ثلاث وقائع مهمة طغت على شواغل العراقيين خلال الأيام الماضية، هي: أولاً الصواريخ التي سقطت في الخامس عشر من شهر فبراير (شباط) الحالي على مطار أربيل، ثم في العشرين منه على «المنطقة الخضراء» حيث مقر السفارة الأميركية في بغداد. وثانياً المقابلة الصحافية التي أجرتها قناة «العربية» مع رغد صدام حسين التي خلطت الأوراق من جديد بعد 18 سنة من الحكم الذي تولته المعارضة العراقية على أيدي الأميركيين، بعد إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق. وثالثاً الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
الوقائع الثلاث، صواريخ أربيل و«المنطقة الخضراء»، ومقابلة رغد صدام حسين، واتصال جو بايدن بمصطفى الكاظمي أعادت أشياء كثيرة إلى الواجهة من جديد في العراق، وأكدت من جانب آخر أن منظومة الحكم الموصوف بـ«الديمقراطي»، بعد إسقاط صدام حسين ونظامه، تعاني من خلل كانت أجبرت أكبر زعامات البلاد إلى الإقرار به، وسماه الرئيس العراقي برهم صالح «وصفة ما بعد عام 2003».
نعم، ثمة مشكلة في هذه «الوصفة» التي يمكن أن تهتز لمجرّد حوار صحافي مع امرأة - حتى لو كانت ابنة صدام حسين - أو تعيد رسم سياساتها صواريخ «مجهولة المصدر» تسقط هنا وهناك، أو تعيد تنظيم أولويات سياساتها في ضوء مكالمة هاتفية من زعيم أجنبي. وقبل أقل من أسبوعين، في ذكرى «يوم الشهيد»، أجمع قادة الخط الأول في العراق، بدءاً من شاغلي الرئاسات الثلاث على الإقرار بأن وصفة الحكم التي اعتمدت بعد الاحتلال الأميركي للبلاد في أبريل (نيسان) عام 2003 فشلت في بناء دولة متماسكة تتسع لكل العراقيين.
الرئيس برهم صالح قال إن «العراق أمام مفترق طرق، فإما العودة إلى الوراء بنزاعات واصطفافات مذهبية وقومية، وإما التقدم نحو بناء الدولة وحفظ سيادتها وفرض القانون على الجميع». وأردف: «ما يجري في المنطقة والعالم من تحوّلات جذرية وما يطمح إليه شعبنا يتطلب التكاتف منا والعطف على جراحاتنا لإيصال الوطن إلى بر الأمان».
وكرر صالح، من ثم، دعوته إلى «عدم السماح بجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية». كذلك أن الحاجة باتت ماسة لمراجعة «مجمل العملية السياسية والتأسيس لعقد سياسي جديد يتضمن تصحيح المسارات ويلبي طموحات الشعب».
رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قال، من جهته، إن «الحكومة تحاول استعادة منهج الدولة وثقة المواطنين». وأضاف: «عملنا على إعادة بناء الدولة منذ اليوم الأول لتولي رئاسة الحكومة، وليس إضعاف القوى السياسية». وتابع الكاظمي موضحاً أن «الشعب العراقي كان قد وصل إلى اليأس من إمكانية أن تنجز الدولة التزاماتها أمام شعبها، ولذلك رفعت هذه الحكومة شعار الدولة، وعملنا على بناء الدولة واستعادة منهج الدولة».
أما رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، فأكد في كلمته أنه «من الضروري الوقوف على الانتهاكات بحق المواطنين بسبب السلاح المنفلت»، مبيناً أن «الإرهاب والفساد أخّرا مشروع بناء الدولة». واستطرد قائلاً إن «التراجع الاقتصادي سيقوض جهود بناء الدولة».
