صندوق فيروز الأسود... لبنان كما صاغه شعراؤه الرومانطيقيون

بفضل الإنترنت بدأنا نسترجع ما فاتنا أن ننتبه إليه

عاصي ومنصور رحباني
عاصي ومنصور رحباني
TT

صندوق فيروز الأسود... لبنان كما صاغه شعراؤه الرومانطيقيون

عاصي ومنصور رحباني
عاصي ومنصور رحباني

لم يمنحنا الأخوان رحباني فرصة كافية لهضم ما أنتجاه تأليفاً وتلحيناً وتوزيعاً من أغانٍ يقارب عددها الألف، خلال فترة قياسية لا تزيد عن ربع قرن، وهي فترة عملهما مع فيروز، قبل انفصالها عن زوجها عاصي الرحباني عام 1978.
وقد لعب صوت فيروز شديد الندرة دوراً حاسماً في أن يصبح هذه الإنتاج الموسيقى الكبير جزءاً من طقوس الصباح الأساسية لأغلبية المشارقة الذين تفتحت أسماعهم على أغانيها التي تنقلها بعض الإذاعات العربية صباحاً.
ولست متأكداً ما إذا كان التعود على سماع فيروز صباحاً فقط إيجابياً أو سلبياً، فحالة الاستيقاظ الكامل تتطلب وقتاً أطول مما يسمح به تناول الفطور والاستعداد السريع للتوجه إلى العمل أو المدرسة أو الجامعة.
إضافة إلى ذلك، كانت تلك الحنجرة القادرة على التنقل بين الطبقات الصوتية بسلاسة نادرة والموسيقى المكثفة الغنية بآلات حساسة كالأكورديون والبيانو، والمحسوبة جملها اللحنية المتنوعة بالثواني، تجذبان المتلقي إليهما أكثر من الكلمات التي ترددها فيروز.
ومع دخول لبنان الحرب الأهلية عام 1975 لأكثر من عقد، ورحيل عاصي الرحباني عام 1986عن عمر 53 سنة فقط، تلاشت تلك السطور القليلة الباقية في ذاكرة الكثير من الأجيال الذين عاصروا الظاهرة الرحبانية في أفضل تجلياتها: أغاني فيروز.
في البحث الدؤوب عن هذا الكنز الذي لم يكن سهلاً توافره مطبوعاً قبل الثورة الرقمية وبروز الإنترنت وما رافقها من ظهور مواقع كثيرة مهتمة بهذا الشأن، بدأنا نسترجع ما فات علينا أن ننتبه إليه في وقته.
وأهم ما فاتنا في عدم الالتفات إلى كلمات أغاني فيروز هو فشلنا في اكتشاف جيل من الشعراء الرومانطيقيين اللبنانيين، كانوا قد تعلموا في المدارس التي يديرها الآباء خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، ومن أوائلهم كان شعراء المهجر، أبرزهم جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة.
