أنفاق حزب الله.. الهجوم من تحت الأرض

استعملها لحماية مقاتليه وقواعد لصواريخه.. وممرات انتقال لنصر الله

أنفاق حزب الله.. الهجوم من تحت الأرض
TT

أنفاق حزب الله.. الهجوم من تحت الأرض

أنفاق حزب الله.. الهجوم من تحت الأرض

قبيل ساعات من هجوم حزب الله اللبناني على دورية إسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، ردا على الهجوم الإسرائيلي على موكب للحزب في منطقة القنيطرة السورية، كانت إسرائيل تطلق عملية بحث واسعة على طول خط الحدود المحاذي لمستوطنات الجليل الأعلى، بحثا عن أنفاق يحتمل أن يكون الحزب قد بناها عبر الحدود. وبعد العملية عادت عمليات التنقيب عن الأنفاق لتنطلق بزخم في أكثر من موقع قريب من الحدود اللبنانية، من دون أن تسفر عن نتائج واضحة.

رغم إصرار القيادة العسكرية الإسرائيلية على استبعاد هذا الاحتمال، فإنها استجابت لضغوطات سكان المستوطنات بعد أن تصاعدت شكواهم من «أصوات تحت الأرض» يعتقدون أنها ناجمة عن حفر الحزب أنفاقا تصل إلى ما تحت منازلهم. ففي ظل التفوق العسكري الإسرائيلي فوق الأرض (في الجو والبر والبحر) وجد حزب الله نفسه مضطرا للنزول تحت الأرض. ويقول مصدر لبناني إن الحزب بدأ النزول تحت الأرض دفاعيا، بمعنى السعي للاختفاء عن العين الإسرائيلية المتمثلة بسلاح الطيران ووسائل التجسس الحديثة، وذلك لحماية قواته ومعداته، أما في حال ثبت وجود أنفاق تمر عبر الحدود، فهو يكون قد انتقل إلى مرحلة الهجوم من تحت الأرض.
وتنطلق المخاوف الإسرائيلية من أنفاق حزب الله من 3 معطيات أساسية، أولها أن الحزب كشف في أكثر من مناسبة عن وجود أنفاق لديه، يستعملها لمواجهة الإسرائيليين، بعضها يتسع لسيارات وآليات ثقيلة، وصولا إلى الصواريخ البعيدة المدى التي يعتقد أنه يمتلكها، والتي لا يمكن أن يحتفظ بها فوق الأرض. أما المعطى الثاني، فهو أن حزب الله هو من درب حركتي حماس و«الجهاد الإسلامي» على حفر الأنفاق، ويقال إنه ساهم بتهريب آلات حفر إليهما استخدمت في بناء الأنفاق التي استعملت للتهريب تحت الحدود المصرية، وكذلك في الحفر تحت المواقع الإسرائيلية لتنفيذ عمليات هجومية كما حدث في حرب الصيف الماضي في قطاع غزة. وقالت الإذاعة الإسرائيلية أخيرا إن الأنفاق المكتشفة في غزة باتت تثير مخاوف من إمكانية حفر حزب الله أنفاقا تصل إلى المستوطنات لا سيما في ضوء إمكاناته المادية والتقنية التي تفوق بأضعاف إمكانات المقاومة الفلسطينية. أما المعطى الثالث، فهو تهديدات أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله الذي دعا في أكثر من مناسبة مقاتليه للاستعداد لاحتلال قرى الجليل، وهو ما لم يجد له السكان تفسيرا سوى أن الحزب قد حفر بالفعل أنفاقا تحت مستوطناتهم.
ولم تتعاط السلطات الإسرائيلية، العسكرية والسياسية، في بداية الأمر مع الموضوع بجدية، مما دفع بالسكان إلى التعاقد مع مقاولين محليين للقيام بعمليات الحفر والتنقيب، ما اضطر الجيش إلى القيام بعمليات البحث الأخيرة التي استؤنفت بعد العملية العسكرية في شبعا من دون نتائج واضحة. وقال رئيس لجنة سكان مستوطنة زرعيت، يوسي أدوني، إن لجنة سكان المستوطنة اتخذت قرارا بهذا الخصوص وإنها بدأت الخطوات اللوجستية الأولى لبدء عمليات البحث عن الأنفاق وكشفها. وكان ضابط الهندسة الرئيسي في سلاح الهندسة بالجيش الإسرائيلي، العقيد أوشري لوجسي، قد نفى في مقابلة مع الإذاعة العسكرية، وجود أنفاق من لبنان إلى المستوطنات الإسرائيلية، مؤكدا أنه «وفقا للمعلومات المتوفرة لدي، فلا توجد أنفاق في الشمال، كما لا توجد بنية تحتية لسياج حدودي، خلافا للوضع في قطاع غزة». لكن سكان المستوطنات الحدودية وجهوا رسالة لقائد المنطقة الشمالية، يائير كوخافي، طالبوا فيها بلقائه والاستماع لشكاواهم وإلا فإنهم يعتزمون أخذ زمام المبادرة والبدء بعمليات البحث عن الأنفاق.
وقد تطرق وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون لتجدد عمليات الحفر، التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي على الحدود الشمالية بحثا عن «الأنفاق الهجومية» لحزب الله، بحسب زعمه، مؤكدا أن حزب الله «ليس بحاجة إلى هذه الأنفاق»، وأن طبيعة المنطقة تسمح له بالتسلل والدخول إلى «إسرائيل».
ورغم أن الجيش الإسرائيلي استخف بالمعلومات علنا، فإنه قدم أكثر من إشارة إلى جدية هذا الاحتمال، كان أوضحها قيامه منذ نحو شهرين بإخلاء موقع عسكري عند الحدود مع لبنان لشكه بوجود نفق تحته قد يسمح للحزب بتفجيره من تحت الأرض أو الخروج منه لمهاجمة الجنود. وقال الخبير بالشؤون العربية دورون بيسكين للإذاعة الإسرائيلية: «منذ عام 2006 هناك كثير من التقارير العلنية في وسائل الإعلام العربية وغيرها، تتحدث عن وجود أنفاق في جنوب لبنان، وحزب الله لم يحاول إخفاء أنه يوسع شبكة أنفاقه، وما هو معروف أنه من جنوب الليطاني وحتى الحدود الإسرائيلية توجد شبكة أنفاق تابعة لحزب الله، ونحن نتحدث عن أنفاق إذا ما قارناها بما يحدث في غزة، فإن الأمر يبدو كلعبة أطفال مقابل ما يوجد لدى حزب الله». وأضاف بيسكين: «أولا، وقبل كل شيء، فإن حزب الله هو من جلب أسلوب وتكتيك الأنفاق إلى منطقتنا، وحماس تعلمت هذا الأسلوب من حزب الله، فحزب الله منذ أواسط سنوات التسعينات يستخدم هذه الأنفاق، أي إن لديه خبرة أكثر من 20 سنة، وقد نقل هذه المعرفة لحماس عندما كانت العلاقات طيبة بين المنظمتين، فضلا عن أن الموارد المالية لدى حزب الله أكبر من موارد حماس، وتمويل الحزب يأتي من إيران إضافة إلى جهات إضافية تعمل في إيران لصالح حزب الله من أجل جمع الأموال، مما حول حزب الله إلى نوع من الإمبراطورية الاقتصادية في لبنان وخارجه، وهو منظمة تتداول المليارات في السنة بكل الطرق، أي إن حزب الله كانت لديه إمكانية الأنفاق، وما نعرفه أن هذه الأنفاق تصل إلى جنوب لبنان، ولكن هل تتجاوزه أم لا؟ نحن لا نعرف. أما في شرق لبنان على الحدود مع سوريا فحزب الله يستعين بشركات مقاولات لبنانية تستخدم آليات ثقيلة لبناء الأنفاق، أما على حدودنا، فالأمر ليس على هذا النحو».
ولفت بيسكين إلى أن «طبيعة الأرض في الشمال أصعب مقارنة بالأرض في غزة»، لكنه أبدى اعتقاده بأن حزب الله وجد لهذا أيضا حلا، فالحديث «لا يدور عن أنفاق لإطلاق الصواريخ بصورة أوتوماتيكية بتقنية إيرانية تصعب على سلاح الجو العمل ضدها، إنما نتحدث عن شبكة أنفاق يوجد فيها كل ما يلزم لمئات وربما لآلاف المقاتلين للبقاء مدة طويلة تحت الأرض».