في حين شدد رئيس تحالف «عراقيون» عمار الحكيم على ضرورة «بلورة عقد سياسي واجتماعي جديد بإزالة التراكمات والمخاوف الاجتماعية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية». وتابع أن «الدولة ليست حكراً على أحد»، داعياً «جميع قوى الاعتدال والدولة إلى تحالفات عابرة للمكونات وتصنع معادلة النجاح».
- نأي بالنفس عن الفشل
بشأن فشل هذه الوصفة، يرى الدكتور إحسان الشمّري، رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن «هناك مَن يريد النأي بنفسه عن طبيعة فشل العقد السياسي السابق والنظام برمته وما نتج عنه من أخطاء. كما أن هناك من يحاول إيصال رسالة بأن لديه القدرة على أن يكون جزءاً من عملية الإصلاح في قادم الأيام... ويمكن أن يستثمر ذلك انتخابياً». وأوضح الشمري أن «ما يرتبط بالعديد من هذه الأطراف السياسية أن هذا النظام السياسي لم يعد قادراً على الاستمرار، وهو ما يمثل حلاً لأزمة العراق المستدامة». وأكد أنه «بقدر ما تبدو فيه مثل هذه النيات صادقة لبعض هذه الأطراف، فإن هناك أطرافاً أخرى تريد الاستمرار بالمشهد السياسي القادم، خصوصاً أن هناك تغيراً ملحوظاً في المزاج العام... وأن هذه القوى فشلت في إدارة الدولة، لكنها (مع ذلك) تريد الاستمرار في المشهد ذاته».
وأوضح الشمري أن «هذا الحديث عن التغيير، وفشل الوصفة السابقة، بات يتناغم في الواقع مع الرؤية الدولية التي باتت تنظر إلى العملية السياسية في العراق على أنها أصبحت عبئاً على المجتمع الدولي. وبالتالي، فإن هذا الفشل إنما هو نتاج هذه الصراعات والانقسامات، ولذا تحاول هذه الأطراف مجتمعة أن توصل رسالة إلى المجتمع الدولي بأن لديها القدرة على تغيير النظام السياسي الحالي».
- صواريخ رغد العابرة
البعض يرى أن التجلي الأكبر لفشل «وصفة ما بعد عام 2003» في العراق هو تناولها بالتفصيل قادة الخط الأول من الزعامات العراقية، وبصراحة لفتت نظر المراقبين والمتابعين في الوقت نفسه. ومع أن هناك الكثير من ملامح الفشل على المستويات المختلفة، في مقدمها الجوانب الاقتصادية والخدمية فضلاً عن تفشي الفساد - الذي جعل العراق في ذيل قائمة الشفافية الدولية سنوياً - فإن الوصفة التي تحدث عنها القادة لم تنتظر كثيراً حتى وجدت مَن يجسدها على أرض الواقع. إذ خلال المقابلة التي أجرتها قناة «العربية» وعلى مدى 6 حلقات مع ابنة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ظهر جلياً مدى الهشاشة التي تعانيها الطبقة السياسية العراقية. وبينما كان متوقعا انشغال وسائل التواصل الاجتماعي التي كان يمكن أن تقتصر على شكليات اللقاء، جاء انشغال الطبقة السياسية العراقية، من منطلق «نظرية المؤامرة»، بشأن توقيتها والأهداف المرتبطة بها، ومن ثم خرجت من مجرد تعليقات على مواقع التواصل إلى ما هو أبعد من ذلك سياسياً. وفي حين لم تكن رغد تقصد الكثير مما تناولته، فإن هذا الانشغال بما صدر عنها، وما حمله من تأويلات وتفسيرات مختلفة، جعلها - ربما - تعيد النظر فعلاً بما صدر عنها. وبالتالي، يتحول من مجرد كلام جاء عفوياً، طبقاً لنوعية الأسئلة التي وُجهت لها، إلى تفكير بما يمكن أن يحمله المستقبل من مفاجآت. ولعل من بين أبرز النتائج التي ظهرت سريعاً باتجاه التحشيد المضاد لما صدر عن المقابلة هي الدعوة التي تبنّاها «التيار الصدري» لإعادة النظر بمسألة اجتثاث البعث وإعادة تفعيلها مجدداً.
