بغداد تعيد تنظيم أولوياتها في ضوء العلاقة بين واشنطن وطهران

مع إقرارها بفشل «وصفة عام 2003»

رغد صدام حسين
رغد صدام حسين
TT

بغداد تعيد تنظيم أولوياتها في ضوء العلاقة بين واشنطن وطهران

رغد صدام حسين
رغد صدام حسين

ثلاث وقائع مهمة طغت على شواغل العراقيين خلال الأيام الماضية، هي: أولاً الصواريخ التي سقطت في الخامس عشر من شهر فبراير (شباط) الحالي على مطار أربيل، ثم في العشرين منه على «المنطقة الخضراء» حيث مقر السفارة الأميركية في بغداد. وثانياً المقابلة الصحافية التي أجرتها قناة «العربية» مع رغد صدام حسين التي خلطت الأوراق من جديد بعد 18 سنة من الحكم الذي تولته المعارضة العراقية على أيدي الأميركيين، بعد إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق. وثالثاً الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.

الوقائع الثلاث، صواريخ أربيل و«المنطقة الخضراء»، ومقابلة رغد صدام حسين، واتصال جو بايدن بمصطفى الكاظمي أعادت أشياء كثيرة إلى الواجهة من جديد في العراق، وأكدت من جانب آخر أن منظومة الحكم الموصوف بـ«الديمقراطي»، بعد إسقاط صدام حسين ونظامه، تعاني من خلل كانت أجبرت أكبر زعامات البلاد إلى الإقرار به، وسماه الرئيس العراقي برهم صالح «وصفة ما بعد عام 2003».
نعم، ثمة مشكلة في هذه «الوصفة» التي يمكن أن تهتز لمجرّد حوار صحافي مع امرأة - حتى لو كانت ابنة صدام حسين - أو تعيد رسم سياساتها صواريخ «مجهولة المصدر» تسقط هنا وهناك، أو تعيد تنظيم أولويات سياساتها في ضوء مكالمة هاتفية من زعيم أجنبي. وقبل أقل من أسبوعين، في ذكرى «يوم الشهيد»، أجمع قادة الخط الأول في العراق، بدءاً من شاغلي الرئاسات الثلاث على الإقرار بأن وصفة الحكم التي اعتمدت بعد الاحتلال الأميركي للبلاد في أبريل (نيسان) عام 2003 فشلت في بناء دولة متماسكة تتسع لكل العراقيين.
الرئيس برهم صالح قال إن «العراق أمام مفترق طرق، فإما العودة إلى الوراء بنزاعات واصطفافات مذهبية وقومية، وإما التقدم نحو بناء الدولة وحفظ سيادتها وفرض القانون على الجميع». وأردف: «ما يجري في المنطقة والعالم من تحوّلات جذرية وما يطمح إليه شعبنا يتطلب التكاتف منا والعطف على جراحاتنا لإيصال الوطن إلى بر الأمان».
وكرر صالح، من ثم، دعوته إلى «عدم السماح بجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية». كذلك أن الحاجة باتت ماسة لمراجعة «مجمل العملية السياسية والتأسيس لعقد سياسي جديد يتضمن تصحيح المسارات ويلبي طموحات الشعب».
رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قال، من جهته، إن «الحكومة تحاول استعادة منهج الدولة وثقة المواطنين». وأضاف: «عملنا على إعادة بناء الدولة منذ اليوم الأول لتولي رئاسة الحكومة، وليس إضعاف القوى السياسية». وتابع الكاظمي موضحاً أن «الشعب العراقي كان قد وصل إلى اليأس من إمكانية أن تنجز الدولة التزاماتها أمام شعبها، ولذلك رفعت هذه الحكومة شعار الدولة، وعملنا على بناء الدولة واستعادة منهج الدولة».
أما رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، فأكد في كلمته أنه «من الضروري الوقوف على الانتهاكات بحق المواطنين بسبب السلاح المنفلت»، مبيناً أن «الإرهاب والفساد أخّرا مشروع بناء الدولة». واستطرد قائلاً إن «التراجع الاقتصادي سيقوض جهود بناء الدولة».
في حين شدد رئيس تحالف «عراقيون» عمار الحكيم على ضرورة «بلورة عقد سياسي واجتماعي جديد بإزالة التراكمات والمخاوف الاجتماعية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية». وتابع أن «الدولة ليست حكراً على أحد»، داعياً «جميع قوى الاعتدال والدولة إلى تحالفات عابرة للمكونات وتصنع معادلة النجاح».

