فريد رمضان... موهبة «أنسنة المرض»

«الكتابة العلاجية» في تجربة كاتب بحريني

فريد رمضان
فريد رمضان
TT
20

فريد رمضان... موهبة «أنسنة المرض»

فريد رمضان
فريد رمضان

علاقة السرد بالطب قديمة قِدم الحضارة الإنسانية، ذلك أن أسلافنا اكتشفوا أن للسرد القصصي (الشفاهي منه والمكتوب) قدرة عجيبة تشعرنا أننا في حال أفضل وتعزز عملية الاستشفاء. وهو ما رسخ السرد بوصفه حاجة إنسانية قبل كل شيء، لا مجرد نشاط فكري يُعنى بالإمتاع والترويح.
لعل من أقدم ما ذكر عن العلاج بالكتب في التاريخ المُدوَّن هو ما كُتب على باب أقدم مكتبة عرفها التاريخ؛ هنا بيتُ علاج الروح. ومنذ ذلك الحين والبشرية تجد في القراءة فسحة لعلاج النفس والجسد. ثالوث السرد والمرض و«البيبليوثيرابي» هو ما سنحاول مقاربته واستعراض نماذج من روايات وأعمال الكاتب والسيناريست البحريني فريد رمضان، الذي رحل قبل أشهر قليلة، وهو كاتب يمتلك وهجاً مميزاً في السرد ولغة قصصية لا تقل إدهاشا عن عوالمه المسكونة بالهويَّات... الهوياتُ التي أدخلنا فريد إلى عالمها عنوة لنتحسس ما يقال وما لا يقال متجاوزاً تابوهات كثيرة، ليس أقلها إشكالية «الأنا» و«الآخر».
ولا يخفى على كل من يقرأ لفريد رمضان معالم مشروعه السردي الذي يحتفي بالفسيفساء البشرية في مجتمع متعدد المشارب والأعراف كالمجتمع الخليجي عموماً، والبحريني خصوصاً.

