محاكمة ترمب تهدد بالقضاء على طموحه السياسي

الأميركيون يتساءلون عن جدوى محاكمة الرؤساء إذا كان التحزب لا الدستور هو الذي يحميهم من المحاسبة

محاكمة ترمب تهدد بالقضاء على طموحه السياسي
TT

محاكمة ترمب تهدد بالقضاء على طموحه السياسي

محاكمة ترمب تهدد بالقضاء على طموحه السياسي

ما لم يتنبه إليه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب هو أن محاولة عزله الأولى تركت وقعاً كبيراً، حتى على قواعده الشعبية. ترمب كان واثقاً من فوزه في الانتخابات التي أُجريت يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وكذلك الحزب الجمهوري، الذي كان «استسلم» لقبضة رئيسه بأمل الفوز الموعود، عندما اطلع الأميركيون على حقيقة ابتزازه للرئيس الأوكراني لتلفيق «أوساخ» لمنافسه جو بايدن، مقابل المساعدات العسكرية. لكن نتائج الانتخابات الكارثية، ثم خسارة الجمهوريين مقعدي مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا، أكثر الولايات ولاء لهم، كانت تطورات صادمة. ذلك أن ما جرى في انتخابات الإعادة التي نظمت في تلك الولاية الجنوبية بعد شهرين من خسارة الجمهوريين معركتي الرئاسة ومجلس النواب، اختصر المشهد السياسي الذي صوت عليه الأميركيون في 3 نوفمبر، بما هو تصويت على شرعية ترمب السياسية.

بعيداً عن الوصف الكلاسيكي لـ«تاريخية» محاكمات الرؤساء الأميركيين، لا شك في أن محاكمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب للمرة الثانية بهدف عزله - فضلاً عن كونها الأولى لمسؤول غادر السلطة - تأتي محاولة لنزع الشرعية السياسية عبر «عزله» لحرمانه مستقبلاً، ليس فقط من لعب دور سياسي، بل ومن الانقلاب على المنظومة السياسية التي تحميها «مؤسسة» سلطة عماد وجودها وعلتها هو ضمان التداول السلمي والديمقراطي للسلطة.
ورغم محاولة الحزب الجمهوري وفريق المدافعين عن ترمب، تصوير ما حدث ويحدث بـ«مسرحية المحاكمة السياسية»، فهذا الاتهام لا ينتقص من شرعيتها في نهاية المطاف. فمحاكمة رؤساء الدول، مهما كانت الدوافع والأسباب التي تقف وراءها، لا بد أن تتحول إلى محاكمة سياسية لعهودهم وسياساتهم وأحزابهم وتياراتهم.

