أفلام مخرجين صنعت السينما

تنتمي لثقافات مختلفة وتعكس أحداثاً إنسانية فارقة

أفلام مخرجين صنعت السينما
TT

أفلام مخرجين صنعت السينما

أفلام مخرجين صنعت السينما

يلقي الناقد السينمائي سمير فريد الضوء على مجموعة من المخرجين والأفلام التي قدموها، وكيف كسروا من خلالها هيمنة السينما الأمريكية وتمردوا عليها، وذلك عبر تجارب مدهشة تنتمي إلى ثقافات وبلدان مختلفة... الكتاب بعنوان «مخرجون واتجاهات في سينما العالم». وكان المؤلف قد دفع الكتاب للطباعة، لكن لم ينشر إلا بعد رحيله عام 2017، وأصدرته مجدداً الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة بمصر ضمن سلسلة «آفاق السينما».

«الندم» من الاتحاد السوفياتي السابق

يستهل سمير فريد كتابه بالحديث عن فيلم «الندم» للمخرج الروسي تنجيز أبولادزي الذي فاز بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان «كان» 1987، مشيراً إلى أنه أحد أهم الأفلام في السينما المعاصرة، ولم تكن صدفة أن اختير من بين كل الأفلام الممنوعة التي تنتمي لحقبة الاتحاد السوفياتي والتي صرح بعرضها في عهد الرئيس جورباتشوف.
وقد ولد أبولادزي في جورجيا وتخرج في معهد السينما عام 1952، وعبر 32 سنة أخرج 5 أفلام قصيرة و6 أفلام طويلة؛ منها «مكاننا» و«فرقة جورجيا» و«قلادة من أجل حبيبتي» و«الندم» 1984، كما فازت أفلامه بـ11 جائزة دولية؛ أولاها السعفة الذهبية لأحسن فيلم قصير في مهرجان كان 1956 عن فيلم «روج ماجدان». وحول خصوصية عالمه الفني تقول الناقدة السوفياتية لاتافراد ولايدزي: «إنها ليست مجرد أعمال فنية، لكنها أحداث ثقافية لا تعكس فقط اتجاهات الرسم والموسيقى والأدب، بل العمارة، لكنها تمهد الأرض لمزيد من التطور في الفنون».
تدور أحداث «الندم» عن عمدة مدينة ما في مكان ما. إنه ديكتاتور وطاغية يدعى «فارلام أرافيدزي»، من بين من يضطهدهم رسام يدعى شاندور باراتيللي هو وزوجته نينو لأنهما يقاومان طغيانه، خصوصاً عندما يتعرض المعبد القديم للخطر بإنشاء مصنع داخله. وإزاء رفض الفنان وزوجته الخضوع لفارلام يعتقلهما ويأمر بتعذيبهما فيموتان، من التعذيب وتقرر كتفيتان ابنتهما الانتقام لوالديها. يشير الفيلم إلى قضية الطغيان السياسي، ففارلام له وجه الديكتاتور السوفياتي ستالين وشارب هتلر وملابس موسوليني السوداء، فضلاً عن حبه لإلقاء الخطب من الشرفات المطلة على الميادين الفسيحة. ويبرز التطابق بين فارلام وستالين من خلال مكتبه الخشبي الذي يشبه مكتب ستالين كما نراه في الأفلام التسجيلية.

«معسكر» من السنغال

وعن عثمان سمبين الكاتب والروائي السنغالي، يرى سمير فريد أنه له الفضل في تحويل لغته الوطنية «الولوف» إلى لغة للأدب عبر إحيائها من جديد بعد سنوات من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني الذي عمل على إفناء اللغة الوطنية في السنغال، كما فعل في الجزائر بالنسبة للغة العربية. وقد ترجمت بعض رواياته أخيراً إلى العربية في بيروت.
أخرج سمبين أفلاماً قصيرة تسجيلية وقصصية منذ عام 1963 إلى 1972، كما أخرج ستة أفلام روائية منها «فتاة سوداء»، و«اللامنتمي»، و«معسكر تيروي»، الذي أخرجه وكتبه مع ثير نوفاتي سو وصوره إسماعيل الأخضر حامينا ابن المخرج الجزائري المعروف محمد الأخضر حامينا، ويعبر الفيلم عن ذروة نضج مبدعه، ويعد درة التاج في السينما الأفريقية 1988.
يبدأ فيلم «معسكر تيروي» بمشهد مؤثر للحظة وصول القوات الأفريقية التي كانت تقاتل في فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية إلى ميناء داكار، ثم ترحيل هذه القوات إلى معسكر تيروي، وهو معسكر انتقالي قبل أن يعود كل مقاتل لبلدته. كانت هذه القوات من عدة دول كالسودان والسنغال وساحل العاج وتوغو والغابون. أفرادها مرهقون، ينتابهم إحساس خفي بالفرح، لكنه مكبل تحت مشاعر أخرى متناقضة أبرزها الخوف من المجهول. ورغم تشابه أحداث القصة مع عدد من الوقائع الحقيقية في حياة المخرج، فإنها ليست سيرة ذاتية للفنان، فهو لم يذكر اسمه في الحوار غير مرة واحدة على سبيل السخرية. ويأتي العمل بشكل عام كتعبير درامي عن العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب، أو بالأحرى بين العرب والأفارقة من جانب، والغرب الاستعماري من جانب آخر.
ومن أجمل مشاهد الفيلم، وأكثرها إبداعاً مشهد «دياتا» وهو يدخل أحد مقاهي الحي الفرنسي في داكار ويضع ربطة العنق الخاصة بالجنود الأميركيين حتى تتصور صاحبة المقهى أنه أميركي، تحديداً أميركي أسود. وعندما تكتشف المرأة التي يبدو أنها تدير نشاطاً منافياً للآداب، أنه سنغالي تصيح: النجدة هنا رجل أسود!
ويوضح المؤلف أن المعنى هنا أن الأميركي الأسود ليس أسود، وإنما هو أميركي بالنهاية، أما السنغالي فهو أسود لأنه سنغالي.

«أناس الأرز» من كمبوديا

ويستعرض الكتاب فيلم «أناس الأرز» أول فيلم من كمبوديا يعرض في مسابقة مهرجان «كان»، كما أنه أول فيلم روائي لمخرجه ريتي بان في الوقت نفسه، حيث يثبت بهذا العمل أنه صاحب موهبة حقيقية ورؤية مختلفة. اعتقل ريتي عام 1975 وهو في الحادية عشرة من عمره عندما استولى «الخمير الحمر» على الحكم في بلاده، لكنه تمكن من الهرب إلى فرنسا 1979 وحصل على اللجوء السياسي ودرس في معهد «ايديك»، وأخرج ثلاثة أفلام تسجيلية قبل أن يخرج فيلمه الروائي الأول «أناس الأرز».
أخذ ريتي سيناريو «أناس الأرز» عن رواية معروفة للكاتب الماليزي شانون أحمد، لكن بينما تدور الرواية في قرية من قرى ماليزيا وعن سكان من المسلمين غيّر ريتي المكان من ماليزيا إلى كمبوديا وجعل سكانها من البوذيين وهم الأغلبية الساحقة في كمبوديا. وهذا التغيير منطقي تماماً لأنه يريد أن يصنع فيلماً عن الأرض التي ينتمي إليها والشعب الذي يعرفه.
ويشير فريد الى أن قصة الفيلم نموذجية بمعنى أنها لا تتضمن كثيراً من الأحداث الدرامية، وبذلك تعطي الفرصة للتعبير بمفردات اللغة السينمائية الخالصة. إنها قصة الفلاح بوف الذي يعيش مع زوجته في منزل صغير من منازل إحدى قرى كمبوديا، حيث يزرع الفلاحون الأرز ويعيشون على حصاده، كما أنه طعامهم المفضل إن لم يكن الوحيد إلى جانب الأسماك التي يصطادونها من النهر.
يعاني بوف من الفقر مثل غيره من الفلاحين، ولكنه يعاني أيضاً من كثرة أطفاله وكلهن من البنات، ويجاهد الرجل ليل نهار وتعاونه زوجته، لكنه يمرض ويموت وتحاول أرملته أن تحل محله، لكنها تفشل وتفقد عقلها وتحاول الابنة الكبرى سوكا أن تحل محل والديها وتراعي أخواتها وتستمر الحياة بصعوبة هائلة.
ويلفت المؤلف إلى أن الفيلم مثل كل الأفلام السينمائية الكبيرة لا يطرح معانيه من خلال الأحداث، وإنما أساساً من خلال أسلوبه في التعبير عنها، وهو أسلوب واقعي كلاسيكي صارم يقوم على التناسق والاتزان في التكوين والإيقاع والسيطرة التامة على أحجام اللقطات والعلاقة بين الصوت والصورة.