المصطلح والمراحل
يُعرَّف «البيبليوثيرابي» على أنه أسلوب علاج إبداعي فني يتم فيه استخدام مواد قرائية مُختارة بعناية بهدف المساعدة على الاستشفاء النفسي أو البدني أو العاطفي، عن طريق شتى أنواع الكتابات، سواء كانت نثرية أو شعرية أو علمية.
وبالرجوع إلى مجمل أعمال الراحل فريد رمضان السردية، فإني أعتقد بوجود رابط وثيق يظل راسخاً بغض النظر عن تنوع الأعمال السردية في مواضيعها وحبكتها القصصية وتواريخ كتابتها. والمتلقي المتمعن في أعمال الراحل يجد أن لديه علاقة خاصة بسرد الأمراض الجسدية والنفسية للشخوص.
ومعرفته التفصيلية بدقائق كل مرض أو اضطراب يعاني منه أبطال سردياته تظهر جلياً في تركيزه على المعاناة الإنسانية مع المرض. فنجده يصف الحالة المرضية بدقة أشبه بالبحث الأكاديمي، ولكن في قالب درامي ويحبكها ببراعة ضمن النسيج القصصي بحيث يستطيع القارئ أن يتعاطف مع الشخصية، وأن يحس بخلجات المريض الجسدية والنفسية والسلوكية، حتى يُخيل إليه أنه يعيش نفس التجربة. هذه المقدرة الفائقة على الإيهام وتقمُّص مختلف الحالات المرضية هو برأيي ما يميز أعمال فريد الذي يُشعرك بأنك لست أمام مجرد مرض في كتاب علمي، بل أمام فنان يجتهد في البحث طبياً ونفسياً واجتماعياً ليتمكن من خلق ما أسميه «شخوصاً متعددة الأبعاد» قادرة على «أنسنة المرض» وجعله بؤرة تعاطف لا يلبث فريد أن «يحبكها» سردياً ضمن فسيفساء السرد.
وأنا هنا لست بمعرض التفكيك النقدي، بل في سياق البحث عن أنساق سردية يمكن أن ترسم ملامح تجربة جديرة بالدراسة والاهتمام من الناحية البيبليوثرابية. وأزعم أن هذا الانحياز للإنسان قبالة المرض هو نسق واضح في تجربة فريد في المجمل.
فمثلاً حينما يصف فريد رمضان معاناة «حسين» مع فقر الدم المنجلي، أو ما يعرف محلياً بالسكلر، في رواية «السوافح ماء النعيم»، أجدني لا شعورياً أحس بأوجاعه مع مرض غادر يتربص بفتى يافع لا يعرف من أين حلت عليه هذه الأوجاع التي تحيل حياته إلى سلسلة لا نهائية من العذابات والضعف والخوف من المجهول. ومع ذلك يتشبث حسين بالأمل ومحبة الحياة رغم كل التحديات
إن كل مقاربة سردية لمرض أو اختلال في الصحة هي خطوة كبيرة في المعركة مع المرض بدءاً من الاعتراف به وتفهم تفاصيله علمياً ونفسياً وانتهاءً باستعادة التوازن الجسدي والنفسي والاستشفاء.
إنني طبيباً كنت أظن كبقية زملائي أن لديّ خبرات طبية وإنسانية واسعة لا بأس بها عن مرض السكلر بحكم دراستي للمرض أكاديمياً ومعاينتي اللصيقة للمرضى وعلاجي لمئات من ضحايا هذا المرض على مدى أكثر من 25 عاماً بدءاً من كلية الطب ثم التخصص في قسم الباطنية في البحرين وبعدها التخصص والزمالة والعمل في الولايات المتحدة الأميركية، إلا أنني وجدت نفسي أستكشف تفاصيل إنسانية دقيقة لهذا المرض لم أكن لأجدها في المراجع الطبية أو الممارسة الإكلينيكية. وهذه المعرفة الحميمية بالسكلر ستظل تفتح أبواباً للأمل وتقدم الدعم النفسي والمعرفي للمرضى والطاقم الطبي على حد سواء...
ومن يعرف فريد رمضان شخصياً عن قرب، سيكتشف أن هذه الموهبة الاستثنائية في وصف مرض السكلر دفع ثمنها فريد غالياً. إذ إنه حين يكتب عن مرض كهذا فهو يستدعي تفاصيل المعاناة من واقع تجربته الشخصية مريضاً بالسكلر عانى منه طوال حياته واكتوى جسده بوهج الآلام المبرحة والتيه في التشخيص والعلاج، التي أخذت حيزاً كبيراً من وقت الراحل ووجدانه، وساهمت في تغيرات جذرية في حياته وقناعاته وانحيازاته والمعرفة الواعية وانعكاسات اللاوعي. كل ذلك استثمره فريد سردياً ببراعة للتخفيف عن ضحايا السكلر وعوائلهم.

دور مزدوج
كان فريد رمضان يمارس دوراً مزدوجاً؛ دور المريض الذي يكتب لقراء تتحول القراءة عندهم لأداة استشفاء، والدور الآخر هو دور تطبيب الذات Self - Healing حيث تكون الكتابة عن مرض السكلر الذي يعاني منه بحد ذاتها علاجاً، وهو ما يعرف طبياً بالكتابة العلاجية. ومن هنا، فإن الكتابة عن المعاناة الشخصية هي في جوهرها «فعل» «Action» بيبليوثيرابي موجه ضد المرض وليس مجرد «ردة فعل - Reaction» له. والكتابة عن المرض هي الخروج عن سيطرته والتحرر من ربقته والتسامي فوق الألم وصرخة احتجاج قبالة الصمت والقنوط والاستسلام للمرض.
في دراسة نشرت عام 2008 قام الباحثون بدراسة تأثير الكتابة العلاجية على مرض اضطراب ما بعد الصدمة PTSD واضطراب الإجهاد الحاد Acute stress Disorder وتم مقارنة مفعول الكتابة العلاجية المنظمة مع العلاج السلوكي المعرفي (cognitive behavioral therapy). وخلصت الدراسة إلى أن فعالية الكتابة العلاجية المنظمة توازي العلاج المعرفي السلوكي في تحسين أعراض القلق والاكتئاب وسلوكيات التجن.
أما عما إذا كان للبيبلوثيرابي مفعول طويل الأمد، فإن دراسة محكمة من فئة Systemic Review والتي راجعت 8 بحوث إكلينيكية أجريت على 1347 مريضاً، وجدت أن للبيبلوثرابي مفعولاً إيجابياً طويل الأمد في تحسين أعراض الاكتئاب، وهو ما يعزز من احتمالية تقليل العلاج الدوائي بمضادات الاكتئاب.
وفي ضوء ما سبق، يمكننا استنتاج أن تجربة الراحل فريد رمضان تعد من أغنى التجارب العربية من حيث تقديم أنساق سردية يمكن استثمارها علاجياً كنوع من البيليوثرابي.

