فيما يعول النظام السوري وداعموه الدوليون، خصوصاً روسيا، على الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في سوريا الشهر القادم من أجل «إعادة تعويم» الرئيس الأسد الذي سيفوز حكماً بولاية إضافية من سبع سنوات، داخلياً وإقليمياً ودولياً، يضيق الخناق القضائي على النظام في الخارج الذي أخذت تحاصره الدعاوى أمام المحاكم الغربية. وآخر ما استجد، الدعوى التي قُدمت (الاثنين) أمام المحكمة الجنائية في باريس ضد النظام بتهمة ارتكابه «جرائم حرب» وجرائم ضد الإنسانية لاستخدامه السلاح الكيماوي وتحديداً غاز السارين صيف العام 2013 في هجمات ضد مدينة دوما والغوطة الشرقية المجاورة لدمشق العاصمة. ومقدمو الشكوى ثلاث منظمات غير حكومية هي «المركز السوري للإعلام وحرية التعبير» و«أوبن سوسايتي جاستيس إنيشيتيف» و«الأرشيف السوري». وغرض الدعوى التي تستند إلى ملف متكامل من الشهادات والصور، تحديد الجهات والأشخاص المسؤولين عن استخدام السلاح الكيماوي الممنوع دولياً وسوقهم أمام المحاكم. وهذه المرة الأولى في فرنسا التي تقدَّم فيها شكوى ضد النظام بسبب «الكيماوي»، والثانية في أوروبا بعد ألمانيا، حيث قُدمت دعوى مماثلة «مضافة إليها هجمات خان شيخون في عام 2017» إلى النيابة الفيدرالية من المنظمات غير الحكومية نفسها في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، استناداً إلى القانون الألماني الذي يتيح هذا النوع من الشكاوى.
ترى محامية الادعاء جان سولزير وزميلتها كليمانس ويت، أن القانون الفرنسي الجنائي يجيز تقديم الشكوى وأن العناصر المادية المتوافرة والسياق الذي حصلت في إطاره الهجمات الكيماوية والشهادات والقرائن تمكّن من تأكيد أن ما جرى هي «جرائم حرب» و«جرائم ضد الإنسانية». وحسب سولزير، فإن الهجمات التي حصلت على دفعتين في أغسطس (آب) من عام 2013 تَبين أنها «جزء من مخطط منظم غرضه ترهيب المدنيين الذين يعارضون النظام» السوري. ووفق مازن درويش، مدير «المركز السوري للإعلام» والناشط في حقل حقوق الإنسان، فإن ما شهدته دوما والغوطة الشرقية «ليس عملاً معزولاً أو حصل خطأً بل ممارسة ممنهجة» درج عليها النظام. وقال ستيف كوستاس، محامي «أوبن سوسايتي»، إن الجهة المدّعية «تطلب من قاضي التحقيق الفرنسي القيام بالتحقيقات بالتعاون مع المدعي الفيدرالي الألماني». ويريد المدعون، أبعد من ذلك، الطلب من العواصم المهتمة أن تعمل من أجل إقامة «محكمة دولية خاصة» لمحاكمة المسؤولين عن استخدام السلاح الكيماوي في سوريا ليس فقط في دوما والغوطة بل في كل أنحاء سوريا وفي سنوات الحرب كافة.