«مناخات» من تركيا

وفي حديثه عن السينما التركية، يستشهد سمير فريد بقول لنجيب محفوظ: «إن فناناً سينمائياً واحداً كبيراً يكفي لوضع السينما المصرية أو أي سينما على خريطة الفن السابع في العالم»، وهو يذكر هذا القول عند مشاهدته فيلم فنان السينما التركي نوري بلجي سيلان الذي عرض في مهرجان 2006 عام وعنوانه «مناخات» إنتاج فرنسي - بلجيكي مشترك. ويقول فريد إن سيلان، هو أول مخرج يضع السينما التركية على خريطة السينما العالمية منذ الراحل يلماظ جوناي الذي فاز بالسعفة الذهبية 1982 عن فيلمه «الطريق». لكن بينما كان جوناي مخرجاً واقعياً، فإن سيلان مخرج ذاتي الطابع إذا صح التعبير، فهو ينتمي إلى صناع «سينما التأمل» مثل المصري شادي عبد السلام والتونسي ناصر خمير والسويدي المعلم الأكبر إنجمار برجمان والروسي أندريه تاركوفسكي، حيث يتم التعبير بلغة السينما وحدها وليس بترجمة السيناريو من لغة الأدب إلى لغة الشاشة، حيث يستحيل التعبير عن معانيه إلا بلغة السينما. لا شيء يحدث بالمعنى الدرامي التقليدي بين الأستاذ الجامعي عيسى وزوجته «بحر» مصممة الديكور في التلفزيون. الفيلم يبدأ وهما في إجازة صيف في مدينة كاس، ومن خلال المسافات التي تفصل بينهما في الكادرات ونظرات كل منهما التي نراها بمعزل عن نظرات الآخر ندرك أن العلاقة بينهما كزوجين قد تحطمت. «إننا لا نعرف أسباباً محددة لذلك. هناك إشارة إلى فارق السن بينهما، ولكن لا تبدو هذه هي المشكلة الحقيقية من خلال السياق. إنها المسافات بين البشر والذاتية التي تجعل كل إنسان وحيداً في عالمه الداخلي».



فيلم إسرائيلي مرشح للأوسكار يثير تعاطفاً مع الفلسطينيين ويزعج الحكومة

خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
TT

فيلم إسرائيلي مرشح للأوسكار يثير تعاطفاً مع الفلسطينيين ويزعج الحكومة

خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)

يأمل مخرج فيلم إسرائيلي مرشح لجوائز الأوسكار لعام 2026 ويجسد رحلة فتى فلسطيني يسعى لرؤية البحر أن يسهم العمل السينمائي في إيقاظ التعاطف داخل إسرائيل وسط العديد من الحروب.

وقليلاً ما بدت آفاق السلام الدائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين أكثر قتامة مما هي عليه الآن، وذلك بعد الهجوم الذي قادته حركة «حماس» الفلسطينية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحرب غزة التي استمرت عامين وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية.

لكن المخرج والكاتب شاي كارميلي بولاك شعر بالارتياح بعد الترحاب الذي حظي به فيلمه «البحر» وبعد حصوله على أهم جائزة سينمائية في إسرائيل، ما أدى إلى ترشيحه تلقائياً للتنافس على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، والتي سيجري إعلان الفائز بها في مارس (آذار) المقبل.

وقال كارميلي بولاك في مقابلة خلال الأسبوع الحالي عقب عرض الفيلم: «التقيت بالجمهور الذي حضر لمشاهدة الفيلم، أدهشني تعاطفهم وبكاؤهم في بعض الآحيان بسبب قصة الفيلم حيث وقعت أعمال عنف وفظائع في مكان ليس بعيداً عن هنا».

ويروي فيلم «البحر» قصة خالد، وهو فتى فلسطيني يقطن في الضفة الغربية المحتلة يخشى أن يكبر دون أن يرى البحر، فيخوض رحلة محفوفة بالمخاطر وحيداً ودون أوراق سفر إلى إسرائيل سعياً لبلوغ الشاطئ.