- نأي بالنفس عن الفشل
بشأن فشل هذه الوصفة، يرى الدكتور إحسان الشمّري، رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن «هناك مَن يريد النأي بنفسه عن طبيعة فشل العقد السياسي السابق والنظام برمته وما نتج عنه من أخطاء. كما أن هناك من يحاول إيصال رسالة بأن لديه القدرة على أن يكون جزءاً من عملية الإصلاح في قادم الأيام... ويمكن أن يستثمر ذلك انتخابياً». وأوضح الشمري أن «ما يرتبط بالعديد من هذه الأطراف السياسية أن هذا النظام السياسي لم يعد قادراً على الاستمرار، وهو ما يمثل حلاً لأزمة العراق المستدامة». وأكد أنه «بقدر ما تبدو فيه مثل هذه النيات صادقة لبعض هذه الأطراف، فإن هناك أطرافاً أخرى تريد الاستمرار بالمشهد السياسي القادم، خصوصاً أن هناك تغيراً ملحوظاً في المزاج العام... وأن هذه القوى فشلت في إدارة الدولة، لكنها (مع ذلك) تريد الاستمرار في المشهد ذاته».
وأوضح الشمري أن «هذا الحديث عن التغيير، وفشل الوصفة السابقة، بات يتناغم في الواقع مع الرؤية الدولية التي باتت تنظر إلى العملية السياسية في العراق على أنها أصبحت عبئاً على المجتمع الدولي. وبالتالي، فإن هذا الفشل إنما هو نتاج هذه الصراعات والانقسامات، ولذا تحاول هذه الأطراف مجتمعة أن توصل رسالة إلى المجتمع الدولي بأن لديها القدرة على تغيير النظام السياسي الحالي».

- صواريخ رغد العابرة
البعض يرى أن التجلي الأكبر لفشل «وصفة ما بعد عام 2003» في العراق هو تناولها بالتفصيل قادة الخط الأول من الزعامات العراقية، وبصراحة لفتت نظر المراقبين والمتابعين في الوقت نفسه. ومع أن هناك الكثير من ملامح الفشل على المستويات المختلفة، في مقدمها الجوانب الاقتصادية والخدمية فضلاً عن تفشي الفساد - الذي جعل العراق في ذيل قائمة الشفافية الدولية سنوياً - فإن الوصفة التي تحدث عنها القادة لم تنتظر كثيراً حتى وجدت مَن يجسدها على أرض الواقع. إذ خلال المقابلة التي أجرتها قناة «العربية» وعلى مدى 6 حلقات مع ابنة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ظهر جلياً مدى الهشاشة التي تعانيها الطبقة السياسية العراقية. وبينما كان متوقعا انشغال وسائل التواصل الاجتماعي التي كان يمكن أن تقتصر على شكليات اللقاء، جاء انشغال الطبقة السياسية العراقية، من منطلق «نظرية المؤامرة»، بشأن توقيتها والأهداف المرتبطة بها، ومن ثم خرجت من مجرد تعليقات على مواقع التواصل إلى ما هو أبعد من ذلك سياسياً. وفي حين لم تكن رغد تقصد الكثير مما تناولته، فإن هذا الانشغال بما صدر عنها، وما حمله من تأويلات وتفسيرات مختلفة، جعلها - ربما - تعيد النظر فعلاً بما صدر عنها. وبالتالي، يتحول من مجرد كلام جاء عفوياً، طبقاً لنوعية الأسئلة التي وُجهت لها، إلى تفكير بما يمكن أن يحمله المستقبل من مفاجآت. ولعل من بين أبرز النتائج التي ظهرت سريعاً باتجاه التحشيد المضاد لما صدر عن المقابلة هي الدعوة التي تبنّاها «التيار الصدري» لإعادة النظر بمسألة اجتثاث البعث وإعادة تفعيلها مجدداً.
والمعروف أن «هيئة اجتثاث البعث»، أُنشئت بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، كجزء من «قوانين العدالة الانتقالية»، وحملت فيما بعد - كجزء من عملية التوافق السياسي - تسمية جديدة هي «المساءلة والعدالة» طبقاً لتشريع من البرلمان العراقي عام 2009. لكن الآن ظهرت الدعوات باتجاه عودة «هيئة اجتثاث البعث» بحجة أن هناك البعثيين الذين لا يزالون في أهم مؤسسات الدولة، ومن ثم، قد يشكلون مادة لأي حراك مستقبلي، ما دام جزء مما تناولته رغد صدام حسين هو إمكانية تشكيل «حكومة ظل» أو الدخول في العمل السياسي الذي اختزلته بعبارة حمّالة أوجه، هي «كل شيء وارد».

