مختارات من القصة الأرمنية

تعكس معاناتهم عبر التاريخ على نهر الفرات

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

مختارات من القصة الأرمنية

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

ما بين أعداد الجرائد اليومية المصرية، عثرت على أول إصدارات «بيت الوادي» للنشر والتوزيع التي أسسها الكاتب والقاص شوقي عقل مع عدد من المثقفين المصريين منهم الكاتب والقاص د. أحمد الخميسي، وصفاء زكي مراد. ويحمل الإصدار عنوان «على نهر الفرات.. مختارات من القصة الأرمنية» ترجمة الأديب والمترجم السوري د. نوفل نيوف، ود. فيروز نيوف، طبيبة الأسنان السورية التي قامت بالكثير من الترجمات الأدبية من الروسية إلى العربية. وكان هذا أمرا لافتا أن تعثر على أحد العناوين الخاصة بالأدب الأرمني على قارعة الطريق لأنه من النادر أن تجدها على أرفف المكتبات الكبرى!
إن فكرة التوجه لترجمة الأدب الأرمني لهي فكرة غائبة عن كثير من دور النشر العربية الكبرى، رغم أن الشعب الأرمني اندمج مع الشعوب العربية وقدم إسهامات كبرى في تاريخ الأمة العربية.
تتضمن المختارات 6 قصص قصيرة تبث في ذهن القارئ رسالة مفادها أنه «من الظلم والغربة ينبع الألم والأمل وهما جناحان للتحليق فوق كل الصعوبات لتستمر الحياة مهما كانت قسوتها» كما جاء على الغلاف الأنيق، وبلوحات فنية معبرة طُعمت كل قصة من القصص بلوحة رسمها أحد الفنانين التشكيليين الأرمن. تمثل مجموعة القصص المختارة هواجس الإنسان الأرمني التي لا تختلف عن هواجس البشر في العالم، وتحمل سمات هذا الإنسان وأرمينيا تلك الأرض التي ينبع منها نهرا دجلة والفرات، وهي أول دولة اعتمدت المسيحية دينا رسميا لها، كما ترسم القصص ملامح معاناة الأرمن من الظلم والقمع.
تستهل المختارات بقصة «أفضل إنسان في العالم» لفاردليس بيتروسيان، التي تدور حول الحب والخيانة والألم بلغة سردية تتشابك مع رؤى فلسفية للعالم. وتأتي القصة الثانية «كيف تغير كل شيء» للكاتب آبيج أفاجيان حول الموت والحياة والإيمان ونقيضه. أما القصة الثالثة «طائر السمان» للكاتب فالتير آراميان الذي تأخذك لغته السردية إلى سحر الطبيعة الأرمينية إلى غابات أشجار الصنوبر وعواصفها الثلجية ونهارها القصير وليلها القاسي، فتقص إصرار شخص أدركته عاصفة ثلجية في الغابة على مقاومة النوم خوفا من سكرات الموت هو ورفيقه في رحلته طائر السمان، ليصل في نهايتها إلى بر الأمان قريته.
القصة الرابعة «طريقي» لخاجاك جولفا زاريان، الفائزة بجائزة أندرسون العالمية لأدب الطفل، تنطوي على رؤى فلسفية للعالم مكتوبة بلغة شاعرية. وجاءت القصة الخامسة «اليوم المبارك» للكاتب موشيج جالشيون لتروي حكاية أحد الأطفال الأيتام الذي تحولت حياته من البؤس إلى النعيم. أما القصة السادسة والأخيرة «على نهر الفرات» للكاتب هراتشيا كوتشار فتتحدث عن الحياة المأساوية لأحد الأرمن الذين قاتلوا وذاقوا جحيم الحرب وكان عمره 15 سنة، بلغة سردية معبرة جسدت ببراعة، عبر قصة حب بريئة، حجم معاناة الأرمن والعذاب على أيادي الجنود الأتراك.
يقول القاص والأديب د. أحمد الخميسي، مستشار النشر ببيت الوادي وأحد مؤسسيه لـ««الشرق الأوسط» إن «المترجم لدينا من الأدب الأرميني قليل، رغم أنه أدب ضارب بجذوره في التاريخ وتعود نشأته الحديثة إلى عام 1884 مع ظهور صحيفة (آرفلك) الأرمينية، وظهور الرواد من الأدباء أمثال آرييار آريياريان، ولفون ياشاليان، وغيرهما، ثم تطور ذلك الأدب لاحقا في القرن العشرين».
وحول ما إذا كان الأدب الأرمني متأثرا بالأدب الروسي، يقول: «لا شك في أن الأدب الأرمني قد تأثر بالأدب الروسي كما تأثرت به الآداب الأخرى في نطاق آسيا الوسطى المتاخمة لروسيا، فقد ترك الأدب الروسي تأثيره في مختلف الآداب العالمية بما في ذلك الأدب المصري. وقد بدأ الكتاب الأرمن طريقهم بقراءة واستلهام الأدب الروسي وترجمته إلى لغتهم، وقد ترجم الأديب الأرمني المعروف هوفهانيس تومانيان الكثير من الأعمال الأدبية إلى الأرمنية ومن ضمنها أعمال أمير الشعراء الروس بوشكين. وتومانيان أحد أكبر الأدباء الأرمن وكان أول من استخدم الحكايات الشعبية أساسا لأعماله الأدبية، وقد عاش في روسيا فترة وتوفي في موسكو عام 1923». ويضيف الخميسي: «نشأ السرد الأرمني تحت تأثير الأدب الروسي، وخير مثال على ذلك رواية (بلاد ناييري) المؤلفة من 3 أجزاء التي تعد حجر الأساس في الرواية الأرمنية. وقد سافر مؤلفها في مطلع حياته إلى روسيا وتأثر بما قرأه هناك».
وتسلط مجموعة «على نهر الفرات» الضوء على الإنسان الأرمني الذي عاش في مجتمعاتنا العربية سنوات طويلة كما قدم إسهامات هامة تحديدا في تاريخ مصر الحديث، بدأت منذ العصر الفاطمي ولا تزال مستمرة حتى الآن في مجالات الصحافة والفن والسينما وغيرها.
ويشير د. نوفل نيوف في مقدمة المختارات إلى أن «الثقافة الأرمنية عرفت خلال تاريخها الطويل مراحل مختلفة من التطور.. فعلى تخوم القرنين (19 و20) الماضيين واكب الشعر الأرمني مسار تيارات العصر الحديث على اختلافها، فتمثل ذلك في إبداع مجموعة من الشعراء يضع الباحثون في طليعتهم 3 وهم: يوهوفانيس هوفانبسيان (1864 - 1929)، أوفانس تومانيان (1869 - 1923) وأفيتيك إساهاكيان (1875 - 1957) الذي كثيرا ما يشيد النقاد بملحمته الشعرية «أبو العلاء المعري». وحول النثر الأرمني برافديه القصة والرواية؛ يشير نيوف إلى أن أعلامه كُثر وأبرزهم: ألكساندر شيرفانزاديه، وفرتانيس بابازيان - نا وغيرهما.



جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.