- كاتب وطبيب بحريني



كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

تدمير المسجد العمري
تدمير المسجد العمري
TT
20

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

تدمير المسجد العمري
تدمير المسجد العمري

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس إلى غاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، بدأت بالتذكير بأن «الأولوية هي لإنقاذ الأرواح البشرية قبل القطع الأثرية، لكن مساعينا انطلقت من الرغبة في إعادة الاعتبار لتراث غزة الذي طوته المأساة، نريد أن يرى العالم الوجه الآخر لغزة، المدينة الحضارية الغنية بتراث عمره أكثر من خمسة آلاف عام».

هذا الحدث الذي يسعى إلى إحياء الذاكرة الثقافية للمنطقة وإبراز عمقها الحضاري الذي طمرته الحرب هو الأول من نوعه في فرنسا بشهادة رئيسه جاك لانغ، وهو يعرض أكثر من 130 قطعة أثرية تشهد على تاريخ غزة الطويل الممتد على مدى ثماني حضارات مختلفة. المجموعات المعروضة مستمدة من التنقيبات الأثرية لفرق فرنسية وفلسطينية عملت معاً في غزة منذ 1995 بإشراف عالم الآثار الفرنسي القس الدوميناكي جان باتيست همبير (84 سنة). أقدمها تعود إلى العهد البرونزي، أي 3200 سنة قبل الميلاد، وأحدثها من العهد العثماني في نهاية القرن التاسع عشر: منها التماثيل والأحجار والجرار والقطع النقدية، ومنها ما يحمل قيمة تاريخية كبيرة كوعاء فخاري يعود إلى أربعة آلاف عام وفسيفساء بيزنطية تعود إلى القرن السادس وتمثال لأفروديت كشاهد على التأثيرات الهلنستية في المنطقة.

المعرض رفع النقاب أيضاً عن القصة المذهلة لهذه القطع الأثرية التي حلّت في باريس قادمة من سويسرا، حيث ظلّت عالقة في منطقة جنيف الحرة لمدة تناهز 17 سنة في انتظار عودتها إلى موطنها الأصلي بعد أن عُرضت في متحف جنيف في 2006. القطع التي لم يعرض منها في باريس سوى 150 من أصل 529 لم تتمكن من العودة إلى غزة بسبب الحصار وعرقلة السلطات الإسرائيلية، يومية «لوتون» السويسرية كانت قد وصفتها بـ«الكنوز التي أصبحت عبئاً»، وكان مصممو المعرض قد اختاروا عرضها في قواعد معدنية مثبتة على عجلات وكأنها مستعدة للرجوع إلى الوطن في أي لحظة في مفارقة محزنة بين النفي القسري الذي تعرضت له هذه الكنوز الأثرية التي تنتظر في المنفى منذ 17 سنة.

تضمن المعرض أيضاً جولة افتراضية ثلاثية الأبعاد داخل دير القديس هيلاريون، الذي شُيّد عام 329 ميلادياً، ويُعد من أقدم الأديرة في الشرق الأوسط، وقد أُدرج على قائمة الممتلكات الثقافية المحمية دولياً من قبل «اليونيسكو» في يوليو (تموز) 2024. وإن كان من الصعب إجراء جرد دقيق لكل المعالم الأثرية التي تعرضت للدمار منذ بداية الحرب على غزة إلا أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونيسكو) رصدت استناداً إلى صور الأقمار الاصطناعية الأضرار التي لحقت بأكثر من 94 موقعا أثريا في القطاع.