والمعروف أن «هيئة اجتثاث البعث»، أُنشئت بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، كجزء من «قوانين العدالة الانتقالية»، وحملت فيما بعد - كجزء من عملية التوافق السياسي - تسمية جديدة هي «المساءلة والعدالة» طبقاً لتشريع من البرلمان العراقي عام 2009. لكن الآن ظهرت الدعوات باتجاه عودة «هيئة اجتثاث البعث» بحجة أن هناك البعثيين الذين لا يزالون في أهم مؤسسات الدولة، ومن ثم، قد يشكلون مادة لأي حراك مستقبلي، ما دام جزء مما تناولته رغد صدام حسين هو إمكانية تشكيل «حكومة ظل» أو الدخول في العمل السياسي الذي اختزلته بعبارة حمّالة أوجه، هي «كل شيء وارد».
- صواريخ «الخضراء» توقظ بايدن
وبالنسبة للواقعة الثالثة، نذكر أنه عندما فاز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة الأميركية أمطرته الطبقة السياسية العراقية، ولا سيما قادة الخط الأول، بوابل من برقيات التهنئة.
برقيات التهنئة تخطَّت البعد البروتوكولي، حيث كان ينبغي أن تقتصر على برقية من الرئيس العراقي ورئيس الوزراء، إلى كمّ كبير من برقيات التهنئة من رؤساء وزراء سابقين إلى قادة أحزاب وكتل ومكوّنات. والسبب في ذلك أن بايدن، سواء عندما كان سيناتوراً أو نائباً للرئيس، يُعد «صديقاً تقليدياً» للعراق، وكان قد زار العراق مرات عديدة، وطرح رؤيته في وقت مبكر للمشكلة السياسية في العراق، التي تتمثل بتقسيم البلاد إلى ثلاث دويلات على أسس طائفية - عرقية (شيعية وسنية وكردية).
ولكن، لاحقاً، بدا أن بايدن، الرئيس المتقدم في السن اليوم، ما عاد بايدن عضو مجلس الشيوخ أو نائب الرئيس. وهو في حين أحجم عن الرد على الكم الهائل من برقيات التهنئة، فإنه كان قد تجاهل العراق تماماً، سواءً في أول خطاب له عند تنصيبه رئيساً، أو في خطبه وتصريحاته التالية. وبما أنه بدا أن للرئيس الأميركي الجديد أولويات أخرى، على رأسها الصين وروسيا والملف النووي الإيراني وإنهاض حلف شمال الأطلسي «ناتو»، فإن العراقيين شبه غسلوا أيديهم منه، بعكس ما كان عليه الوضع الرئيس السابق دونالد ترمب.
غير أن المفاجأة الكبرى من بايدن كانت المكالمة الهاتفية التي أجراها مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. وهي كانت من أولى االمكالمات مع قادة المنطقة، ما يعني أن بايدن لم يشطب العراق من سلم أولوياته وقد اختار لحظة فارقة لكي يعيد العراق إلى وضعه الطبيعي في خريطة اهتمامات واشنطن. إذ جاء الاتصال بعد قصف مطار أربيل بـ14 صاروخاً، وبعدها بأيام قلائل قصف «المنطقة الخضراء» في بغداد، حيث مقر السفارة الأميركية.
المكالمة الهاتفية التي أجراها بايدن مع رئيس الوزراء العراقي قالت عنها السفارة الأميركية في بغداد إن الرئيس الأميركي أكد فيها «على دعم الولايات المتحدة لسيادة العراق واستقلاله، وأشادَ بقيادة رئيس الوزراء». كذلك أشار البيان إلى أن الرئيسين «ناقشا الهجمات الصاروخية الأخيرة ضد أفراد القوات العراقية وقوات التحالف. واتفقا على ضرورة مُحاسبة المسؤولين عن هذهِ الهجمات بالكامل، كما ناقشا معاً أهمية دفع عجلة الحوار الاستراتيجي بين بلدينا وتوسيع التعاون الثُنائي في القضايا الرئيسية الأخرى». وتابعت السفارة أن «الرئيس (بايدن) وافق على دوامِ الاتصال الوثيق مع رئيس الوزراء (الكاظمي) خلال الأيام والأسابيع المُقبلة».
