أفلام مخرجين صنعت السينما

تنتمي لثقافات مختلفة وتعكس أحداثاً إنسانية فارقة

أفلام مخرجين صنعت السينما
TT
20

أفلام مخرجين صنعت السينما

أفلام مخرجين صنعت السينما

يلقي الناقد السينمائي سمير فريد الضوء على مجموعة من المخرجين والأفلام التي قدموها، وكيف كسروا من خلالها هيمنة السينما الأمريكية وتمردوا عليها، وذلك عبر تجارب مدهشة تنتمي إلى ثقافات وبلدان مختلفة... الكتاب بعنوان «مخرجون واتجاهات في سينما العالم». وكان المؤلف قد دفع الكتاب للطباعة، لكن لم ينشر إلا بعد رحيله عام 2017، وأصدرته مجدداً الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة بمصر ضمن سلسلة «آفاق السينما».

«الندم» من الاتحاد السوفياتي السابق

يستهل سمير فريد كتابه بالحديث عن فيلم «الندم» للمخرج الروسي تنجيز أبولادزي الذي فاز بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان «كان» 1987، مشيراً إلى أنه أحد أهم الأفلام في السينما المعاصرة، ولم تكن صدفة أن اختير من بين كل الأفلام الممنوعة التي تنتمي لحقبة الاتحاد السوفياتي والتي صرح بعرضها في عهد الرئيس جورباتشوف.
وقد ولد أبولادزي في جورجيا وتخرج في معهد السينما عام 1952، وعبر 32 سنة أخرج 5 أفلام قصيرة و6 أفلام طويلة؛ منها «مكاننا» و«فرقة جورجيا» و«قلادة من أجل حبيبتي» و«الندم» 1984، كما فازت أفلامه بـ11 جائزة دولية؛ أولاها السعفة الذهبية لأحسن فيلم قصير في مهرجان كان 1956 عن فيلم «روج ماجدان». وحول خصوصية عالمه الفني تقول الناقدة السوفياتية لاتافراد ولايدزي: «إنها ليست مجرد أعمال فنية، لكنها أحداث ثقافية لا تعكس فقط اتجاهات الرسم والموسيقى والأدب، بل العمارة، لكنها تمهد الأرض لمزيد من التطور في الفنون».
تدور أحداث «الندم» عن عمدة مدينة ما في مكان ما. إنه ديكتاتور وطاغية يدعى «فارلام أرافيدزي»، من بين من يضطهدهم رسام يدعى شاندور باراتيللي هو وزوجته نينو لأنهما يقاومان طغيانه، خصوصاً عندما يتعرض المعبد القديم للخطر بإنشاء مصنع داخله. وإزاء رفض الفنان وزوجته الخضوع لفارلام يعتقلهما ويأمر بتعذيبهما فيموتان، من التعذيب وتقرر كتفيتان ابنتهما الانتقام لوالديها. يشير الفيلم إلى قضية الطغيان السياسي، ففارلام له وجه الديكتاتور السوفياتي ستالين وشارب هتلر وملابس موسوليني السوداء، فضلاً عن حبه لإلقاء الخطب من الشرفات المطلة على الميادين الفسيحة. ويبرز التطابق بين فارلام وستالين من خلال مكتبه الخشبي الذي يشبه مكتب ستالين كما نراه في الأفلام التسجيلية.

«معسكر» من السنغال

وعن عثمان سمبين الكاتب والروائي السنغالي، يرى سمير فريد أنه له الفضل في تحويل لغته الوطنية «الولوف» إلى لغة للأدب عبر إحيائها من جديد بعد سنوات من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني الذي عمل على إفناء اللغة الوطنية في السنغال، كما فعل في الجزائر بالنسبة للغة العربية. وقد ترجمت بعض رواياته أخيراً إلى العربية في بيروت.
أخرج سمبين أفلاماً قصيرة تسجيلية وقصصية منذ عام 1963 إلى 1972، كما أخرج ستة أفلام روائية منها «فتاة سوداء»، و«اللامنتمي»، و«معسكر تيروي»، الذي أخرجه وكتبه مع ثير نوفاتي سو وصوره إسماعيل الأخضر حامينا ابن المخرج الجزائري المعروف محمد الأخضر حامينا، ويعبر الفيلم عن ذروة نضج مبدعه، ويعد درة التاج في السينما الأفريقية 1988.
يبدأ فيلم «معسكر تيروي» بمشهد مؤثر للحظة وصول القوات الأفريقية التي كانت تقاتل في فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية إلى ميناء داكار، ثم ترحيل هذه القوات إلى معسكر تيروي، وهو معسكر انتقالي قبل أن يعود كل مقاتل لبلدته. كانت هذه القوات من عدة دول كالسودان والسنغال وساحل العاج وتوغو والغابون. أفرادها مرهقون، ينتابهم إحساس خفي بالفرح، لكنه مكبل تحت مشاعر أخرى متناقضة أبرزها الخوف من المجهول. ورغم تشابه أحداث القصة مع عدد من الوقائع الحقيقية في حياة المخرج، فإنها ليست سيرة ذاتية للفنان، فهو لم يذكر اسمه في الحوار غير مرة واحدة على سبيل السخرية. ويأتي العمل بشكل عام كتعبير درامي عن العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب، أو بالأحرى بين العرب والأفارقة من جانب، والغرب الاستعماري من جانب آخر.
ومن أجمل مشاهد الفيلم، وأكثرها إبداعاً مشهد «دياتا» وهو يدخل أحد مقاهي الحي الفرنسي في داكار ويضع ربطة العنق الخاصة بالجنود الأميركيين حتى تتصور صاحبة المقهى أنه أميركي، تحديداً أميركي أسود. وعندما تكتشف المرأة التي يبدو أنها تدير نشاطاً منافياً للآداب، أنه سنغالي تصيح: النجدة هنا رجل أسود!
ويوضح المؤلف أن المعنى هنا أن الأميركي الأسود ليس أسود، وإنما هو أميركي بالنهاية، أما السنغالي فهو أسود لأنه سنغالي.

«أناس الأرز» من كمبوديا

ويستعرض الكتاب فيلم «أناس الأرز» أول فيلم من كمبوديا يعرض في مسابقة مهرجان «كان»، كما أنه أول فيلم روائي لمخرجه ريتي بان في الوقت نفسه، حيث يثبت بهذا العمل أنه صاحب موهبة حقيقية ورؤية مختلفة. اعتقل ريتي عام 1975 وهو في الحادية عشرة من عمره عندما استولى «الخمير الحمر» على الحكم في بلاده، لكنه تمكن من الهرب إلى فرنسا 1979 وحصل على اللجوء السياسي ودرس في معهد «ايديك»، وأخرج ثلاثة أفلام تسجيلية قبل أن يخرج فيلمه الروائي الأول «أناس الأرز».
أخذ ريتي سيناريو «أناس الأرز» عن رواية معروفة للكاتب الماليزي شانون أحمد، لكن بينما تدور الرواية في قرية من قرى ماليزيا وعن سكان من المسلمين غيّر ريتي المكان من ماليزيا إلى كمبوديا وجعل سكانها من البوذيين وهم الأغلبية الساحقة في كمبوديا. وهذا التغيير منطقي تماماً لأنه يريد أن يصنع فيلماً عن الأرض التي ينتمي إليها والشعب الذي يعرفه.
ويشير فريد الى أن قصة الفيلم نموذجية بمعنى أنها لا تتضمن كثيراً من الأحداث الدرامية، وبذلك تعطي الفرصة للتعبير بمفردات اللغة السينمائية الخالصة. إنها قصة الفلاح بوف الذي يعيش مع زوجته في منزل صغير من منازل إحدى قرى كمبوديا، حيث يزرع الفلاحون الأرز ويعيشون على حصاده، كما أنه طعامهم المفضل إن لم يكن الوحيد إلى جانب الأسماك التي يصطادونها من النهر.
يعاني بوف من الفقر مثل غيره من الفلاحين، ولكنه يعاني أيضاً من كثرة أطفاله وكلهن من البنات، ويجاهد الرجل ليل نهار وتعاونه زوجته، لكنه يمرض ويموت وتحاول أرملته أن تحل محله، لكنها تفشل وتفقد عقلها وتحاول الابنة الكبرى سوكا أن تحل محل والديها وتراعي أخواتها وتستمر الحياة بصعوبة هائلة.
ويلفت المؤلف إلى أن الفيلم مثل كل الأفلام السينمائية الكبيرة لا يطرح معانيه من خلال الأحداث، وإنما أساساً من خلال أسلوبه في التعبير عنها، وهو أسلوب واقعي كلاسيكي صارم يقوم على التناسق والاتزان في التكوين والإيقاع والسيطرة التامة على أحجام اللقطات والعلاقة بين الصوت والصورة.

«مناخات» من تركيا

وفي حديثه عن السينما التركية، يستشهد سمير فريد بقول لنجيب محفوظ: «إن فناناً سينمائياً واحداً كبيراً يكفي لوضع السينما المصرية أو أي سينما على خريطة الفن السابع في العالم»، وهو يذكر هذا القول عند مشاهدته فيلم فنان السينما التركي نوري بلجي سيلان الذي عرض في مهرجان 2006 عام وعنوانه «مناخات» إنتاج فرنسي - بلجيكي مشترك. ويقول فريد إن سيلان، هو أول مخرج يضع السينما التركية على خريطة السينما العالمية منذ الراحل يلماظ جوناي الذي فاز بالسعفة الذهبية 1982 عن فيلمه «الطريق». لكن بينما كان جوناي مخرجاً واقعياً، فإن سيلان مخرج ذاتي الطابع إذا صح التعبير، فهو ينتمي إلى صناع «سينما التأمل» مثل المصري شادي عبد السلام والتونسي ناصر خمير والسويدي المعلم الأكبر إنجمار برجمان والروسي أندريه تاركوفسكي، حيث يتم التعبير بلغة السينما وحدها وليس بترجمة السيناريو من لغة الأدب إلى لغة الشاشة، حيث يستحيل التعبير عن معانيه إلا بلغة السينما. لا شيء يحدث بالمعنى الدرامي التقليدي بين الأستاذ الجامعي عيسى وزوجته «بحر» مصممة الديكور في التلفزيون. الفيلم يبدأ وهما في إجازة صيف في مدينة كاس، ومن خلال المسافات التي تفصل بينهما في الكادرات ونظرات كل منهما التي نراها بمعزل عن نظرات الآخر ندرك أن العلاقة بينهما كزوجين قد تحطمت. «إننا لا نعرف أسباباً محددة لذلك. هناك إشارة إلى فارق السن بينهما، ولكن لا تبدو هذه هي المشكلة الحقيقية من خلال السياق. إنها المسافات بين البشر والذاتية التي تجعل كل إنسان وحيداً في عالمه الداخلي».



دلالة العلامة من «طربوش» العقاد إلى «طاقية» الشعراوي

دلالة العلامة من «طربوش» العقاد إلى «طاقية» الشعراوي
TT
20

دلالة العلامة من «طربوش» العقاد إلى «طاقية» الشعراوي

دلالة العلامة من «طربوش» العقاد إلى «طاقية» الشعراوي

دأبت الدراسات الفكرية عامة، والنقدية خاصة، على أن تخاطب قارئاً متخصصاً، مستخدمة لغة ممعنة في التجريد والانغلاق، ومتكئة على جهاز اصطلاحي يصعب على القارئ العام فهمه أو التواصل معه وفك شفراته، وهذا ما يجعلها محدودة المقروئية، ومن ثم التأثير في قطاع واسع من المتلقين، وربما هذا ما كان يعيه تماماً الباحث المصري الدكتور محمد عبد الباسط عيد، وهو يؤلف كتابه «عمائم وطرابيش وكلمات: قراءات في العلامة»؛ فقد حرص على أن يتفادى هذا الانغلاق، ويُخرِج كتابه إلى آفاق أكثر اتساعاً، ليكون صالحاً للقارئ العام. ورغم أن الكتاب يمثل ممارسة قرائية تنتمي إلى علم السيموطيقا، بما له من ترسانة اصطلاحية قد تُثقِل كاهل القارئ، فقد تمكن المؤلف من «تقديم مقاربة للعلامات تنزل بها من فضاء التجريد الأكاديمي إلى فضاء المعرفة الحية».

صدر الكتاب حديثاً عن «دار العين» بالقاهرة. ومنذ عنوانه الذي لا يسير على نمط العنونة الأكاديمي، إنما اتخذ لنفسه مساراً تداولياً، بداية من هذا العنوان التبسيطي الجذاب، مروراً باللغة الخالية من أي تقعُّر أو اصطلاحات صعبة، التي كان واضحاً فيها نهج مخاطبة القارئ دائماً، بصيغة المخاطب، بما يجعله أقرب إلى حوار بين المؤلف والقارئ، أو يقترب به من الطابع الشفاهي، وكأن الكتاب محض «دردشة» بين شخصين، عبر صفحاته (176 صفحة)، لكنها دردشة مسكونة بكثير من الحمولات الفكرية والسياسية والآيديولوجية، التي يحاول القارئ فيها أن يخفي مواقفه وانحيازاته قدر الإمكان، لكنها تنسرب منه إلى القارئ على مهل، وبعيداً عن أي خطاب فوقي، فهي محض دردشة، وكثيراً ما يخاطب القارئ في تفصيلة هنا أو هناك قائلاً: «كما تعلم»، وكأنه يضع الأرضية المشتركة التي يقف فيها مع القارئ، بوصفها أساساً للحوار الذي ينطلقان فيه.

إلى جوار هذه اللغة التداولية، هناك مستوى آخر يمنح هذا الكتاب جاذبيته، وهو أنه يناقش حزمة من العلامات شديدة الحضور في الواقع المعيش؛ فهو ينقسم إلى فصلين كبيرين، يناقش كل منهما نمطاً من العلامات، محاولاً تفسير دلالاتها ومرجعياتها والسياق الذي أنتجها. وبدا أن الكتاب مجموعة مقالات كُتِبَت بشكل متفرِّق، وهو ما يدل عليه قصر هذه المقالات ولغتها الأقرب إلى اللغة الصحافية التي يمكن للجميع فهمها، لكن كان ثمة خيط يجمعها في عقل المؤلف وهو يكتبها منجَّمة، فبدت غير متنافرة، كحبات عقد كل منها له استقلاله، لكنها تنتظم معاً في هذا الخيط مكونة عقداً مهماً من قراءة الواقع وعلاماته وحركيتها، سواء في السياق الاجتماعي والسياسي الذي أنتجها، أو في عمقها التاريخي وبُعدها التراثي الذي يبدو مطموراً تحت هذه العلامة الراهنة، محاولاً تفكيك العلامة وفهم كيفية تشكلها وطرائق عملها واشتغالها، ومن ثم تأثيرها في الواقع المعيش وتأثرها به.

في الفصل الأول: «تقشر الكلام»، يناقش مجموعة من العلامات التي تصادف المرء يومياً، مثل «الزينة، الباب، العين، الأصول، الرقبة، البلاغة البيضاء، أسماء وألقاب»، مقلباً بين كل الحمولات الممكنة لكل علامة، وما تحمله من تقاطعات مع علامات أخرى، فعند قراءة علامة الزينة مثلاً، يناقش زينة البيوت، معرجاً على فنون العمارة، والزينة بمعناها الديني (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، والفروقات الدينية بين زينة الرجال وزينة النساء، فضلاً عن مرور على زينة الكلام في المحسنات البديعية، وتمثيلاتها الشعرية لدى أبي تمام وغيره من الشعراء، بما يجعل ظلال المفردة أكبر وأعمق كثيراً مما تبدو في سطحها المخادع.

في الفصل الثاني: «الأزياء... الأشكال والدلالات»، وهو الأصغر حجماً، لكنه ربما الأكثر جاذبية، منطلقاً من حقيقة أن «ملابسنا أكبر من مجرد أغطية للجسد؛ إنها رسائلنا لأنفسنا وللآخرين، هي كذلك حتى حين نرتديها ببساطة ودون تفكير واعٍ». ومن ثم، فإنه يحاول قراءة الملابس ليس بما تبدو عليه من بساطة على السطح، ولكن بوصفها «نتيجة تفاعل أنساق أعمق»، متوقفاً عند حمولاتها السياسية أحياناً، والطبقية والجندرية أحياناً أخرى، مؤكداً أن «الجانب الديني فيها لا يدل على التقوى، بقدر ما يشير إلى حضور هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع في الفضاء العام».