من هذه المعالم المسجد العمري الكبير، الذي شُيّد عام 700 ميلاديا على أنقاض كنيسة بيزنطية، وتحول لاحقاً إلى كنيسة في عهد الصليبيين ثم أعيد مسجداً في زمن المماليك، قبل أن يتوسع في الحقبة العثمانية، حيث تعرض للقصف مراراً، وكان آخرها في نوفمبر عام 2023، حيث تعرضت مئذنته لأضرار جسيمة، إضافة إلى متحف قصر الباشا الذي يضم قطعاً من العهود اليوناني والروماني والبيزنطي والإسلامي، وتعود بنيته إلى القصر المملوكي في زمن الظاهر بيبرس، ويعرف أيضا باسم «قلعة نابليون» لأن نابليون بونابرت أقام فيه ثلاثة أيام خلال رحلته لمصر. وقصفته قوات الاحتلال الإسرائيلي ودمرت أجزاء كبيرة منه في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إضافة إلى تدمير الكنيسة البيزنطية وكنيسة القديس برفيريوس ثالث أقدم كنيسة في العالم.

وإن كانت الأولوية منذ بداية الحرب هي لإنقاذ الأرواح البشرية إلا أن كثيرا من المبادرات عرفت النور في محاولة لإنقاذ التراث أيضاً. فقد تم نقل مجموعات من متحفين إلى مناطق آمنة داخل قطاع غزة بدعم مالي من التحالف الدولي لحماية التراث (Aliph) الذي خصّص لها مبلغ 602 ألف يورو، كما تم أيضاً تدريب حوالي ستين محترفاً (عبر الإنترنت) من أجل التدخل الطارئ لحماية القطع أو استخراجها من الأنقاض. تشرح السيدة الودي بوفار المشرفة على معرض «كنوز غزة»: «لا نستطيع التدخل قبل وقف التدخل العسكري وترتيب الوضع الإنساني، وأول ما يمكن القيام به هو تأمين المواقع من أخطار الألغام ثم تفقّد حجم الأضرار والبدء في عمليات الجرد والتوثيق لإعادة بناء المواقع وترميمها».

وقد لاحظ رينيه إيلتر عالم الآثار في جمعية الطوارئ الدولية ومدير برنامج الحفاظ على دير سانت هيلاريون أن سكان غزة واعون بقيمة تراثهم وضرورة حمايته وهو مصدر فخر كبير، حيث أقيم مخيم للاجئين في محيط موقع دير سانت هيلاريون لكن السّكان لم يسعوا أبدا إلى دخوله، متهماً في نفس الوقت الجيش الإسرائيلي بسرقة المجموعات التي كان يحتويها متحف الباشا، حيث أردف: «أفضل القطع كانت في هذا المتحف، بعد القصف ذهب بعض زملائنا الفلسطينيين لتفقد الوضع فاكتشفوا أن الجنود الإسرائيليون قد فتحوا الصناديق وأخذوا منها بعض المقتنيات».

وكان مدير الآثار الإسرائيلي ايلي اسكوسيدو قد نشر تسجيلاً يظهر جنودا إسرائيليين محاطين بأوان فخارية قديمة من مستودع المدرسة الفرنسية للكتاب المقدّس والآثار بعد اقتحامه، مما أثار ردود أفعال منددة بسرقة التراث الفلسطيني.

إن قصة اكتشاف التراث التاريخي لغزة تعود إلى السنوات التسعين من القرن الماضي، فبعد إمضاء معاهدة أوسلو قامت السلطات الفلسطينية بإنشاء دائرة الآثار التي كانت تعمل بالتعاون مع المدرسة الفرنسية للكتاب المقدّس والآثار في التنقيب عن الآثار، وأسفرت الأبحاث عن العثور على الكثير من القطع الأثرية الثمينة، هذه الجهود لقيت أيضاً مساندة من قبل رجل الأعمال والمجمع الفلسطيني جودت الخضري الذي قام بشراء آلاف القطع الأثرية لحمايتها من التهريب والتجارة، بعضها كان معروضاً في «فندق المتحف» الذي أسّسه في 2008 وكان يضم قطعا نادرة من العصور الكنعاني والروماني والإسلامي قبل أن يدمره الاحتلال الإسرائيلي بالكامل في الـ3 من نوفمبر 2023.