للمرة الأولى إذن، تم اختيار فرنسا لملاحقة النظام السوري من الباب «الكيماوي» بالنظر إلى ما يتيحه قضاؤها المتمتع بما تسمى «الأهلية عابرة للحدود». وطلبت الهيئات الثلاث المدعية تعيين قاضٍ للتحقيق في هجمات عام 2013. وتستند الشكوى، وفق مقدميها، إلى شهادات «من أشخاص من داخل الجهاز الأمني للنظام سابقاً» ومن ناجين من المذبحة «الكيماوية» التي ضربت الغوطة، وهي بالتالي تتضمن وصفاً دقيقاً لما حصل، منددةً بنهجٍ تحوَّل إلى استراتيجية هدفها انتزاع المناطق والأراضي التي كانت تسيطر عليها المعارضة المسلحة. ويريد المدّعون من التحقيق كذلك، تحديد تسلسل المسؤوليات عن هذه الهجمات التي تضاف إلى سجل كثيف من انتهاكات حقوق الإنسان والتعذيب والخطف والإخفاء القسري والقتل والممارسات الأخرى كافة. ونقلت صحفة «لوموند» المستقلة، في طبعتها ليوم أمس، عن المحامية سولزير إشارتها إلى أن فرنسا منذ عام 2013 تصدرت مجموعة الدول التي تسعى لمنع اللجوء إلى السلاح الكيماوي ولذا «سيكون مستغرباً محاولة عرقلة الشكوى المقدمة» ضد النظام السوري في هذا السياق، مضيفةً أن باريس فرضت عقوبات على النظام السوري وسعت من خلال اقتراح تعديلات لعمل منظمة حظر استخدام الأسلحة الكيماوية إلى تمكينها من تحديد الجهات التي تلجأ إليها وليس فقط التحقق من استخدامها. يضاف إلى ذلك أن باريس أطلقت مبادرة «الشراكة الدولية لمحاربة الإفلات من العقاب» لمن يلجأ إلى «الكيماوي»، فيما شدد الرئيس ماكرون، أمام الجمعية العالمة للأمم المتحدة، «عزم بلاده الذي لا يلين» في محاربة وملاحقة مَن يستخدم هذا السلاح الممنوع دولياً. وتدفع باريس بمشروع قرار يحظى بدعم ما لا يقل عن أربعين دولة أمام المنظمة الدولية التي مقرها مدينة لاهاي الهولندية، يهدف إلى حرمان سوريا من حقوقها داخل المنظمة بسبب لجوئها المتكرر إلى السلاح الكيماوي. وكان الاتفاق الروسي - الأميركي لعام 2013 قد نصّ على انضمام سوريا إلى المنظمة. وستتم مناقشة المشروع الفرنسي في أول اجتماع للمنظمة.
ويرى كثير من المعنيين بالشأن السوري أنها كانت «فاصلة» في الحرب السورية. وللتذكير، فإن الرئيس الأميركي بارك أوباما، بعد أن كان قد عدّ اللجوء إلى السلاح الكيماوي «خطاً أحمر»، تراجع عن قرار ضربة عسكرية ضد النظام، وكذلك فعلت بريطانيا، وبقيت فرنسا وحيدة في الميدان، الأمر الذي دفع الرئيس فرنسوا هولاند بدوره إلى التخلي عن خطط مهاجمة مطارات ومواقع عسكرية أخرى للنظام. وطُوي الملف بعد الاقتراح الروسي بنزع كامل سلاح الأسد الكيماوي بإشراف منظمة حظر استخدام السلاح الكيماوي.
الهجمات موضع الدعوى في فرنسا وألمانيا حصلت على دفعتين: الأولى، في 4 و5 أغسطس، استهدفت عدار ودوما وأوقعت 450 جريحاً. والأخرى ليل 20 - 21 من الشهر نفسه وحصدت ما لا يقل عن ألف قتيل وعدة آلاف من الجرحى وتعد الأكثر دموية في تاريخ الحرب السورية. بيد أنها لم تكن الأخيرة، إذ حصل مثلها لاحقاً ومنها الهجوم الكيماوي المزدوج الذي ضرب اللطامنة الواقعة في ريف حماة، في الشمال السوري في ثلاث هجمات حصلت في 24 و25 و30 مارس (آذار) عام 2017، حيث أُسقطت قنابل تحتوي غاز السارين والكلور. وبطبيعة الحال، نفت الحكومة السورية هذا الأمر بحجة أن مخزونها الكيماوي دُمّر تماماً. وحسب التحقيق الذي أجراه فريق تابع للمنظمة الدولية ونُشر في 8 أبريل (نيسان) من العام الماضي، فإن سلاح الجو السوري «طائرتان حربيتان وطوافة» هو المسؤول عن الاعتداء الكيماوي على اللطامنة والذي قصف عدة أهداف منها مستشفى المدينة.
ولا يستبعد المتقدمون بالشكوى في ألمانيا وفرنسا أن يفعلوا الشيء نفسه في بلدان أخرى تتيح قوانينها القيام بذلك. لكنّ الغرض الأسمى الذي يتمنون حصوله هو قيام محكمة خاصة مهمتها فقط النظر في الملف الكيماوي السوري. لكنّ شيئاً كهذا دونه عقبات ليس أسهلها كيفية تمريره في مجلس الأمن الدولي، حيث يرجح بقوة أن يجهضه الفيتو الروسي المكسوب للنظام. لكن يبقى أن تحريك هذا الملف سيفاقم الضغوط على النظام وأن الطرف الأميركي يسهم في ذلك أيضاً.
دعوى قضائية في باريس ضد النظام السوري لاستخدامه «الكيماوي»
ضغوط للدفع باتجاه تشكيل محكمة دولية خاصة
دعوى قضائية في باريس ضد النظام السوري لاستخدامه «الكيماوي»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة