تآكل الخصوصية يمهد الطريق لسيطرة «الطغمة المعلوماتية»

البيانات الجينية الشخصية تقدم معلومات حتى عن الأجيال التي لم تولد بعد

«إعادة التشغيل: لنستعيد الإنترنت للمجتمع المدني» Reset: Reclaiming the Internet for Civil Society رونالد ديبرت Ronald Deibert
«إعادة التشغيل: لنستعيد الإنترنت للمجتمع المدني» Reset: Reclaiming the Internet for Civil Society رونالد ديبرت Ronald Deibert
TT

تآكل الخصوصية يمهد الطريق لسيطرة «الطغمة المعلوماتية»

«إعادة التشغيل: لنستعيد الإنترنت للمجتمع المدني» Reset: Reclaiming the Internet for Civil Society رونالد ديبرت Ronald Deibert
«إعادة التشغيل: لنستعيد الإنترنت للمجتمع المدني» Reset: Reclaiming the Internet for Civil Society رونالد ديبرت Ronald Deibert

هل تأخرنا في حماية خصوصيتنا الرقمية، بحيث أصبح من الصعب وقف التيار المتصاعد لـ«تجريف» الهوية الشخصية، بكل سماتها الثقافية والمهنية... بل حتى البيولوجية، ومن ثم تعريض أجيالنا المقبلة من الأبناء والأحفاد إلى أخطار النفاذ إلى عمق خصوصياتهم نفسها؟ هذه الأسئلة يطرحها كتاب رونالد ديبرت الموسوم «إعادة التشغيل: لنستعيد الإنترنت للمجتمع المدني».
الكاتب الذي أسس «مختبر المواطن» بجامعة تورونتو الكندية الذي يعد واحداً من أفضل مؤسسات رصد تهديدات شبكة الإنترنت للحريات، يشير إلى انتشار مواقع إلكترونية تحلل عينات من الحمض النووي (دي إن إيه) كي تخبر المشتركين بها بأحوالهم الصحية أو بسلالات أجدادهم... لكنها تتقاسم البيانات مع شركات أخرى، مثل شركات تأجير البيوت والغرف السياحية التي ترسل إشعارات لهم لسفرات سياحية إلى مواطن أجدادهم!
والأدهى من ذلك أن تتشارك كبريات شركات الأدوية الصيدلانية بالمعلومات الجينية الشخصية لكي توجه إشعاراتها بالأدوية التي تناسب حالات الأشخاص الصحية، هذا عدا تهافت شركات التأمين على الحياة للاستحواذ على حصتها من البيانات.
ويحذر ديبرت من أنه، حتى عند وجود أفضل النوايا الحسنة لدى كبريات الشركات، يحمل وضع الحمض النووي الشخصي في خزائنها نوعاً من الخطورة، إذ ما إن تقدم عينة الحمض حتى يتمكن آلاف الأشخاص من الدخول إلى البيانات الجينية، ثم يزداد العدد فيما بعد إلى ملايين، وفقاً للكاتب. والأمر الأكثر إزعاجاً هو أنك «عندما تقدم عينة من (دي إن إيه)، فإنك تقدم بيانات جينية عن نفسك وكل سلالتك العائلية... وحتى الأجيال المقبلة التي لم تولد بعد»، كما يقول.
وتأتي هذه التحذيرات على غرار تحذيرات السير تيم بيرنرز - لي الذي وضع قبل 3 عقود أسس الشبكة العنكبوتية، ولم يصبح واحداً من مليارديرات الإنترنت. وقد أكد في مختلف مداخلاته الإعلامية الأخيرة أن الإنترنت قد خرجت عن ميزتها الأولى، ودخلت في متاهة وتحولت إلى منصة مراقبة عالمية. ويعود ذلك إلى ازدياد سطوة الشركات الكبرى، مثل «غوغل» و«فيسبوك»، التي لا يسميها بالاسم، بل يطلق عليها مصطلح «خزانات»، وأيضاً ازدياد تراكم ثروة البيانات.
ويقول ديبرت في كتابه إنه في حين تدعي شركات الإنترنت أنها تحافظ على سرية المعلومات، فإن وجود كثير من البيانات القيمة يزيح كل جدران الأخلاقيات، ويفسح المجال للشركات للتشارك بها. وتمتلك 5 شركات تكنولوجية كبرى الأدوات اللازمة للاستحواذ على كل ما يقدمه مستخدمو الإنترنت من بيانات، والاستفادة منها... «أي امتلاكنا جميعاً».
