«الثلاثاء الرابع من آب، الساعة السادسة وسبع دقائق»، هي اللحظة التي نقلت اللبنانيين من عالم إلى آخر، من ضفة إلى أخرى، يفترض أن «ينتقل إليها الكائنُ بعد تسليم الأنفاس؟»، حسب الشاعر عقل العويط، في قصيدته الطويلة الصادرة في ديوان، يرسم من خلالها تراجيدية هذا الانتقال الجهنمي.
في سبعين صفحة، يكتب الشاعر اللبناني قصيدة، أشبه بملحمة في مدينته التي رآها بعينيه يعصف بها الموت والخراب، وتتحول مبانيها إلى قبور وميناؤها إلى هباء وشوارعها إلى حطام. القصيدة أقرب إلى نص مفتوح، حر إلا من إيقاع ذات الكاتب، وهو يبحث عن كلمات يمكنها أن تقول ما لا يمكن أن يوصف، بحيث تعبر عما تعجز النفس عن الإتيان بما يوازيه في اللغة: «كيف، وبأي صوت، أغطي هذه الفاجعة؟!». في كتابه الجديد الذي يحمل عنواناً زمنياً مفصلياً هو «الرابع من آب 2020»، يقوم نيابة عن اللبنانيين، بالكتابة عن هول انفجار مرفأ بيروت، الذي نسف ما يقارب ثلث العاصمة. اللحظة الجحيمية أخرست الكثيرين، وبدا الصمت أبلغ وسيلة للتعبير. غير أن قصيدة العويط تأتي بمثابة سيرة وجدانية للراوي أو الرائي، الذي يكتب شهادة في مدينته المطعونة، وهو واقف على ناصية الألم والتساؤل. يحلو للقارئ أن يلتهم القصيدة في جرعة واحدة دون توقف، أن يرى إليها كدفق شعوري ينساب، حتى الكلمة الأخيرة. رغم أنها في الحقيقة تسجيلات لما راود الشاعر عبر أيام ومساءات عديدة، محكومة بالحلكة، والألم في «البلد القتيل»، ومحاولة استنهاض الذات والمدينة معاً. فبقدر ما في هذه القصيدة من توجع وحسرة وسوداوية، يجهد الكاتب كي يستنبت الأمل من صدع صخرة، وموجة هادرة، ومبنى منهارٍ وحديقة مشلعة، ليضيء منارة ما، قد تكون ممكنة، في هذا الظلام. لأن الحياة حين تنتهي فهي لأنها تتحضر لولادة أخرى.
حقاً يبدع العويط في رسم الصورة «الأبوكاليبتية» الجحيمية، للمدينة الغارقة في «العتمة» و«الفحم» و«العدم الذي يمنع القلب من التحسر». وهو إذ ينظر إلى بيروت المحترقة فيرى «ممرضة تلوح بيديها لتلتقَطَ نداءَ الصليبِ الأحمر. وأم كتلك الأِم، لا تزال تتحدث إلى نفسها، كمَن تُواصِلُ رتقَ حياتِها، أو كمَن تصلي، ثم فجأة تَعلقُ كلماتُها في حلقِها، فتتوقفُ عن مواصلِة التمتمِة والحياة. وبائعٌ يذرف روحاً من تلقائِهِ، بسبب الإبريقِ الذي يندلقُ منهُ المساء. ومرايا لالتقاطِ صمتِ الأيدي. وأيدٍ لتسجيلِ ظلالِ الأوجاع. وأوجاعٌ لتسجيلِ الحياة الرديفة. وحياة رديفٌة لتسجيلِ الهاجعين في القبور».
هذا التناسل في المشهد، يتكرر بحيث تخرج الصورة من الصورة، في مدينة لا تكف عن الهذيان، والموتى يبحثون عن مفقوديهم بين الأنقاض. و«القتل ضاق ذرعاً بنفسه»، و«المقبرة لم تعد تتسع لدموع الأمهات».
لكن كلما حلكت الظلمة، أعادنا الشاعر إلى فسحة. فهو يرى النور في العصافير حتى وهي في أعشاشها الخائرة، وفي الشجر والكائنات الأخرى التي تهرع لإشاعة جو من الأمان، منعاً «لحدوث خطأ جليل، كالخطأ الذي يجعل أرضاً تتبدد، ويجعل سماء تنزل على الأرض». وهو إذ يرى في بيروت مدينة عصية على الموت، إلا أنه يبقى مستغرباً: «كيف لجسم/ كجسمكِ المرضوضِ/ أْنْ يسألَ فراشة/ عن أقربِ ضوء. كيف ليدَينِ/ كيدَيكِ/ أْنْ تُلوحا في كثافِة الغبار؟!».