- صواريخ «الخضراء» توقظ بايدن
وبالنسبة للواقعة الثالثة، نذكر أنه عندما فاز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة الأميركية أمطرته الطبقة السياسية العراقية، ولا سيما قادة الخط الأول، بوابل من برقيات التهنئة.
برقيات التهنئة تخطَّت البعد البروتوكولي، حيث كان ينبغي أن تقتصر على برقية من الرئيس العراقي ورئيس الوزراء، إلى كمّ كبير من برقيات التهنئة من رؤساء وزراء سابقين إلى قادة أحزاب وكتل ومكوّنات. والسبب في ذلك أن بايدن، سواء عندما كان سيناتوراً أو نائباً للرئيس، يُعد «صديقاً تقليدياً» للعراق، وكان قد زار العراق مرات عديدة، وطرح رؤيته في وقت مبكر للمشكلة السياسية في العراق، التي تتمثل بتقسيم البلاد إلى ثلاث دويلات على أسس طائفية - عرقية (شيعية وسنية وكردية).
ولكن، لاحقاً، بدا أن بايدن، الرئيس المتقدم في السن اليوم، ما عاد بايدن عضو مجلس الشيوخ أو نائب الرئيس. وهو في حين أحجم عن الرد على الكم الهائل من برقيات التهنئة، فإنه كان قد تجاهل العراق تماماً، سواءً في أول خطاب له عند تنصيبه رئيساً، أو في خطبه وتصريحاته التالية. وبما أنه بدا أن للرئيس الأميركي الجديد أولويات أخرى، على رأسها الصين وروسيا والملف النووي الإيراني وإنهاض حلف شمال الأطلسي «ناتو»، فإن العراقيين شبه غسلوا أيديهم منه، بعكس ما كان عليه الوضع الرئيس السابق دونالد ترمب.
غير أن المفاجأة الكبرى من بايدن كانت المكالمة الهاتفية التي أجراها مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. وهي كانت من أولى االمكالمات مع قادة المنطقة، ما يعني أن بايدن لم يشطب العراق من سلم أولوياته وقد اختار لحظة فارقة لكي يعيد العراق إلى وضعه الطبيعي في خريطة اهتمامات واشنطن. إذ جاء الاتصال بعد قصف مطار أربيل بـ14 صاروخاً، وبعدها بأيام قلائل قصف «المنطقة الخضراء» في بغداد، حيث مقر السفارة الأميركية.
المكالمة الهاتفية التي أجراها بايدن مع رئيس الوزراء العراقي قالت عنها السفارة الأميركية في بغداد إن الرئيس الأميركي أكد فيها «على دعم الولايات المتحدة لسيادة العراق واستقلاله، وأشادَ بقيادة رئيس الوزراء». كذلك أشار البيان إلى أن الرئيسين «ناقشا الهجمات الصاروخية الأخيرة ضد أفراد القوات العراقية وقوات التحالف. واتفقا على ضرورة مُحاسبة المسؤولين عن هذهِ الهجمات بالكامل، كما ناقشا معاً أهمية دفع عجلة الحوار الاستراتيجي بين بلدينا وتوسيع التعاون الثُنائي في القضايا الرئيسية الأخرى». وتابعت السفارة أن «الرئيس (بايدن) وافق على دوامِ الاتصال الوثيق مع رئيس الوزراء (الكاظمي) خلال الأيام والأسابيع المُقبلة».
الكاظمي، من جهته، في تغريدة له على موقع «تويتر» كتب قائلاً: «بحثت في اتصال هاتفي مع الرئيس الأميركي جوزيف بايدن تطوير العلاقات الثنائية، وتعزيز الشراكة بما يخدم مصلحة البلدين، والعمل على دعم الأمن والسلم في المنطقة، واستمرار التعاون في محاربة (داعش)». وأضاف: «كما أكدنا العمل لمواصلة الحوار الاستراتيجي بين بلدينا على أساس السيادة الوطنية العراقية». وفي تفسيره للمكالمة الهاتفية التي أجراها بايدن مع الكاظمي، يقول الدكتور حسين علاوي، أستاذ الأمن الوطني في كلية النهرين ورئيس «مركز أكد للشؤون الاستراتيجية والدراسات المستقبلية» لـ«الشرق الأوسط» أن اتصال بايدن بالكاظمي {دلالة على اهتمام الحكومة الأميركية بالعراق. وهو رسالة إلى دول منطقة الشرق الأوسط في ظل الـ100 يوم الأولى من عمر الحكومة الأميركية».