وفي المقابل، يؤكد الخبير العسكري اللبناني العميد المتقاعد نزار عبد القادر، أن كل ما يحكى عن أنفاق عابرة للحدود لحزب الله هو كلام غير منطقي ولا يمت إلى الواقع الجغرافي للمنطقة بصلة. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «حزب الله يتمنى أن يملك أنفاقا تمتد من داخل القرى اللبنانية لتصل إلى مقربة من مستعمرات الجليل، لكن هذا الأمر هو نوع من الخيال، ومن المستبعد أن ينفذ، نظرا إلى جغرافية المنطقة وطبيعة الأرض الوعرة والصخرية التي تتطلب جهودا هائلة وآلات خاصة لحفرها». وأضاف: «انطلاقا من هذا الواقع، أعتقد أن ما يملكه الحزب، هو عبارة عن أقبية وملاجئ ومخابئ للأسلحة ومراكز لهجماته ضد إسرائيل، وهذا أمر طبيعي. وإذا امتلك بعض الأنفاق، فإن طولها لن يتعدى المائة متر، وستكون موجودة على الحدود وداخل الأراضي اللبنانية يستخدمها مخابئ تحت الأرض وتصل بين بعض المواقع الاستراتيجية ومراكز الرمي».
ورأى عبد القادر أن «ما يحكى عن أنفاق من الممكن أن توجد في منطقة واحدة هي الوزاني ما بين مزارع شبعا والخط الأزرق، لكن هذا الموقع لا يعتبر خط التركيز الأساسي الذي يخدم جهود حزب الله العسكرية».
وأوضح بيسكين أنه «بالإضافة إلى منصات الإطلاق وغرف الحرب، هناك عيادات طبية وغرف طعام ومراحيض، أي كل ما يحتاجه مقاتلو الحزب مثل الإضاءة والاتصالات، ومن الصعب معرفة عمق هذه الأنفاق، لأن حزب الله لا ينشر تفاصيل، وما ينشره يعرف أن الاستخبارات الإسرائيلية وغيرها تتابعه، وهو لا يخشى من ذلك». ويرى بيسكين أنه «بما أن حزب الله لا يوجد لديه سلاح جو ولا يستطيع نقل قوات عبر الحدود، فإن حديثه عن السيطرة على الجليل يمكن أن يكون إشارة إلى تكتيك الأنفاق»، مشددا إلى أنه «يجب أخذ حزب الله بجدية في هذا السياق، ويجب في هذه الفترة القيام بتعزيز الجهد». وبشأن تقنيات العثور على الأنفاق، أشار إلى أنه «إذا كانت توجد مثل هذه الوسائل، فهي قيد التطوير».
وقد استفاد حزب الله من تجربة الأنفاق التي كان المقاتلون الفلسطينيون حفروها في جنوب لبنان، قبل اجتياح إسرائيل للجنوب عام 1982، وبدأ بالاعتماد على الأنفاق فعليا بعد سنوات قليلة من إطلاق عملياته العسكرية ضد إسرائيل، أي في التسعينات. ويقول مقاتل سابق في الحزب، كان شارك في العمليات العسكرية ضد إسرائيل في جنوب لبنان، إن طائرات الاستطلاع الإسرائيلية كانت تصور منطقة جبل مليتا (الذي بات الآن منتجعا سياحيا حربيا لحزب الله في الجنوب) يوميا، وتراقب ازدياد كمية الردم في مناطق الجبل، قبل أن تصل طائرات حربية وتقصف مواقع في الجبل قريبة من الردميات، في محاولة لإغلاق الأنفاق.
ونجحت التجربة في إخفاء مقاتلي الحزب عن شبكات الرصد الإسرائيلية في داخل الجبال الشاهقة في الجنوب، وإخفاء الأسلحة التي كان المقاتلون يستخدمونها، واتسعت التجربة حتى باتت على نطاق واسع، وظهرت في حرب يوليو (تموز) 2006 بين الحزب وإسرائيل؛ إذ سجلت تقارير تلفزيونية غربية في أحد أنفاق الحزب في الجنوب، بعد انقضاء الحرب، وظهرت في داخله مقومات العيش الطبيعي، مثل وجود مطبخ وحمامات وغرف تستخدم لأغراض عسكرية مربوطة بشبكة اتصالات مع القيادة.