بيروت أنثى تارة، وهي الشاعر نفسه حين يتماهى معها مرات كثيرة. بيروت لا تكف عن التحول. وهي امرأة لا تبادل مزاجها بأي إغواء. هي حبيبة وأخت، لكن الأهم أنها أم «لأنها أرض وتراب مخصب للحبق والأطفال والياسمين». وهذه وسيلتها في استيلاد ذاتها. «قد تحبلُ بيروتُ من تلقائِها بجنينِها الأنثى، وقد تدخلُ في مرآتها لتوقَظَ وجهَها القتيل».
لكن هذا الموت المتكرر، لن يجعلها تخضع للسبي، و«لن تكون حصة أحد».
«ما أجملَ أن مراسَكِ صعبٌ، وأنتِ على فراشِ الموت. ما أجملَ أنكِ لا تؤخَذين بذكورة». هي ليست كالنساء ولا كالمدن، هي «مدينة مفقودة» محكومة بسكنى المنافي.
مرفأ بيروت، بمياهه وقواربه وحديده المتناثر، وحالاته المتلونة بعد أن عصفت به الكارثة، يحتل حيزاً من الكتاب، ربما لم يعط مثله في الشعر اللبناني من قبل. وكل هذا الهول يعيد الشاعر إلى مآسي الماضي الكثيرة، إلى المجرمين والقتلة الذين لم يكفوا عن نحر بيروت. وكلما تقدمنا في الديوان، وجدناه أقرب إلى توصيف المجرمين، تحديد ملامحهم، تعيين أنماط سلوكياتهم. «يا أنتِ التي لا أسماءَ لكِ، ولا مُدُنَ تشبهُكِ، أو تُوازيكِ، تعرفينَ خَوَنَتَكِ والَقَتَلَة. من سكاكينِهم تعرفينهم، ومن الكراسي، ومن فضتِهم، وأحذيتِهم، ووجوهِهم، وأصواتِهم، وملامس أيديهم، وسجلاتِ نفوسِهم، وأماكنِ سكنِهم، ومن الأسماءِ».
بين الرجاء واليأس والأمل يتحرك نص عقل العويط، لكنه أيضاً صرخة وجع تخرج من قاع القلب: «لم أعد قادراً على التحمل. لم أعد قادراً على التحمل!».
نلتقي في قصيدة عقل العويط بالمسعفين، بالكنيسة التي توقف جرسها، بالدمعة التي حطت على مئذنة، بالقهوة التي فرت من فناجينها، بأسرة تضم جمر الهلاك، بأطفال يولدون بقلب مهترئ. ويفترض الشاعر أن خللاً ما حدث، «خرب صلة المكان بالزمان، وجعل فكرة الصحراء تنوب عن فكرة الينبوع». لكنه لا يستسلم. لكن بيروت ليست سدوم ولا عمورة. «عندما، في الهزيعِ الأخير، تسكتُ الكواكبُ عن كل بصِيصٍ، سيعودُ البحرُ، سيعودُ في منتصفِ أيلولَ، في آخرِهِ، في التشارين، في الشتاءِ، في الربيعِ، في الصيفِ المقبلِ، سيعود هذا البحرُ إلى رشدِهِ، بعد أْنْ ينظفَ ماءَهُ بمائِهِ، وسيكوُنُ مِلحُهُ جديراً بتطييبِ جروحِ النوارسِ وزبدِ الموج، مثلما سيكوُنُ جديراً بترشيدِ تربِة الأرضِ المغدورة».
للشاعر عقل العويط، دواوين عديدة سابقة بينها «لم أدعُ أحداً»، «مقام السروة»، «سراح القتيل»، «إنجيل شخصي». ولقي الكتاب الجديد احتفاء، وتم تصوير شريط فيديو، مدته ما يقارب خمس دقائق، يتضمن أداءً تمثيلياً، ترافق مقاطع من الديوان، أشرفت عليه الشاعرة جمانة حداد، وأخرجه أنطوان فاضل، وشارك في الأداء المصاحب الممثلون جوزف بو نصار، جوليا قصار، بديع أبو شقرا وإنجو ريحان. ويبدأ الفيديو كما الديوان بهذا المقطع المؤثر:
«كيف أصفُكِ يا بيروتُ، قبل الساعة السادسة وسبع دقائق؟ كيف أصفك بعد الساعة السادسة وسبع دقائق؟ كل ما في الأمر، أني كنت ميتاً، فكيف لميتٍ أن يصف؟».
عقل العويط من جحيم «الرابع من آب 2020» يستنهض بيروت
قصيدة طويلة في انفجار المرفأ
عقل العويط من جحيم «الرابع من آب 2020» يستنهض بيروت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة