سنوات السينما

مشهد من  «حياة الآخرين»
مشهد من «حياة الآخرين»
TT

سنوات السينما

مشهد من  «حياة الآخرين»
مشهد من «حياة الآخرين»

(2006) The Lives of Others
لا شيء للتمرد عليه ****

«حياة الآخرين» كان هو الفيلم الأول لمخرجه فلوريان هنكل فون دونرسمارك. وهو لم يصنع بعده إلا فيلمين هما «السائحة» و«لا تنظر بعيداً مطلقاً (Never Look Away). في الأول (2010) مال إلى فيلم أكشن رومانسي على الطريقة الأميركية، وفي الثاني (2018) عاد إلى النطاق الألماني كقصّة ووقائع. لكن أي منهما لم يُستقبل جيداً كحال فيلمه الأول ذاك.
المكان ألمانيا الشرقية في مطلع الثمانينات عندما كانت ألمانيا ما زالت منقسمة بين نظامين تدير شؤونه في الجانب الشرقي السُلطة الشيوعية وتدير شؤونه في الجانب الغربي تلك الغربية. في برلين الشرقية تعيين المخبر الملتزم وايزلر (أولريخ موه) للتجسس، صوتاً وصورة، على الكاتب المسرحي دريمان (سابستيان كوش) الذي يعيش مع صديقته الممثل كريستا (مارتينا جَديك) التي يريدها الوزير هَمف (توماس تييم) لنفسه.
الطريقة الوحيدة للتنصت على الكاتب واتصالاته وميوله وأفكاره هي استئجار الشقة التي تعلو شقته واستخدامها للسماع والمشاهدة. وحين ينشر الكاتب مقالة نقدية في الغرب يضيق الخناق عليه، لكن وايزلر يدبّر وسيلة ينقذ فيها حياته بعدما تأثر، سياسياً، بوضع الكاتب وأفكاره.
أمضى المخرج أربع سنوات يحقّق ويدوّن ويقرأ قبل أن يلخص إلى سيناريو متين مبني على ما فرزته الوقائع ولو أن الحكاية هي خيالية. يتيح السيناريو لطرح التساؤلات المعنية بالموقف الفردي للحالة الماثلة. ومن بينها دور المثقّف والفنان في مواجهة صاحب القرار السياسي ودور العين - الأداة في التجسس على الأول لخدمة الثاني،
ثم ما يحدث إذا ما وقعت الأداة في موقف يفرض عليها، وقد تشبّعت بالثقافة والفن بدورها، مساعدة المبدع على تجنّب غضب ومؤامرات السلطة الشيوعية. هذا كلّه أدّى إلى فيلم حبكته سياسية وعاطفية في الوقت ذاته. عمل متين الصنعة، تتوالى أحداثه من دون هفوة تُذكر ومن دون ضعف أو تحوّل عن ناصيته. دراما مشدودة تكشف موقع الشخصيات من بعضها بعضاً والحقبة الحزينة في تاريخ ألمانيا من دون - وهذا هو المهم - أن تنتهج الطريق السهل لإدانة جاهزة. بتجنّب إدانة جاهزة (الإدانة موجودة عليك أن تتعب قليلاً للوصول إليها).
نجاح «حياة الآخرين»، الذي نال أوسكار أفضل فيلم أجنبي في العام التالي لإنتاجه، لم يكن بسبب موضوعه وما يُثيره عن حياة مبدعين ومثقّفين يحاولون التنفس في الهامش الضيق من الحياة ليكتشفوا أن هذه المساحة أصغر من أن تلبي حاجاتهم، بل، وفي الأساس، لأن الفيلم عمل رائع يخلو من همجية الكاميرا المحمولة وفوضى الحماس لموضوع من السهل الوقوف فيه لجانب أبطاله الأبرياء من كل ذنب سوى ذنب التفكير.
هناك متعة خاصّة في أفلام حول التجسس والبصبصة، ولو أنها هنا مرتبطة هنا باستعراض مرحلة سياسية سابقة.
فون دونرسمارك يمنح الفيلم الثقل الفني المناسب للثقل الدرامي الذي يحتويه. يُعامله كما كانت السينما الأوروبية تُعامل مواضيعها الصعبة بكثير من ضخ العناصر الفنية والتقنية من دون هفوات. فيلم فيه نُتَفٌ من «كادرات» برغمان وكثير من إيحاءات سينمات أوروبية شرقية وغربية رصينة وأساليب عمل الألماني (الشرقي) كونراد وولف والسويدي يورن دونر، وحتى القدرة على معالجة موضوع شائك من دون التضحية بالتشويق الدفين في طيّات الاهتمام بشخصياته وما سيؤول إليه أمرها، كما في أفضل أفلام الفرنسي كلود شابرول.
قرب نهاية الفيلم، وبعد توحيد ألمانيا، هناك المشهد الذي يلتقي الوزير السابق هَمف بالكاتب دريمان فيقول له في مزيج من الأسى والتحدّي معاً: «بات من الممكن الآن كتابة أي شيء عن ألمانيا الجديدة. لا شيء للإيمان به. ولا شيء للتمرّد عليه».



هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
TT

هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)

عاش نقادُ وصحافيو السينما المنتمون «لجمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» (كنت من بينهم لقرابة 20 سنة) نعمة دامت لأكثر من 40 عاماً، منذ تأسيسها تحديداً في السنوات الممتدة من التسعينات وحتى بُعيد منتصف العشرية الثانية من العقد الحالي؛ خلال هذه الفترة تمتع المنتمون إليها بمزايا لم تتوفّر لأي جمعية أو مؤسسة صحافية أخرى.

لقاءات صحافية مع الممثلين والمنتجين والمخرجين طوال العام (بمعدل 3-4 مقابلات في الأسبوع).

هذه المقابلات كانت تتم بسهولة يُحسد عليها الأعضاء: شركات التوزيع والإنتاج تدعو المنتسبين إلى القيام بها. ما على الأعضاء الراغبين سوى الموافقة وتسجيل حضورهم إلكترونياً.

هذا إلى جانب دعوات لحضور تصوير الأفلام الكبيرة التي كانت متاحة أيضاً، كذلك حضور الجمعية الحفلات في أفضل وأغلى الفنادق، وحضور عروض الأفلام التي بدورها كانت توازي عدد اللقاءات.

عبر خطّة وُضعت ونُفّذت بنجاح، أُغلقت هذه الفوائد الجمّة وحُوّلت الجائزة السنوية التي كانت الجمعية تمنحها باسم «غولدن غلوبز» لمؤسسة تجارية لها مصالح مختلفة. اليوم لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة بعدما فُكّكت وخلعت أضراسها.

نيكول كيدمان في لقطة من «بايبي غيرل» (24A)

مفاجأة هوليوودية

ما حدث للجمعية يبدو اليوم تمهيداً لقطع العلاقة الفعلية بين السينمائيين والإعلام على نحو شائع. بعضنا نجا من حالة اللامبالاة لتوفير المقابلات بسبب معرفة سابقة ووطيدة مع المؤسسات الإعلامية المكلّفة بإدارة هذه المقابلات، لكن معظم الآخرين باتوا يشهدون تقليداً جديداً انطلق من مهرجان «ڤينيسيا» العام الحالي وامتد ليشمل مهرجانات أخرى.

فخلال إقامة مهرجان «ڤينيسيا» في الشهر التاسع من العام الحالي، فُوجئ عدد كبير من الصحافيين برفض مَنحِهم المقابلات التي اعتادوا القيام بها في رحاب هذه المناسبة. أُبلغوا باللجوء إلى المؤتمرات الصحافية الرّسمية علماً بأن هذه لا تمنح الصحافيين أي ميزة شخصية ولا تمنح الصحافي ميزة مهنية ما. هذا ما ترك الصحافيين في حالة غضب وإحباط.

تبلور هذا الموقف عندما حضرت أنجلينا جولي المهرجان الإيطالي تبعاً لعرض أحد فيلمين جديدين لها العام الحالي، هو «ماريا» والآخر هو («Without Blood» الذي أخرجته وأنتجته وشهد عرضه الأول في مهرجان «تورونتو» هذه السنة). غالبية طلبات الصحافة لمقابلاتها رُفضت بالمطلق ومن دون الكشف عن سبب حقيقي واحد (قيل لبعضهم إن الممثلة ممتنعة لكن لاحقاً تبيّن أن ذلك ليس صحيحاً).