- شراكة أمنية واقتصادية
وأضاف علاوي أن «الحوارات تدل على تبادل وجهات النظر باتجاه الشراكة الأمنية والاقتصادية، لمواجهة المجموعات الخاصة التي تستهدف البعثات الدبلوماسية، وتحرج التزامات الحكومة العراقية، باتجاه توفير الأمن للبعثات الدبلوماسية وضرورة محاسبة الجناة وفقاً للقانون العراقي». وأوضح أن «الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة بدعم سيادة العراق وأمنه القومي في ظل الصراع المحتدم ما بين الجانبين الأميركي والإيراني»، لافتاً إلى أن «العراق بات يمثل نقطة محورية في فريق الأمن القومي الأميركي نتيجة الخبرة والقدرة على تفهم المشكلة العراقية، ولكون الجميع عمل أو لامس أو شارك في الملف العراقي». ومضى علاوي شارحاً أن «بايدن أراد بهذا الاتصال أن يعطي للعراق إشارة كبيرة إلى أن أمن العراق مهم للولايات المتحدة الأميركية، وهو أولوية أساسية بعد إسرائيل».
وفي السياق نفسه، يقول الدكتور غالب الدعمي، أستاذ الإعلام في كلية أهل البيت بالكوفة، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «اتصال بايدن بالكاظمي يعني من حيث المبدأ أنه وضع العراق في محل الاهتمام الأول، مقارنة بالاهتمامات السابقة في زمن الرئيس السابق دونالد ترمب». وأضاف أن «هناك مسألة أخرى مهمة، وهي أن الاتصال رسالة قوية للخلايا النائمة، التي تستهدف بين آونة وأخرى البعثات الدبلوماسية في بغداد، أو تستهدف كردستان بالصواريخ، حيث إن هذا يوضح أن أميركا جادة في التعامل مع هذه التهديدات وأخذها على محمل الجد ووضع حد لما يحصل». وتابع أن «جزءاً من المفاوضات التي ستجريها أميركا مع إيران ليست فقط البرنامج النووي، إنما أمور أخرى مهمة، مثل سحب وجود إيران من البلدان حيث لديها نفوذ كبير فيها الآن، ومن بينها العراق، وهو ما يعني أن بايدن سوف يكمل ما بدأه ترمب... لكن بطريقة مختلفة عما كانت عليه في زمن الإدارة السابقة».


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».