ومُنع خالد قبلها عند نقطة تفتيش من استكمال رحلة مدرسية متجهة إلى البحر، ويؤدي اختفاؤه المفاجئ من المنزل إلى مخاطرة والده، وهو عامل غير موثق في إسرائيل، بالتعرض للاعتقال من خلال بدء عملية البحث عنه.

ووفق وكالة «رويترز» للأنباء، حصل «البحر» على جائزة أفضل فيلم في حفل توزيع جوائز «أوفير» في سبتمبر (أيلول) الماضي، وهو أمر قوبل بتنديد وزير الثقافة ميكي زوهر، الذي سحب تمويلاً للحفل بسبب الصورة التي جسدها الفيلم للجيش الإسرائيلي.

بوستر فيلم «البحر»

وأصبحت حكومة إسرائيل منذ عام 2022 أكثر الحكومات يمينية في تاريخها، وتعارض بشدة قيام دولة فلسطينية وتتمسك بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية.

«التعاطف والحب»

وأدى الهجوم الذي قادته «حماس» عام 2023 على إسرائيل، وأسفر عن مقتل أكثر من 1200 شخص، إلى تشدد مواقف كثير من الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين وجعل انتقاد الجيش مسألة أكثر حساسية.

وقال كارميلي بولاك وباهر إغبارية، وهو منتج إسرائيلي فلسطيني للفيلم، إن من المهم صنع أفلام تساعد الناس على سماع قصص بعضهم بعضاً.

وقال كارميلي بولاك لـ«رويترز»: «تنتابني حالة من الأمل أن يفتح الفيلم قنوات جديدة من التعاطف والحب، وأن يقدم سبلاً جديدة تمكننا من العيش معاً في هذا المكان».

وقال إغبارية إن عرض قصة فلسطينية في دور السينما الرئيسية في إسرائيل بدا أمراً مُدهشاً في ظل أجواء الحرب.

وأضاف: «بسبب ما يجري، فهذا هو الوقت المناسب أيضاً لهذا الفيلم... لهذا النوع من القصص، من أجل الإصغاء لقصص الآخرين».

وأُطلق الفيلم في دور السينما بإسرائيل في يوليو (تموز) ولا يزال يُعرض حتى الآن.

وفي حفل توزيع جوائز الأوسكار لعام 2025، أُعلن فوز الفيلم الإسرائيلي الفلسطيني «لا أرض أخرى» بجائزة أفضل فيلم وثائقي، ما أثار غضب الحكومة الإسرائيلية. ويتناول الفيلم قصة تهجير إسرائيل لمجتمع فلسطيني في الضفة الغربية.

وقال كارميلي بولاك، وهو ناشط معني بالسلام منذ فترة طويلة، إنه على الرغم من رغبة الحكومة في ألا يمثل إسرائيل، لكنه يشعر بالفخر كونه جزءاً من مجتمع صناع الأفلام الذين اختاروا تكريم «البحر».

وأضاف: «أمثل كل الشعوب، مثل الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين يتطلعون إلى إحلال السلام والمساواة والعيش معاً بطريقة تختلف عن الطريقة التي تنتهجها هذه الحكومة».


صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي
TT

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

إذا كان الاحتفاء بالجمال بوجوهه وتعبيراته المختلفة سمة مشتركة بين الشعوب والحضارات، فلم يكن العرب الأقدمون بعيدين عن هذا الاحتفاء أو بمنأى عنه. لا بل إن ظروف حياتهم القاسية، واتساع المكان الصحراوي المفتقر إلى الماء، جعلاهم يرون في الجمال الأنثوي المياه الرمزية التي تعصمهم من العطش، والواحة الظليلة التي ترد عنهم وحشة المتاهات ووطأة الشموس الحارقة.

وفي ظل الشروط القاسية للحياة الصحراوية القائمة على الترحل وفقدان الأمان والصراع من أجل البقاء، كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا، كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية، بل بدا النموذج الجاهلي للجمال متصلاً بالمنفعة والحياة العملية، أكثر من اتصاله بمعايير الجسد المثالي والمتناغم الأجزاء.