لعل جبران الذي أعادته عائلته إلى لبنان عام 1897 (وهو في سن الخامسة عشرة) ليتابع دراسة العربية التي لم يكن يتقنها في «مدرسة الحكمة»، يعتبر رائداً لهذه الحركة التي بلغت أوجها في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، وبدأت تتلاشى مع بدء القرن العشرين لتفتح الباب إلى الحداثة الفنية (modernism) في الشعر والرواية والرسم والنحت وغيرها.
ما يميز الحركة الرومانطيقية الأوروبية (الألمانية والفرنسية والإنجليزية) هو قوة حضور المبدع في عمله (على عكس الحركة الكلاسيكية التي سبقتها، حيث الشاعر أو الموسيقي أو الروائي يضع مسافة ما بين عواطفه ومشاعره وما يبدعه)، وحضور قوي للطبيعة بعناصرها الكثيرة المتداخلة مع عاطفة جامحة.
وقد ساعد تكون هؤلاء الشعراء اللبنانيين خلال سنوات دراستهم المعمقة لما أبدعه الشعراء الرومانطيقيون الفرنسيون مثل ألفريد دو موسيه وفيكتور هيغو وبودلير ولروتريامون، وللمعلقات، وما أنتجه كبار شعراء العصر العباسي، ما جعل قصائدهم تتمتع معاً بالبناء الكلاسيكي للقصيدة العمودية وبأسلوب معاصر يستثمر الإرث الشعري الغربي.
عنصر آخر أضافه هؤلاء الشعراء الذين ضمهم الرحابنة في ترسانة أغاني فيروز هو سعيهم المشترك لإعادة صياغة لبنان بتحويله إلى يوتوبيا مسورة بتمائمهم التي ستحميها من العالم الخارجي وأزماته وحروبه. وآخر خاصية في إنتاجهم هو أن بعضهم استثمر أيضاً اللهجة الشامية التي تعد الأقرب إلى الفصحى، مثل الشاعر سعيد عقل.
ولعلنا نبدأ بالأخوين رحباني اللذين أصرا على أنهما كيان إبداعي واحد: روحاً وعقلاً. ولا بد أن الكم الهائل من القصائد الغنائية التي نظماها بالفصحى والدارجة الشامية كانت بفضل تشبعهم بموروث الأجيال التي سبقتهم.
غير أنهما كانا حريصين أكثر على إنتاجهما بتحويله إلى أغانٍ تسمع أكثر من قصائد تقرأ.
في قصيدة «أحبك في صمتي الوارف» التي غنتها فيروز أول مرة عام 1958 نتلمس الخصائص الرومانطيقية بأحسن تجلياتها، مع تقليد لبناء الموشحات، حيث القافية تتغير في كل أربعة أبيات:
أحبكَ في صمتي الوارف وفي رفة الهدُب الخائفِ
وبي يا ملون عمري إليك حنين الكروم إلى القاطفِ
حنين الشحارير عند الغروب إلى رحلة الموسم الهاتف
ذرى بالندى والبريق تظل كنهر من الوهج الصائف
غير أن قصيدة «طريق النحل» تنحو منحى آخر وهي أيضاً بصوت امرأة تخاطب حبيبها، حيث يصبح النحل والسماء وزهور الغابة عناصر أولية في القصيدة:
إنت وأنا يا ما نبقى نوقف على حدود السهل
وعلى خط السما الزرقا مرسومة بطريق النحل
أنا ومتكية ع بابي مرقت نحلة بكير
غلت بزهور الغابة وصارت تعمل مشاوير

- الشعراء الرواد
من أوائل الأغاني التي شدتها فيروز ومن ألحان الأخوين رحباني كانت للشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، وفيها يصبح النسيم كائناً بشرياً حياً يخاطبه الشاعر ليعبر عما يختلج في أعماقه:
أين من مقلتي الكرى يا ظلام أنصف الليل والخلِيون ناموا
مسحت راحة الكرى أعين الناس فنامت ونام فيها الغرامُ
وأنا تذكر الضياء عيوني مثلما يذكر الغصونَ الحمامُ
يا نسيم الدجى اللطيف احتملني لي عهد عند النسيم لزامُ
كلنا ناحل فأنت براك الله لكن أنا براني السقامُ
لعل سعيد عقل (1911 - 2014) كان الأكثر تأثيراً على الأخوين رحباني وظل مواظباً على نظم القصائد لفيروز بالدارجة والفصحى. في قصيدة «هموم الحب» (على بحر الرمل) تتشابك عناصر الطبيعة في نداء الفتاة لمحبوبها بالاستجابة لها، لكنها تضع شروطاً أصعبها أن يجمع الجزر من البحار خرزاً لقلادتها:
لاعِب الريشة واهوَ واضفر العمر ورودْ
واهوَني من ليس يهوى لم يزر هذا الوجودْ
لك هذا الريح عودٌ والغمامات وترْ
دع تُبددْكَ الجرود وليجمعْك القمرْ
وفي قصيدة أخرى، حيث الفتاة تخاطب حبيبها، طالبة منه الابتعاد عنها قليلاً، لأن الحب ما زال تجربة بكراً لا تعرفه تماماً، كأنها صفحات متجددة من «نشيد الإنشاد»:
بْحِبك ما بعرف هِن قالولي
مِن يومها صار القمر أكبر
ع تلالنا وصارت الزغلولة
تاكل ع ايدي اللوز والسكر
أما ميشال طراد (1912 - 1998) فيعد رائد الشعر العامي في لبنان، وهو الوحيد من بين أبناء جيله الشعراء الذي كتب بالدارجة الشامية فقط، لكنه في الوقت نفسه، استثمر ثقافته الواسعة، حيث أدخل عناصر الطبيعة والميثولوجيا الإغريقية في أعماله الشعرية، ناهيك عن تأثره بالشعراء الفرنسيين الرومانطيقيين الكبار. وقد ترجمت دواوينه الشعرية إلى لغات أخرى مثل الإنجليزية والفرنسية.
في قصيدة «جلنار» التي اختارها الأخوان رحباني وغنتها فيروز عام نقل طراد المشاعر الشخصية وأسقطها على شخصيات أسطورية، فجلنار هي تلك الربة التي تلتقي بأخيها الفجر كل يوم لتمنحه الضوء البرتقالي، والمِنجَيرة (الشبيهة بناي القصب) تصبح كائناً حياً هي الأخرى تعاني، من تأخر قدوم جلنار:
يا صبح روج طولِت ليلَك... خليت قلبي نار
بلكِي بتجي أختك تغنيلك... بلكي بتجي جلنار
صرخات عم بِتموُج بالوادي... مْعَنزَق عليها ضباب
لَبعيد عم بتروح وتنادي... بيظهر حبيبو غاب
هذه نماذج أسماء قليلة من قائمة طويلة لشعراء لبنانيين اقتبس الأخوان رحباني من قصائدهم مقاطع غنتها فيروز، وإذا تذكرنا أن أكثر من 400 قصيدة مغناة بين الفصحى والدارجة غنتها فيروز نظمها الرحبانيان العبقريان، نستطيع تصور مدى غنى هذا الموروث ذي الطبيعة الرومانطيقية، فهما جربا أيضاً تقليد النمط الأندلسي في العديد من القصائد، أشهرها «يا حبيبي كلما هب الهوى»، لكنهما يتبعان نهج من سبقوهما من شعراء مهدوا لهما هذا الإدماج الكامل بين العاطفة وعناصر الطبيعة بشتى تجلياتها:
يا حبيبي كلما هب الهوا
وشدا البلبل نجوى حبه
لفني الوجد وأضناني الهوى
كفراش ليس يدري ما به
غير أن الوهم الذي سعى إلى تحقيقه على أرض الواقع شعراء لبنان الرومانطيقيون جيلاً بعد جيل بتحويل لبنان إلى يوتوبيا لبنتها الأولى القرية المحاطة من كل جوانبها بعناصر البيئة من سماء وبحر وجبال وسهول وينابيع تفكك بعد هزيمة حزيران وما أعقبها من سلسلة أحداث آلت إلى حرب أهلية ضروس.
ولعل إصابة عاصي الرحباني بنزيف دماغي عام 1972 في أوج عطائه، وما ترتب عنه من حال مرضية مزمنة لاحقاً، ألحق بالمشروع الرحباني ضربة قاصمة.
ومع نشوب الحرب الأهلية بدا كأن ذلك العالم الفردوسي الذي خلقه شعراء لبنان وفنانوه الكبار، ولعب الأخوان رحباني دور الدينامو في تشكيله لم يكن كافياً لإطفاء حريقه سريعاً، بل استمر حتى بداية العقد الأخير من القرن الماضي.
فهل يمكن لهذا التراث الغني اليوم أن يكون موضع اهتمام واسع لا في لبنان بل في العالم العربي، لما يحمله من جماليات شديدة التميز والعذوبة؟



افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
TT

افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

نحو إثراء المشهد العالمي لفنون الوسائط الجديدة عبر تقديم وجوه إبداعية من المنطقة، تجمع بين الفن، والتكنولوجيا، والابتكار، افتتح مركز الدرعية لفنون المستقبل أبوابه رسمياً، اليوم (الثلاثاء)، بوصفه أول مركز مخصص لفنون الوسائط الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، متخذاً من منطقة الدرعية التاريخية المسجّلة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي موقعاً له.

ويأتي المركز في مبادرة تجمع بين وزارة الثقافة، وهيئة المتاحف، وشركة الدرعية في السعودية، في الوقت الذي انطلق ببرنامج متنوع يشمل أنشطة ومعارض فريدة ومبادرات تفاعلية مع الجمهور، مع التركيز على تمكين الفنانين والباحثين ومتخصصي التكنولوجيا من داخل المنطقة وخارجها، في بيئة إبداعية مجهزة بأحدث المختبرات والاستوديوهات الرقمية ومساحات العرض المبتكرة.

وقالت منى خزندار المستشارة في وزارة الثقافة السعودية إن «مركز الدرعية لفنون المستقبل يجسّد التزامنا بتطوير الإنتاج الفني المبتكر واحتضان أشكال جديدة من التعبير الإبداعي، فمن خلاله نسعى إلى تمكين الفنانين والباحثين ودعمهم لإنتاج أعمال بارزة والخروج بأصواتهم الإبداعية إلى الساحة العالمية».

وأشارت إلى أن المركز سيُوظّف مساحاته للتعاون والإبداع لترسيخ مكانة المملكة في ريادة المشهد الثقافي والتأكيد على رؤيتها في احتضان أشكال التعبير الفني محلياً وعالمياً.

من جانبه، بين الدكتور هيثم نوار مدير مركز الدرعية لفنون المستقبل أن افتتاح المركز يمثّل منعطفاً في السردية القائمة حول فنون الوسائط الجديدة، لكونه يخرج بالمرئيات والتصوّرات الإقليمية إلى منابر الحوار العالمية.

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

وقال: «إن المركز سيتجاوز حدود الإبداع المتعارف عليها نحو آفاق جديدة، وسيقدّم للعالم مساحة للابتكار والنقد الفني البنّاء عند تقاطع الفن والعلوم والتكنولوجيا».

وتتزامن انطلاقة مركز الدرعية لفنون المستقبل مع افتتاح معرضه الأول بعنوان «ينبغي للفنّ أن يكون اصطناعياً... آفاق الذكاء الاصطناعي في الفنون البصرية» خلال الفترة من 26 نوفمبر (تشرين ثاني) إلى 15 فبراير (شباط) المقبل، حيث يستكشف المعرض، الذي أشرف عليه القيّم الفني جيروم نوتر، تاريخ فن الحاسوب منذ نشأته في ستينات القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر، من خلال أعمال فنية متنوعة تحمل توقيع أكثر من 30 فناناً إقليمياً وعالمياً.

وسيحظى الزوار بفرصة استكشاف أعمال من صنع قامات في الفن أمثال فريدر نايك (ألمانيا) وفيرا مولنار (هنغاريا/فرنسا) وغيرهما من المُبدعين في ميادين الابتكار المعاصر مثل رفيق أناضول (تركيا) وريوجي إيكيدا (اليابان).

وسيكون للفنانين السعوديين لولوة الحمود ومهند شونو وناصر بصمتهم الفريدة في المعرض، حيث يعرّفون الزوّار على إسهامات المملكة المتنامية في فنون الوسائط الجديدة والرقمية.

وبالتزامن مع الافتتاح، يُطلق المركز «برنامج الفنانين الناشئين في مجال فنون الوسائط الجديدة»، بالتعاون مع الاستوديو الوطني للفن المعاصر - لوفرينوا في فرنسا. ويهدف البرنامج، الذي يمتد لعام كامل، إلى دعم الفنانين الناشئين بالمعدات المتطورة والتوجيه والتمويل اللازمين لإبداع أعمال متعددة التخصصات.

وأعلن المركز عن برنامج «مزرعة» للإقامة الفنية، المخصص لفناني الوسائط الرقمية، في الفترة من فبراير (شباط) حتى أبريل (نيسان) 2025، ويهدف إلى استكشاف العلاقة بين الطبيعة والتكنولوجيا والمجتمع من خلال موارد المركز.

ويجسد مركز الدرعية لفنون المستقبل «رؤية السعودية 2030»، التي تسعى إلى تعزيز الابتكار، والتعاون العالمي، وترسيخ مكانة المملكة بوصفها وجهة رائدة في الاقتصاد الإبداعي العالمي.