتها العلمية كمؤرخة متخصصة في التاريخ الحديث والمعاصر». وأشاد نجمي بمجموعتها القصصية «نساء الجزائر في شقتهن» التي اشتغلت فيها على العلاقة الجوهرية بين الكتابة وفن التصوير من خلال الاشتغال على أحد أعمال الفنان الفرنسي الشهير» دولاكروا، بالإضافة إلى روايتها الأولى «العطش» ثم «أطفال العالم الجديد» و«بعيدا عن المدينة».ولفت نجمي إلى إسهامات جبار في مجال الشعر أولها كان مجموعة شعرية حملت عنوان «قصائد من أجل الجزائر السعيدة» رغم أن أعمالها الشعرية لم تلق نفس النجاح الباهر الذي عرفته كتاباتها الأدبية، وأضاف أن اسمها أدرج ضمن أهم الوجوه النسائية الأدبية في العالم التي كانت مرشحة رسميا لنيل جائزة نوبل للآداب عام 2004 ثم حظيت فيما بعد بشرف الالتحاق بالأكاديمية اللغوية الفرنسية.
وتطرق نجمي إلى نقطة مهمة في حياة الراحلة جبار وهي انتقالها للعيش بالمغرب عام 1959 غداة التطورات الدامية التي عرفتها الجزائر في الخمسينات، مشيرا إلى أن المغرب كان حاضرا في ذاكرتها الشخصية ونصوصها الأدبية الأولى، هذا إلى جانب مساهمتها في تأسيس اتحاد كتاب المغرب العربي رفقة مواطنها الأديب الراحل مولود معمري والكاتب والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي وعبد الكريم غلاب ومحمد برادة ومحمد إبراهيم بوعلو وعدد من الأدباء من تونس وليبيا.
وذكر نجمي أنه «لا يمكن أن يفكر في الراحلة جبار بمعزل عن التجربة الأدبية المغربية باللغة الفرنسية لأنها جزء لا يتجزأ من متننا الأدبي المغربي»، والذي برز فيه الأدباء أمثال الطاهر بنجلون والمفكر عبد الكبير الخطيبي والشاعر الراحل محمد خير الدين والشاعر عبد اللطيف اللعبي ومصطفى نيسابوري وصولا إلى الأجيال الجديدة التي تواصل الكتابة باللغة الفرنسية بعيدا عن التحليل الكلاسيكي الذي يقول إن الكتابة باللغة الفرنسية في المغرب الكبير هي ظاهرة استعمارية.
وفي السياق نفسه وتعليقا على خبر وفاتها قال الناقد والشاعر المغربي أحمد زنيبر إن «وفاة الروائية آسيا جبار خسارة إنسانية وبشرية وأدبية للوضع الثقافي الحالي للمغرب العربي وكذا العالم العربي، فأعمالها كانت فارقة في الساحة النضالية والثقافية في المنطقة المغاربية وكانت تسير دائما في خط الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامة الإنسان وكل ما يثبت ويقوي القيم الإنسانية، وأسست للقيمة التي يجب أن يحظى بها الإنسان المغاربي والعربي». وأضاف زنيبر أن «أعمال الراحلة جبار وجهت القواعد الأساسية للكتابة في المنطقة في عهدها وستستمر في توجيه الكتابات القادمة ونظرة الكتاب المغاربيين للقيم وللإنسان والحياة».
وعن إنتاجاتها الشعرية قالت الشاعرة مليكة العاصمي إن «آسيا جبار كانت من الجيل المؤسس للتجربة الجديدة قي منطقة المغرب العربي، وهي شاعرة أمسكت بالقيم الفنية الجديدة في الشعر وكانت صوتا مميزا منذ فترة الستينات والسبعينات وساهمت في بناء أصوات جديدة وتغذيتها وإنتاج أجيال من الشاعرات والشعراء الذين ميزوا تلك المرحلة وما بعدها، وطرحت أعمالها المشاكل والمصاعب التي تواجهها النساء في المجتمع، كما عرف عنها الكتابة بحس أنثوي الطابع».



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.