وقد عكس الشعر الجاهلي في الكثير من نصوصه أشكال التضافر الخلاق بين الجغرافيا الصحراوية وجغرافيا الجسد، بما جعل من الثانية امتداداً الأولى، وإحدى تمثلاتها الحية التي تظهر في طرائق العيش وأنماطه، وفي البحث عن طريقة للتكيف مع البيئة القاسية والمفتقرة إلى الثبات. لذلك فإن مواصفات الصبر والجلد والقدرة على الاحتمال، لم تكن من الأمور التي ينبغي توفرها في الرجال وحدهم، أو في الأنعام بمفردها، بل كان مطلوباً من المرأة أيضاً أن تمتلك صفات مماثلة، تستطيع من خلالها أن تساعد الجماعة القبلية على مواجهة مخاطر العيش ومشقات الترحل وأهوال الحروب.

ولأن مثل هذه المهمات الصعبة لا تنهض بها إلا امرأة صلبة العود ومتينة الجسد، فقد بدا تفضيل الجاهليين للمرأة السمينة وتغزلهم بها، متصلاً بمعايير مركبة، يشكل الجمال البحت جزءاً منها، فيما يشكل العامل النفعي والوظيفي بعدها الآخر. وكان العرب يعتبرون أن «السُّمن نصف الحسن»، ويصفون السمينة بخرساء الأساور، لأن بدانتها تمتد إلى الرسغ فلا ترتطم إسوارة بالأخرى.

كما انتقلت عدوى التغزل بالمرأة السمينة إلى الشعر، فاعتبر طرفة بن العبد أن تعلقه بالحياة يجد مسوغاته في الارتباط بامرأة سمينة، يختلي بها في ظلمة «الخباء المعمد»، وتسهم في تقصير ليله المثقل بالوحشة والخوف. أما امرأة عمرو بن كلثوم فهي من الضخامة بحيث «يضيق الباب عنها». والملاحظ أن معظم المواد التعبيرية التي تم توظيفها للتغزل بجمال المرأة المعشوقة كانت منتزعة من العالم المشترك الذي يتضافر لإحيائه البشر والبهائم والطير ونباتات الصحراء. ومع أن ثمة وجوهاً عديدة للتقاطع بين البيئتين الحضرية والبدوية، من حيث الفضاء التخييلي، فإن النصوص التي قدمها الشعراء الحضريون، كانت أكثر جرأة في التركيز على التفاصيل المختلفة للجسد المشتهى.

لعل قصيدة «سقط النصيف» التي نظمها النابغة الذبياني في وصف المتجردة، زوجة النعمان بن المنذر، هي أحد أكثر النماذج الشعرية تعبيراً عن مواصفات الجمال في تلك الحقبة، فهي كالغصن الطويل تتأود من النعمة، وعيناها الشبيهتان بعيني الغزال جارحتا الألحاظ كالسهام، وشعرها أسود ومدلى كعناقيد العنب، وفمها بارد عذب، ونحرها الأملس مزين بقلائد الذهب. كما أنها «بضة الجسم، ريّا الروادف، وغير واسعة البطن».

على أن طغيان الطابع الحسي على النصوص الجاهلية المتعلقة بالحب والجمال لم يحل دون عثورنا على بعض اللقى الثمينة، التي تتقاطع في غرابتها وعمقها مع كشوفات علم النفس الحديث، كأن يعتبر الشنفرى أن الجمال في مآلاته القصوى، قد لا يتسبب بجنون عشاقه فحسب، بل بجنون حامله في الوقت ذاته، كما في قوله:

فدقّتْ وجلّتْ واسبكرّتْ وأكملتْ

فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنّتِ

وإذا كانت معايير الجمال قد بدأت بالتبدل في العصرين الأموي والعباسي، بحيث باتت متصلة بالرشاقة وطول القوام، والتناسب أو التضاد بين أعضاء الجسد، كاستحسان ضمور الخصر واكتناز الأرداف، فقد كان ذلك التبدل من مفاعيل الحياة الجديدة والاجتماع المديني وتمازج الثقافات.

كما لم تعد معايير الجمال مقتصرة على المفاتن الظاهرة وحدها، بل كان يُراعى فيها الجاذبية وقوة الحضور والدماثة وخفة الظل، بحيث ميز العرب بين الجمال والملاحة والحسن والحلاوة والوسامة والبهاء وغيرها. وقد ذكر أبو الفرج في «الأغاني» أن كلاً من سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وهما من جميلات العرب، كانت تدعي أنها أجمل من الأخرى، وحين احتكمتا إلى عمر بن أبي ربيعة ليبت في الأمر، نظر إليهما ملياً وقال: «أنت يا عائشة أجمل، وأما سكينة فأملح». وإذ عنى عمر بالملاحة الرقة وخفة الروح، فقد أرضى المرأتين في الوقت ذاته.

وإذا كان في القصيدة «اليتيمة» المنسوبة إلى دوقلة المنبجي، ما يتناول الجسد الأنثوي بالوصف المفصل، فلأنه لم يكن باستطاعة المنبجي، الذي لم يكن قد رأى دعداً، أميرته الموعودة، إلا أن يرسم من عندياته تفاصيل النموذج الجمالي المثالي، مستعيناً بالتصورات الأولى التي رسمها الشعراء الجاهليون في مخيلاتهم. ومن بين أبياتها قوله:

فكأنها وسْنى إذا نظرتْ أو مدْنفٌ لمّا يفقْ بعدُ

وتُجيلُ مسواكَ الأراك على ثغرٍ كأنّ رضابهُ الشهدُ

ولها بنانٌ لو أردتَ لهُ عِقْداً بكفكَ أمكن العقدُ

وبخصرها هَيَفٌ يحسّنها فإذا تنوء يكاد ينقدُّ

اللافت أن من سمُّوا بالشعراء الإباحيين في العصر الأموي، لم يعمدوا إلى تناول الجمال الأنثوي على نحو سافر ومتهتك، لا بل إن ما تغزلوا به من ملامح المرأة ومفاتنها لا يتجاوز إلا قليلاً نطاق عمل العذريين ومجالهم الجمالي الحيوي كوصف الثغر والعنق والعينين والشعر والخصر. وقد تكون الفوارق بين الفريقين متمثلة في إلحاح الإباحيين على نقل وقائع غزواتهم العاطفية بتفصيلاتها وحواراتها الساخنة، إضافة إلى تبرمهم بالعلاقة الواحدة وبحثهم عن الجمال في غير نموذج ومثال، وهو ما يعكسه قول عمر:

إني امرؤ موكلٌ بالحسن أتبعهُ

لا حظَّ لي فيه إلا لذة النظرِ

كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية

الأرجح أن مناخات الحرمان والكبت وتعذر الامتلاك قد أسهمت في مضاعفة سلطة الجمال الأنثوي على العاشق العذري، بما جعل الأخير يترنح مصعوقاً تحت ضرباته القاصمة. وقد ورد في غير مصدر تراثي أنه «قيل لامرأة من بني عذرة: لماذا يقتلكم العشق؟ فأجابت: فينا جمال وتعفف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإنا نرى عيوناً لا ترونها».

ولعل تلك العيون بالذات هي التي استطاع العشاق أن ينفذوا من خلالها إلى ما وراء الملامح الظاهرة لمعشوقاتهن، وتزين لهن نوعاً من الجمال مطابقاً للنموذج المثالي الذي ابتكرته مخيلاتهم. وليس أدل على ذلك من سؤال عبد الملك بن مروان لبثينة حين قامت بزيارته: ما الذي رآه فيك جميل حتى أحبك؟ فأجابته قائلة: «يا أمير المؤمنين، لقد كان يراني بعينين ليستا في رأسك». ومع أن الحادثة المذكورة تُروى على غير وجه، فإن ذلك الأمر لا يلغي دلالتها المتلخصة بأن الجمال نسبي وحمال أوجه، وخاضع لذوق الرائي ومشاعره وتهيؤاته.

ومع ما أصابته الحقبة العباسية من تطورات دراماتيكية على مستويات الثقافة والفكر والاجتماع، فقد بدأت الرؤية إلى الجمال تتعدى المتعة والانتشاء الحسي، لتتحول إلى أسئلة فلسفية معقدة تتصل بطبيعة الجمال ومصدره وأسباب سطوته على «ضحاياه». وهو ما يجد شاهده الأمثل في حيرة ابن الرومي إزاء جمال وحيد المغنية، وقوله متسائلاً:

أهي شيءٌ لا تسأم العين منه

أم لها كل ساعةٍ تجديدُ؟

أما أبو الطيب المتنبي فقد بدا لبيته الشهير في وصف امرأته المعشوقة (تناهى سكون الحسن في حركاتها/ فليس لرائي وجهها، لم يمت، عذرُ»، نوعاً من التوأمة الفريدة بين الحيّزين الشعري والفلسفي، حيث الحركات المتناغمة للجسد تصل بالجمال إلى سكونه المطلق، والمقيم على التخوم الفاصلة بين الحياة والموت. وإذ رأى أبو الطيب أن في الأعمار القصيرة للبشر الفانين، ما يوجب اغتنام الحياة كفرصة ثمينة للتمتع بجمال الوجود والوجوه، هتف بحبيبته، الممعنة في جمالها ونأيها على حد سواء:

زوّدينا من حسْن وجهكِ

ما دام فحسْنُ الوجوه حالٌ يحولُ

وصِلينا نصلْكِ في هذه الدنيا

فإنّ المقام فيها قليلُ


3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
TT

3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة

خرجت من مقابر البحرين الأثرية خلال السنوات الأخيرة مجموعة كبيرة من الأنصاب، تتميّز بنقوش تصويرية آدمية. لا نجد ما يماثل هذه الأنصاب في حواضر سواحل الخليج العربي إلى يومنا هذا، ويرى البحاثة أنها رُفعت في الأصل كشواهد للقبور التي رافقتها. بدأ اكتشاف هذه الشواهد في منتصف القرن الماضي، ومنها 3 قطع عُثر عليها في مواقع معزولة، دخلت متحف البحرين الوطني بالمنامة، ضمن مجموعة من المكتشفات التي تمّ العثور عليها خلال الفترة الممتدة من عام 1954 إلى عام 1974.

اختلفت الآراء في تصنيف هذه القطع كما في تحديد هويّتها ووظيفتها خلال تلك الفترة، غير أن الصورة اتّضحت بشكل كبير في مرحلة لاحقة، نتيجة ظهور عدد كبير من القطع المشابهة في سلسلة من المقابر الأثرية تقع اليوم في المحافظة الشمالية، كشفت عنها أعمال المسح والتنقيب المتواصلة في حقبة التسعينات. تحضر هذه القطع الثلاث في كتاب من إعداد مجموعة من البحاثة، صدر في عام 1989، وجاء على شكل كتالوغ حوى مجموعة مختارة من مجموعة محفوظات متحف البحرين الوطني، تعود إلى الحقب التي سبقت ظهور الإسلام. افترض البحاثة يومها أن هذه الأنصاب الآدمية قد تكون مسيحية، ورأوا أنها نُقشت بين القرنين الخامس والسادس للميلاد. ويتّضح في زمننا أن هذه الأنصاب هي شواهد قبور لا تمتّ إلى المسيحية بأي صلة، وهي من نتاج الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وقد تمّ نقشها بين القرنين الأول والثالث للميلاد.

تتفاوت هذه القطع في الحجم، وهي من الحجر الجيري، وأكبرها قطعة يبلغ طولها 41 سنتيمتراً، وعرضها 23.5 سنتيمتراً، وسماكتها 11 سنتيمتراً، وتمثّل قامة تنتصب بين عمودين يعلوهما قوس. العمودان مجردان من الزينة، ويكلّل كلّاً منهما تاج زُيّن بنقش على شكل حرف «إكس». أما القوس، فتعلوه 3 حزوز متوازية تأخذ شكل 3 أقواس ناتئة، يفصل بين كلّ منها شقّ غائر. وسط هذه المشكاة المتواضعة، تقف قامة آدمية تتبع في بنيتها تكويناً يبتعد عن محاكاة المثال الواقعي الحي. الرأس ضخم للغاية، والكتفان صغيرتان، والجسد قصير، وهو مكوّن من الصدر وأعلى الساقين فحسب. اللباس بسيط، قوامه معطف يلتفّ فوق رداء، وفقاً للزي اليوناني التقليدي. الوجه أنثوي، ويعلوه شريط يغلف الشعر على شكل حجاب. العينان لوزتان كبيرتان، فارغتان، وتخلوان من البؤبؤ. الأنف قصير، وهو على شكل عمود مستطيل بسيط ناتئ. الثغر منمنم، ويتّسم بشق أفقي يفصل بين شفتيه الذائبتين في كتلة الحجر الجيري.