وذكرت تقارير إسرائيلية بعد الحرب، أن حزب الله بدأ ببناء الشبكة في مناطق حدودية مع إسرائيل، منذ عام 2000، واستخدمها لإيواء مقاتليه، إلى جانب بناء مخازن متعددة للأسلحة شملت مخزونا هائلا من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، بالإضافة إلى صواريخ موجهة مضادة للدروع، ووجدت فيها أجهزة اتصالات وسلاح إشارة، إلى جانب الأعتدة العسكرية.
وذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية في الصيف الماضي، أن أنفاق الحزب خضعت لعمليات تحديث وتطوير لافتين، بما يشمل توسعتها بصورة ملحوظة، إن لجهة التجهيزات أو لجهة المناطق التي تصل إليها. وأفادت بأن الأنفاق لم يعد استخدامها مقتصرا على تخزين الوسائل القتالية، بل باتت مصممة لتكون مراكز سيطرة وتحكم واستيعاب مئات المقاتلين، وبما يشمل مطابخ وحمامات وعيادات.
ويقدم حزب الله في نفق مليتا، نموذجا مصغرا عن أنفاقه المحتملة، يعرضه أمام زوار الموقع من العرب والأجانب. ويقول مسؤول لبناني على اتصال مع حزب الله إن الإسرائيليين أوفدوا كثيرا من الصحافيين الأجانب لزيارة الموقع وطرح أسئلة خاصة لمعرفة المزيد عن تقنية الحفر والتمويه التي يستخدمها الحزب. لكنه أشار في المقابل إلى أن الموقع المذكور هو مجرد «نسخة متخلفة» مقارنة بما يمتلكه الحزب الآن، مشيرا إلى أن أنفاق الحزب تُستخدم في الأساس مواقع لوجستية لحماية المقاتلين، وتخزين الغذاء والذخيرة، وتأمين مواقع لانطلاق الهجمات ضد الإسرائيليين إذا ما دخلوا الأراضي اللبنانية على غرار ما حصل في حرب عام 2006.
ولا تقتصر الشكاوى من الأصوات على الإسرائيليين، ففي القرى اللبنانية البقاعية، يذكر كثير من السكان أنهم يسمعون أصوات الحفر المكتومة ليلا، خصوصا في مناطق جبلية يعتقد أن الحزب يحفرها كمراكز لقوته الصاروخية البعيدة المدى التي يقال إن باستطاعتها تغطية كل المواقع الإسرائيلية. والأمر نفسه ينسحب على منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت حيث معقل حزب الله؛ إذ أفيد بعد عام 2006 عن سماع أصوات حفر رتيبة في أكثر من منطقة تؤشر إلى عمليات حفر أنفاق محتملة. ويقول أحد السكان إن المنطقة التي كانت تسمع فيها هذه الأصوات حصلت فيها بعض الأشياء الغريبة، مثل جفاف بعض الآبار الارتوازية المحفورة، مما يؤشر إلى إصابتها بعمليات الحفر.
وكانت الأنفاق التي بناها حزب الله في الضاحية، واحدة من أبرز أسباب صموده فيها خلال الغارات الإسرائيلية. فتلفزيون «المنار» التابع للحزب استمر بالبث على الرغم من غارات إسرائيلية أنزلت المبنى إلى دون مستوى الأرض. وقد كشف مسؤولون في المنار لـ«الشرق الأوسط» بعد الحرب أن البث استمر من تحت الأرض لفترة، وأن الموظفين كانوا في المبنى لحظة قصفه وخرجوا منه عبر أنفاق بديلة قادتهم إلى مبان بعيدة عن مبنى المحطة.
كما استعمل الحزب الأنفاق لتمويه تحركات أمينه العام حسن نصر الله في أكثر من مناسبة، حيث تفيد بعض التقارير أن الحزب كان يمد أنفاقا تصل إلى ما تحت المنبر الذي يخطب منه نصر الله، وتمتد إلى ما تحت مبان مجاورة لاستعمالها طرق هروب في حال تعرضه لهجوم، أو طريقة تمويه خلال مغادرته أو وصوله إلى موقع الحدث الذي يشارك فيه.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».