- «كوفيد - 19»... وسوابق محاولات العزل
لا شك أن تداعيات جائحة «كوفيد - 19» الكارثية الصحية والاقتصادية لعبت دوراً مهماً في هزيمة ترمب. إلا أن فشل إدارته في إعداد خطة وطنية لمواجهة الجائحة، كشف أيضاً عن قصور سياسي على رأس أكبر وأغنى دولة في العالم. إذ نجح الديمقراطيون ومعهم «مؤسسة» السلطة في واشنطن، بتحويل أحداث 6 يناير (كانون الثاني) عندما اقتحام أنصار ترمب مبنى «الكابيتول» (مقر مجلسي الكونغرس)، إلى معركة سياسية عنوانها «عزل رئيس خرج من السلطة» لإنهاء حيثيته السياسية، وهذا بمعزل عن نتائج التصويت التي لا تزال تشير إلى تعذّر الحصول على 67 صوتاً من أعضاء مجلس الشيوخ لإدانته.
في المقابل، فتحت محاكمة ترمب الثانية نقاشاً سياسياً وحزبياً ودستورياً عن تاريخية محاكمة رئيس «مذنب» وجدواها. فإذا كانت تجارب العزل التي شهدتها الولايات المتحدة في تاريخها لم تؤد إلى إقالة أي رئيس من منصبه بسبب تمتعه بحماية حزبه، فما الجدوى من تكرار هذه التجارب؟ وما الذي يمكن تحقيقه في محاكمة ترمب الثانية أكثر من إظهار أن التحزب هو الذي يعمل وليس الدستور؟
قبل ترمب كانت هناك أربع محاولات عزل رئاسية منذ التوقيع على الدستور الأميركي عام 1787. ولم تؤد أي منها إلى الإقالة، ولكن في المقابل كان لكل منها نتائج سياسية كبيرة. فبعد فشل محاولة إقالة الرئيس أندرو جونسون عام 1868، فإنه أخفق في الترشح والحصول على ولاية رئاسية الثانية. وفي عام 1974 لم يُقل الرئيس ريتشارد نيكسون لكنه استقال تحت وطـأة فضيحة «ووترغيت» الهائلة. وفي عام 1998، أخفق الجمهوريون في إزاحة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، وبدلاً من ذلك، استقال خصمه الأكبر في ذلك الوقت رئيس مجلس النواب الجمهوري نيوت غينغريتش، وكذلك خلفه بوب ليفينغستون الذي اعترف بعلاقة غرامية خارج نطاق الزواج! ثم إن إدارة كلينتون كانت أول إدارة تفوز بمقاعد أكثر في الكونغرس في السنة السادسة من ولايته منذ إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية. وأخيراً، في عام 2020 فشلت عملية إقالة ترمب لكنه خسر الرئاسة، وفقد حزبه السيطرة على مجلس الشيوخ.
مع هذا، فإن النقاش الذي لا يزال مستمراً داخل أروقة مجلس الشيوخ، لا يقتصر فقط على «دستورية» محاكمة رئيس خرج من السلطة، وهي القضية التي حُسمت بتصويت المجلس على صحتها، مع انضمام 6 شيوخ جمهوريين إلى 50 ديمقراطياً. بل طُرح تساؤل آخر عما إذا كان اتهام الرئيس باقترافه «جرماً»، هو العلة الوحيدة التي تجيز محاكمته وعزله؟ أم أن سوء استخدامه للسلطة هو سبب آخر وأساسي كافٍ لعزله؟
لقد رفع محامو ترمب في دفاعهم عنه حجة تقول إن إدانته وحرمانه من تولي أي منصب في المستقبل من شأنه أن ينتهك حقوقه في التعديل الدستوري الأول، الذي يرقى إلى معاقبته على حرية إبداء رأيه. وقال محاميه ديفيد شوين، إن إدانة ترمب «تعرّض للخطر أي متحدث سياسي، وهو ما يتعارض مع كل ما نؤمن به في هذا البلد». غير أن هذا الادعاء قد يكون خاطئاً، بحسب العديد من القانونيين، الذين يجادلون بأنه حتى لو كان «التعديل الأول» (من الدستور الأميركي) يحمي ترمب من المسؤولية الجنائية والتقصيرية عن خطابه في 6 يناير (كانون الثاني) الماضي للحشد الذي اقتحم مبنى «الكابيتول» لاحقاً، فإن ليس له أي تأثير على ما إذا كان بإمكان الكونغرس إدانة واستبعاد الرئيس لسوء السلوك... الذي يقوم جزئياً على خطاب تحريضي، أدى بسرعة وبشكل متوقع، إلى أعمال عنف مميتة.