دانيال غريغ في «كوير» (24A)

الأمر نفسه حدث مع دانيال كريغ الذي طار من مهرجان لآخر هذا العام دعماً لفيلمه الجديد «Queer». بدءاً بـ«ڤينيسيا»، حيث أقيم العرض العالمي الأول لهذا الفيلم. وجد الراغبون في مقابلة كريغ الباب موصداً أمامهم من دون سبب مقبول. كما تكرر الوضع نفسه عند عرض فيلم «Babygirl» من بطولة نيكول كيدمان حيث اضطر معظم الصحافيين للاكتفاء بنقل ما صرّحت به في الندوة التي أقيمت لها.

لكن الحقيقة في هذه المسألة هي أن شركات الإنتاج والتوزيع هي التي طلبت من مندوبيها المسؤولين عن تنظيم العلاقة مع الإعلاميين ورفض منح غالبية الصحافيين أي مقابلات مع نجوم أفلامهم في موقف غير واضح بعد، ولو أن مسألة تحديد النفقات قد تكون أحد الأسباب.

نتيجة ذلك وجّه نحو 50 صحافياً رسالة احتجاج لمدير مهرجان «ڤينيسيا» ألبرتو باربيرا الذي أصدر بياناً قال فيه إنه على اتصال مع شركات هوليوود لحلّ هذه الأزمة. وكذلك كانت ردّة فعل عدد آخر من مديري المهرجانات الأوروبية الذين يَرون أن حصول الصحافيين على المقابلات حقٌ مكتسب وضروري للمهرجان نفسه.

لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة

امتعاض

ما بدأ في «ڤينيسيا» تكرّر، بعد نحو شهر، في مهرجان «سان سيباستيان» عندما حضر الممثل جوني دَب المهرجان الإسباني لترويج فيلمه الجديد (Modi‪:‬ Three Days on the Wings of Madness) «مودي: ثلاثة أيام على جناح الجنون»، حيث حُدّد عدد الصحافيين الذين يستطيعون إجراء مقابلات منفردة، كما قُلّصت مدّة المقابلة بحدود 10 دقائق كحد أقصى هي بالكاد تكفي للخروج بحديث يستحق النشر.

نتيجة القرار هذه دفعت عدداً من الصحافيين للخروج من قاعة المؤتمرات الصحافية حال دخول جوني دَب في رسالة واضحة للشركة المنتجة. بعض الأنباء التي وردت من هناك أن الممثل تساءل ممتعضاً عن السبب في وقت هو في حاجة ماسة لترويج فيلمه الذي أخرجه.

مديرو المهرجانات يَنفون مسؤولياتهم عن هذا الوضع ويتواصلون حالياً مع هوليوود لحل المسألة. الاختبار المقبل هو مهرجان «برلين» الذي سيُقام في الشهر الثاني من 2025.

المديرة الجديدة للمهرجان، تريشيا تاتل تؤيد الصحافيين في موقفهم. تقول في اتصال مع مجلة «سكرين» البريطانية: «الصحافيون مهمّون جداً لمهرجان برلين. هم عادة شغوفو سينما يغطون عدداً كبيراً من الأفلام».

يحدث كل ذلك في وقت تعرّضت فيه الصحافة الورقية شرقاً وغرباً، التي كانت المساحة المفضّلة للنشاطات الثقافية كافة، إلى حالة غريبة مفادها كثرة المواقع الإلكترونية وقلّة عدد تلك ذات الاهتمامات الثقافية ومن يعمل على تغطيتها. في السابق، على سبيل المثال، كان الصحافيون السّاعون لإجراء المقابلات أقل عدداً من صحافيي المواقع السريعة الحاليين الذين يجرون وراء المقابلات نفسها في مواقع أغلبها ليس ذا قيمة.

الحل المناسب، كما يرى بعض مسؤولي هوليوود اليوم، هو في تحديد عدد الصحافيين المشتركين في المهرجانات. أمر لن ترضى به تلك المهرجانات لاعتمادها عليهم لترويج نشاطاتها المختلفة.