تحجب ثنايا المعطف هذه القامة، وتنسدل بشكل متناسق من الأعلى إلى الأسفل. تنسلّ اليد اليمنى من خلف هذا الرداء، وترتفع كفّها المنبسطة نحو أعلى الصدر، وتظهر أصابعها الخمس المرصوصة والمتلاصقة. في حركة موازية، تخرج اليد اليسرى، وتبدو أصابعها قابضة على حزمة تشكّل كما يبدو طرف المعطف الأيسر. تتتبع هذه الحركة في الواقع تقليداً ثابتاً، يتكرّر في عدد كبير من القامات الأنثوية التي خرجت من مدافن تايلوس الأثرية التي عُرفت بأسماء القرى المجاورة لها، وأبرزها الشاخورة، وأبو صيبع، والحجر.

يظهر هذا التأليف على قطعة أخرى من هذه القطع الثلاث، مع اختلاف جليّ في التفاصيل. يبلغ طول هذا الشاهد 32 سنتيمتراً، وعرضه 21 سنتيمتراً، وسمكه 9 سنتيمترات. وهو على شكل كوّة نصف بيضاوية يحدّها في الأسفل شريط عريض يشكّل جزءاً من إطارها المجرّد من أي نقش تزييني. تقف قامة وسط هذا المحراب في وضعية المواجهة الثابتة، باسطة كفّها اليمنى أمام أعلى صدرها، ممسكة بقبضة يدها اليسرى طرف ردائها. نتوء هذه القامة طفيف، وصورتها أشبه برسم منقوش غابت عنه خصائص النحت البارز. يأخذ هذا الرداء شكل عباءة تلتف حول الهامة، وتتكوّن ثناياه من أربع مساحات مستطيلة متوازية، تقابلها ثلاث مساحات عمودية أصغر حجماً تزيّن طرف العباءة الأيسر. الوجه مهشّم للأسف، وما بقي منه لا يسمح بتحديد ملامحه. حافظت اليدان على تكوينهما بشكل كامل، وأصابعهما محدّدة وفقاً للأسلوب التحويري المتّبع.

نصل إلى القطعة الثالثة، هي أجمل هذه القطع من حيث التنفيذ المتقن، وتتميّز برهافة كبيرة في النقش والصقل. يبلغ طول هذا الشاهد 24 سنتيمتراً، وعرضه 10 سنتيمترات، وسماكته 7 سنتيمترات، يحدّه عمودان يعلوهما القوس التقليدي. يزيّن هذا القوس شق في الوسط، ويزيّن كلاً من العمودين مكعّب محدّد بشريطين يشكّل تاجاً له، ويقابل هذا التاج مكعّب مماثل يشكّل قاعدة لهذا العمود. تحتل القامة وسط هذا المحراب، وتمثّل شاباً فتياً أمرد يحضر كذلك في وضعية المواجهة. الرأس كتلة بيضاوية، وملامح وجهه واضحة. العينان لوزيتان مجرّدتان، يعلوهما حاجبان عريضان مقوّسان. الأنف ناتئ ومستقيم، وهيكله على شكل مساحة مستطيلة مجرّدة غابت عنها فتحتَا المَنْخِر. الأذنان ضخمتان، وقوام كل منهما صيوان عريض يلتف حول جوف القناة. الخدان مكتنزان، الذقن مقوّس، والجبين قصير، يعلوه شعر حدّدت خصلاته على شكل فصوص مستطيلة مرصوصة. الذراعان ملتصقتان بالصدر، واللباس بسيط، قوامه جلباب بسيط، يعلوه حزام عريض ينعقد حول الوسط على شكل شريط أفقي عريض يتدلّى منه شريطان عموديّان متوازيان، يشكّلان طرفي الحزام المعقود.

يقف هذا الفتى محدّقاً في الأفق، باسطاً راحة يده اليمنى عند أعلى صدره، قابضاً بيده اليسرى على شريط عريض يتدلّى من أعلى كتفه إلى وسطه، وفقاً لنموذج تقليدي يُعرف بالفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية الفرثية التي امتدت من الروافد الشمالية للفرات إلى شرق إيران، وتميّزت بنتاجها الفني الذي جمع بين أساليب متعددة في قالب خاص، انتشر انتشاراً واسعاً في القرون الميلادية الأولى. بلغ هذا الأسلوب تايلوس، وطبع هذا الفن الجنائزي، كما تشهد هذه القطع الثلاث التي تمثّل اليوم نتاجاً واسعاً، يتواصل ظهور شواهده مع استمرار حملات المسح في المواقع الأثرية التي خرجت منها.