- النزاهة والمساءلة... والتبعات
واضعو الدستور الأميركي صمموا إجراءات الإقالة كطرق لعزل المسؤولين الفيدراليين الفاسدين. غير أنه استعيض عنها ليحل محلها ما يسمى «عمليات قانون النزاهة العامة الفيدرالي» الذي تفرضه وزارة العدل. وفي كل شهر تعلن وزارة العدل عن إجراءات في نحو عشرين حالة، بحسب إحصاءات رسمية، وشملت أخيراً على سبيل المثال عمدة سابقاً في إقليم غوام الفيدرالي (غرب المحيط الهادئ)، الذي قام بتغييرات وظيفية، عبر ابتزاز ضابط حدود سابق بتهم رشوة. ولكن، مع ذلك بقيت قضية المساءلة وطرقها التي صاغها الدستور حجة قوية تحرك دعاوى إقالة الرؤساء الأميركيين.
غير أن ما يمكن أن تفعله إجراءات العزل في العصر الحديث هو إرسال إشارة قوية إلى الجمهور حول خطورة بعض القضايا. فعندما يقدم مجلس النواب على إقالة الرئيس من منصبه، فإنه يعلن الخروج من ممارسة السياسة العادية إلى التعامل مع حالة طوارئ حقيقية. إنه يرفع سوء استخدام الرئيس المزعوم لسلطته فوق جميع سلطات الكونغرس الأخرى. وفرض مجلس النواب مساءلة الرئيس على مجلس الشيوخ بهدف إقالته يغير التقويم السياسي، ويركز على القضايا التي حرّكت طلب الإقالة وتوضيحها، ويجبر أعضاء مجلس الشيوخ على اتخاذ موقف، إما إدانة الرئيس أو تبرئته.
ولأن الاتهام عمل غير عادي، فقد تنعكس آثاره سلباً أو إيجاباً ليس فقط على مؤيدي الرئيس، بل وعلى الأميركيين عموماً، كما حصل بعد محاكمة كلينتون. إذ رفضت غالبية كبيرة من الشعب الأميركي - يومذاك - القضية التي رفعها الجمهوريون لعزله. وبعد موافقة مجلس النواب الذي كانوا يسيطرون عليه على بنود الإقالة، ارتفعت شعبية كلينتون إلى مستوى بلغ 73 في المائة، خلال استطلاع مشترك لمحطة «سي إن إن» و«يو إس إيه توداي» و«غالوب»، مقابل انخفاض نسبة تأييد الجمهوريين إلى 31 في المائة.