يتوقف المؤلف أولاً عند طربوش المفكر الراحل عباس محمود العقاد، مختزلاً ركاماً من الكتابات الفكرية والرطانة الأكاديمية عن ثنائيات «الحداثة والتراث» أو «الأصالة والمعاصرة»، فيحاول مقاربة نمط الأزياء التي كانت سائدة مطلع القرن الماضي، بوصفها علامات على الموقف من الحضارة الغربية، بين أصحاب القبعة المنتمين كلياً للثقافة القادمة لنا من شمال البحر المتوسط، وأصحاب «العمامة» الذين يتخذون موقفاً رافضاً لكل ما ينتمي للحضارة الغربية معتصمين بكل ما هو ديني وتراثي للزود عن الذات، وأخيراً أصحاب «الطربوش»، الذين يحاولون التوسّط بين تراث الذات العربية والثقافة الغربية الحديثة، لصناعة مزيج معتدل لا يرفض الآخر وثقافته، وفي الوقت نفسه لا يسمح بأن يستلبه هذا الآخر تماماً، ولا أن تذوب ذاته بجذورها العميقة في ثقافته، فيرى المؤلف أن الطربوش أصبح «علامة على خطاب ثقافي يسعى للتوسط بين القبعة والعمامة، وتمثل الأخيرتان علامتين على خطابين آخرين متناقضين». في حين أن هذا الطربوش ذاته يمثل لنا، نحن الآن، في عشرينات القرن الحادي والعشرين «علامة على مرحلة زمنية ماضية، وما يرتبط بها من أنساق ثقافية تضم القيم والمعتقدات والقضايا السياسية والاجتماعية التي ترتبط بعصر الطربوش والمطربشين».

وينتقل الكاتب من طربوش العقاد إلى طاقية الشيخ محمد متولي الشعراوي وجلبابه؛ فقد أصبح الشيخ الراحل بزيه الشهير وملامحه المميزة رمزاً كبيراً يمارس حضوره اليومي في الشارع المصري، رغم رحيله منذ نحو ربع قرن، لكن حضور صورته بكل حمولاتها الرمزية يبدو واضحاً «فحين يضع أحدنا صورة الشيخ على جدار صفحته على (فيسبوك)، فهو لا يضع مجرد صورة، وإنما يعلن عن انتماء فكري وثقافي لمنظومة محددة من القيم والأفكار».

ويسعى المؤلف إلى قراءة صورة الشيخ الراحل، بوصف هذه الصورة علامة ثقافية، وكيفية صناعة هذه العلامة وأبعادها، سواء ما يتعلق منها بالمظهر الخارجي، متجسداً في التماثل بين الطاقية البيضاء و«الجلابية» الريفية، واللغة العامية البسيطة التي يستخدمها في تفسير الآيات القرآنية، فكلتاهما - الملابس واللغة - تحرص على الاقتراب من عموم الناس والفقراء، فهذا كله يمثل خطاباً ورسالة بأن الشيخ واحد من البسطاء، وفي الوقت نفسه يتوقف المؤلف عند أهمية السياق الثقافي والسياسي في تعميق العلامة في الوعي العام؛ فقد تزامن هذا مع تحولات السياق الاجتماعي السياسي، بانتهاء المد الاشتراكي مع مطلع السبعينات وتولي الرئيس المصري الأسبق أنور السادات؛ فالعلامة لا تنمو وتصبح رمزاً متجذراً إلا في بيئة مواتية وسياق يسمح لها بالنمو والازدهار؛ فهي بنت سياقها السياسي والاجتماعي، فخطاب الإنتاج يحتاج لحظة تلقي مواتية، وهذه اللحظة جاءت مع هيمنة العلمانية ومركزية العلم في الغرب، في مقابل إزاحة الدين إلى داخل جدران الكنائس، وهو ما جعل المواطن العربي المسلم يخشى تكرار هذا النموذج الغربي، وصار أكثر رغبة في الاعتصام بكل ما هو ديني، فكان الشعراوي بصورته وطاقيته وجلبابه رمزاً لهذا الاعتصام بالدين في مواجهة العلمانية الغربية التي بدت للبعض متطرفة.

رغم ما يبدو عليه الكتاب من بساطة خادعة، في لغته وموضوعاته، فإن ثقافة المؤلف الموسوعية تعلن عن نفسها، وتطل برأسها بين السطور، فتتبدى معرفته العميقة بالشعر العربي القديم والبلاغة التي تبدو واضحة في استشهاداته المتعددة، وكذا ثقافته الدينية والفقهية في استشهاداته بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وصولاً إلى وعيه بالواقع وما يمور به من تيارات سياسية وتحولات آيديولوجية، وما تحمله العولمة من هيمنة نمط استهلاكي، فنجده يراوح بين الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا وعالم اللغة السويسري دي سوسير، والجاحظ وامرئ القيس ومقولات فقهاء قدامى، كل هذه المعارف وغيرها يوظفها الكاتب في قراءة علامة تبدو شديدة البساطة، مثل «طربوش العقاد» أو «طاقية الشيخ الشعراوي».