وعند سرده لتلك الأدوات، يشير الكاتب إلى أن شركة «كلير فيو للذكاء الصناعي» مثلاً نجحت في جمع مليارات الصور الشخصية المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي، لوضع قاعدة بيانات بالصور يمكن مقارنتها مع أي صورة تلقطها كاميرات المراقبة المنصوبة في الشوارع والبنايات حول العالم.
وتعد قوات الشرطة والشركات الأمنية الخاصة أهم زبائن الشركة، في حين توظفها جهات أخرى لأغراض الترفيه، وتستخدمها مجموعات رابعة لأهداف استخباراتية. ويقول الكاتب إن «مختبر المواطن» أصبح هدفاً لمختلف الجهات التي تحاول إسكاته. وتحدث كيف تمكن هو وزملاؤه من كشف حقيقة جاسوس قدم نفسه على أنه باحث في العلوم الزراعية وطلب لقاءهم، وظهر أنه مرتبط بالمخابرات الإسرائيلية.
وأخطر تحذيرات الكاتب هو تحذيره من أن العالم ينزلق إلى مرحلة «الطغمة المعلوماتية» التي يغذيها ملايين المشاركين بمنصات التواصل الاجتماعي. وهذه الطغمة لا تريد أن تعرف «ماذا نفعل الآن» فحسب، بل تحاول أن تعرف «ماذا سنفعل»!
خذ مثلاً الألعاب الإلكترونية الهاتفية التي يعدها الكاتب «مجرد آلات مراقبة متطورة»، إذ تتكيف تطبيقات الألعاب مع سلوك اللاعب لكي تدفعه للاستمرار في اللعب. ويقول إن هذا الأسلوب مشابه لعمل الزر «لايك» في «فيسبوك» المصمم -وفقاً للرئيس السابق للمنصة شون باركر- لاستغلال الضعف في سيكولوجية الإنسان. وهنا ترصد «ملتهمات المعلومات»، أي نظم الذكاء الصناعي، البيانات والعلامات مكونة صورة عن المستخدم، وعن سلوكه المقبل.
ويجري تطوير أعداد من هذه الملتهمات المعلوماتية موجهة لترويج تغييرات تتلاءم مع الواقع. ومن ذلك ادعاء شركة علاقات عامة أنها تؤمن «استخدام كل أداة وميزة متوفرة بهدف تغيير الواقع وفقاً لرغبات الزبائن»!
ماذا يقترح ديبرت، إذن؟ يقول الكاتب إن علينا أن «نستغل فرصة نادرة في كل حياتنا لإعادة التشغيل»، وذلك بتمكيننا من استعادة حريتنا، بضبط المستخدم للنفس، وإصدار قوانين ضد اللاعبين السيئين في الإنترنت، ووضعهم أمام مسؤولياتهم.
ويحذر من أن النموذج الحالي للإنترنت يحمل مساوئ أكثر من جائحة «كوفيد»، لأن «طغيان الشركات الكبرى غدا معتمداً على الشفافية الاستثنائية غير المسبوقة للحياة الشخصية لكل منا، بكل مستوياتها... حتى الجينية منها، وربما لحياتنا اللاواعية أيضاً».
أما بيرنرز-لي، فيقترح وضع نموذج جديد للإنترنت يدور حول ما يسميه «مخازن البيانات الإلكترونية الشخصية» Personal online data stores (Pods) التي ستشكل العنصر التقني الحيوي لذلك النموذج. وتدور فكرته حول أن كل شخص يمكنه التحكم ببياناته الخاصة -سواء كانت بيانات عن مواقع إلكترونية زارها، أو تحويلات مالية ببطاقات مصرفية، أو نظام ممارسته للرياضة، أو تمتعه بالأغاني من الإنترنت- داخل خزنة سرية للبيانات تحتل حيزاً في ذاكرة جهاز خادم كومبيوتري. ولا يمكن للشركات الدخول إلى البيانات الشخصية إلا بإذن من أصحابها.



«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».