- بين الجريمة وتجاوز السلطة
على النقيض من ذلك، كانت محاكمة ترمب الأولى مدعومة بغالبية ثابتة، وإن كانت ضيقة، إذ أدان غالبية الأميركيين محاولة ابتزاز الحكومة الأوكرانية للمساعدة في إعادة انتخابه، بينما كان ترمب وأنصاره يأملون - بل، ويثقون - في أن المساءلة ستأتي بنتائج عكسية في عام 2020، كما جرى عام 1998. لكن آمالهم خابت، وانتهت العملية بتصويت معظم الأميركيين على أن ترمب ارتكب جرائم تستوجب عزله من منصبه، ليس فقط في محاكمته الأولى، بل وفي محاكمته الثانية المستمرة فصولها، التي حوَّلته إلى أول رئيس أميركي يتعرّض مرتين للمساءلة والمحاكمة في التاريخ.
للعلم، كلينتون لم يقترف في حينه «جرماً» ولم يستغل سلطته لحسابات سياسية، كما أن الرئيس الأسبق رونالد ريغان لم يُعزل على خلفية فضيحة «إيران كونترا»، ولم يتعرض الرئيس الأسبق جورج بوش الابن للمساءلة بسبب «الحرب على الإرهاب» و«حرب العراق» التي أدت إلى خسارة الجمهوريين مجلسي النواب والشيوخ عام 2006. أيضاً لم يتعرض الرئيس الأسبق باراك أوباما للمساءلة رغم حماسة جمهوريي «حفلة الشاي» اليمينيين المتشددين إثر خسارة الديمقراطيين مجلس النواب عام 2010 ومجلس الشيوخ عام 2014، على خلفية ملفات المهاجرين والانسحاب من العراق وظهور تنظيم «داعش».
غير أن ما فعله ترمب، هذا العام، حسب الادعاء، هو تحريض حشود من أنصاره على مهاجمة مقر الكونغرس، على أمل قلب هزيمته في الانتخابات الرئاسية. واستخدم المدّعون في مجلس النواب دلائل بالصوت والصورة، عن ترمب حين قال: «إذا لم تقاتل مثل الجحيم، فلن يكون لديك بلد بعد الآن»، لإثبات دوره في المسؤولية عن مهاجمة مبنى «الكابيتول»، والتسبُّب في مقتل 5 أشخاص. كذلك قدّموا دليلاً قاطعاً عن محاولاته الضغط على مسؤولي الانتخابات في الولايات الجمهورية «لإيجاد» أصوات لعكس نتائج الانتخابات لمصلحته.
رغم ذلك قد لا تشكل هذه الأدلة سبباً كافياً لحض مجلس الشيوخ، أو على الأقل لحض أعضائه الجمهوريين، على إدانة ترمب، مثلما امتنعوا عن إدانته في محاكمته الأولى. لكنها كانت كافية لإظهار أن انتخابات 2020 في جورجيا جاءت استفتاءً على مخالفات ترمب قبل كل شيء، وليس على ما حاول الجمهوريون تصويره على أنه نتيجة الفشل في مواجهة تداعيات «كوفيد - 19». ذلك أن تبرئته الأولى أدت فقط إلى تأجيل محاسبته السياسية وليس تجنبها. وهو، على أي حال، ما دفع حتى أشد المدافعين عن ترمب إلى الاعتراف بهذه الحقيقة. إذ كتب مارك هامنغواي في موقع «رييل كلير بوليتكس» قائلاً: «بلغة الأرقام، فإن جو بايدن هو رئيس الولايات المتحدة لأنه فاز بولايات أريزونا وجورجيا وويسكونسن بإجمالي 43 ألف صوت. لكنه يدين أيضاً بفوزه إلى الأساس الذي وضعه الديمقراطيون وحلفاؤهم الإعلاميون قبل سنة واحدة، خلال أول محاكمة لعزل ترمب بسبب مطلبه المزعوم المرتبط بشروط أن تقوم الحكومة الأوكرانية بالتحقيق في فساد مزعوم يتعلق بنجله هنتر بايدن».
في محاكمته الأولى عام 2020، اعتمد ترمب على دعم غالبية الجمهوريين في مجلس الشيوخ، وربما يحصل على تبرئته الثانية هذا العام أيضاً. لكن هناك من يقول إن الضرر عليه وعلى الحزب الجمهوري ربما يكون قد وقع. فإذا كان هدفه الأول هو العودة إلى الرئاسة عام 2024. فإن الملفات المفتوحة ضده قد تجعل من شبه المستحيل حصوله على إجماع، ليس فقط من الأميركيين عموماً الذين صوتوا ضده بأكثر من 7 ملايين صوت، بل ومن حزبه الجمهوري أيضاً. فترمب، لم يواجه فقط انشقاق 6 من الشيوخ الجمهوريين في تأييد محاكمته وفي تأكيد دستوريتها، بل وتراجع تأييده بين الجمهوريين إلى 36 في المائة من الذين لا يزالون يقولون إن «ترمب لم يرتكب أي خطأ»، بعدما كانت نسبتهم 56 في المائة في محاكمته الأولى بحسب الاستطلاعات.
أضف إلى ذلك أن الضرر قد أصاب أيضا قدرته على إثبات أنه هو القوة الرئيسية المهيمنة على الحزب، حين أدان كبير الجمهوريين السيناتور ميتش ماكونيل وغيره من قيادات الحزب سلوكه، وادعاءاته عن تزوير الانتخابات. وبجانب ذلك، رفض نواب الحزب الجمهوري إقالة النائبة ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس السابق ديك تشيني، من موقعها كثالث أكبر مسؤول جمهوري في مجلس النواب بسبب تصويتها على عزله. وأخيراً، حتى قدرة ترمب على مواصلة إبعاد الملاحقات القضائية عنه، باتت أمراً مشكوكا به في ظل استعداد عدد من محاكم الولايات لرفع دعاوى مالية وتجارية وضريبية ضده.
ما ستثبته المحاكمة الثانية لترمب، أن الجمهوريين ليسوا مستعدين للاتحاد ضده، لكنهم غير متحدين على تبرئته أيضاً. وهذا ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل الحزب خلال انتخابات عامي 2022 و2024 أيضاً.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.