الكاظمي، من جهته، في تغريدة له على موقع «تويتر» كتب قائلاً: «بحثت في اتصال هاتفي مع الرئيس الأميركي جوزيف بايدن تطوير العلاقات الثنائية، وتعزيز الشراكة بما يخدم مصلحة البلدين، والعمل على دعم الأمن والسلم في المنطقة، واستمرار التعاون في محاربة (داعش)». وأضاف: «كما أكدنا العمل لمواصلة الحوار الاستراتيجي بين بلدينا على أساس السيادة الوطنية العراقية». وفي تفسيره للمكالمة الهاتفية التي أجراها بايدن مع الكاظمي، يقول الدكتور حسين علاوي، أستاذ الأمن الوطني في كلية النهرين ورئيس «مركز أكد للشؤون الاستراتيجية والدراسات المستقبلية» لـ«الشرق الأوسط» أن اتصال بايدن بالكاظمي {دلالة على اهتمام الحكومة الأميركية بالعراق. وهو رسالة إلى دول منطقة الشرق الأوسط في ظل الـ100 يوم الأولى من عمر الحكومة الأميركية».
- شراكة أمنية واقتصادية
وأضاف علاوي أن «الحوارات تدل على تبادل وجهات النظر باتجاه الشراكة الأمنية والاقتصادية، لمواجهة المجموعات الخاصة التي تستهدف البعثات الدبلوماسية، وتحرج التزامات الحكومة العراقية، باتجاه توفير الأمن للبعثات الدبلوماسية وضرورة محاسبة الجناة وفقاً للقانون العراقي». وأوضح أن «الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة بدعم سيادة العراق وأمنه القومي في ظل الصراع المحتدم ما بين الجانبين الأميركي والإيراني»، لافتاً إلى أن «العراق بات يمثل نقطة محورية في فريق الأمن القومي الأميركي نتيجة الخبرة والقدرة على تفهم المشكلة العراقية، ولكون الجميع عمل أو لامس أو شارك في الملف العراقي». ومضى علاوي شارحاً أن «بايدن أراد بهذا الاتصال أن يعطي للعراق إشارة كبيرة إلى أن أمن العراق مهم للولايات المتحدة الأميركية، وهو أولوية أساسية بعد إسرائيل».
وفي السياق نفسه، يقول الدكتور غالب الدعمي، أستاذ الإعلام في كلية أهل البيت بالكوفة، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «اتصال بايدن بالكاظمي يعني من حيث المبدأ أنه وضع العراق في محل الاهتمام الأول، مقارنة بالاهتمامات السابقة في زمن الرئيس السابق دونالد ترمب». وأضاف أن «هناك مسألة أخرى مهمة، وهي أن الاتصال رسالة قوية للخلايا النائمة، التي تستهدف بين آونة وأخرى البعثات الدبلوماسية في بغداد، أو تستهدف كردستان بالصواريخ، حيث إن هذا يوضح أن أميركا جادة في التعامل مع هذه التهديدات وأخذها على محمل الجد ووضع حد لما يحصل». وتابع أن «جزءاً من المفاوضات التي ستجريها أميركا مع إيران ليست فقط البرنامج النووي، إنما أمور أخرى مهمة، مثل سحب وجود إيران من البلدان حيث لديها نفوذ كبير فيها الآن، ومن بينها العراق، وهو ما يعني أن بايدن سوف يكمل ما بدأه ترمب... لكن بطريقة مختلفة عما كانت عليه في زمن الإدارة السابقة».