شوبنهاور... الوجه الآخر لفيلسوف التشاؤم

كره هيغل وعانى من التجاهل والحرمان العاطفي

شوبنهاور... الوجه الآخر لفيلسوف التشاؤم
TT

شوبنهاور... الوجه الآخر لفيلسوف التشاؤم

شوبنهاور... الوجه الآخر لفيلسوف التشاؤم

حياة اجتماعية ونفسية مضطربة شكلت شخصية الفيلسوف الألماني الشهير شوبنهاور (1788-1860)، وأدت دوراً مهماً في النزعة التشاؤمية التي اتسمت بها أفكاره ورؤاه، حتى لقب بـ«فيلسوف التشاؤم»... فصول من هذه الحياة، خاصة مراحل النشأة والتكوين، يكشفها كتاب «شوبنهاور: مقدمة موجزة»، من تأليف أستاذ الفلسفة الباحث الأميركي كريستوفر جاناواي الذي يشرف على ترجمات شوبنهاور إلى الإنجليزية، بالتعاون مع جامعة كمبردج. وتولى ترجمة الكتاب الصادر في القاهرة عن «المركز القومي للترجمة» إلى العربية سعيد توفيق، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة. ولد أرتور شوبنهاور بمدينة دانتسج، وتوفي في فرانكفورت. ويرصد الكتاب أثر هذه النشأة في ملامح وجهه، مشيراً إلى أن كثيراً من الصور الفوتوغرافية التي التقطت له خلال العقد الأخير من حياته يبدو فيها بهيئة غير تقليدية ذا عزيمة وإصرار في تجهم، ولكن الوميض الذي يشع من عينيه يبدو معبراً عن شخص ما يقظ في حذر صارم. وقد وصفه نيتشه قائلاً: «إن الطاقة الإبداعية المتمردة لرجل في العشرينيات من عمره هي التي أنتجت كتابه العمدة (العالم إرادة وتمثل)».

علاقات مضطربة
يشدد جاناواي على أن الروح الاستقلالية هي أكثر السمات المميزة لطبيعة شوبنهاور، فهو يكتب بلا خوف، وبقليل من الاحترام للسلطة، ويمقت الخضوع للتقاليد السائدة التي وجدها في المؤسسة الأكاديمية الألمانية، لكن وراء هذا تكمن حقيقة لها دلالتها، وهي أنه كان أيضاً مستقلاً مادياً. فحينما أصبح بالغاً عام 1809، ورث ثروة كانت مع قليل من المهارة في إدارة الأعمال كافية لتؤمن معاشه بقية حياته. وكان أبوه يعد واحداً من أكثر رجال الأعمال ثراء في دانتسج، غير أنه في أثناء رحلة والديه لبريطانيا، تم إلحاقه بمدرسة داخلية في ويمبلدون، وهي ذات رؤية دينية ونظام تعليمي ضيق الأفق، وهو ما كان له تأثير سلبي عليه دام بقية حياته. إن هذه الفترة تنبئ بالكثير عن شخصية شوبنهاور وتنشئته، إذ كان تلميذاً غاضباً مشاكساً لا ينصاع للممارسات السخيفة التي كانت تحيط به، وقد بدا منعزلاً تماماً ينظر بشيء من الاستخفاف إلى ما حوله.
ويذكر المؤلف أن أباه كان رجلاً قلقاً صارماً مهيباً يؤمل كثيراً في ابنه، أما الأم فهي يوحنا شوبنهاور، من عائلة تجارية ناجحة، لكنها مختلفة تماماً عن زوجها، فقد كانت شخصية اجتماعية مفعمة بالحياة، لها مواهب أدبية بلغت ذروتها لتصبح «كاتبة» تؤلف روايات رومانسية على نحو جعلها أكثر شهرة في أثناء حياتها من ابنها. وكان لها نفوذ مؤثر في حياته، ولكن العلاقة بينهما لم تكن حميمية أبداً. وفيما يتعلق بزواجها، كتبت هي نفسها قائلة إنها رأت أنه لا حاجة بها لأن تتظاهر بالحب المشبوب لزوجها، مضيفة أنه هو نفسه لم يكن يتوقع منها ذلك. وبعد أن توفي الأب، راحت يوحنا المتحررة عقلياً تواصل مشروعها المهني الخاص، وانتقلت إلى فيمار، حيث أسست صالوناً ثقافياً كان يفد إليه كثير من الشخصيات البارزة. ولقد استفاد شوبنهاور من خلال الصلات التي أقامها مع رواد الصالون، خاصة أديب ألمانيا الأشهر جوته، والمستشرق فريدريك ماير الذي أثار لديه اهتماماً بالفكر الهندي لازمه طيلة حياته، غير أن علاقته بأمه أصبحت شديدة الاضطراب، فطردته إلى الأبد، ولم تره بعد ذلك.

الألم والسأم
تجلت وجهة شوبنهاور الحقيقية في الجزء الأول من «العالم إرادة وتمثل» الذي أنجزه في دريسدن، ونشره عام 1818، رغم أن السنة المدونة هي 1819. يشير المؤلف إلى أن أسلوب البحث الهادئ الرزين الذي سار فيه شوبنهاور على منوال إيمانويل كانط في كتابه السابق «الجذر الرباعي» (1813) لم يكشف عن القوة المحركة لفلسفته، فهو لم يوجه أسئلة تتعلق بالمعاناة والخلاص والأخلاق والفن والنزعة النرجسية والموت ومعنى الحياة؛ تلك التساؤلات التي تشكل عماد فكره وانشغاله الأكبر، حتى أنه بقي في طور تأليف هذا الكتاب ما يزيد على عشر سنوات. وهو بتبنيه فكر كل من أفلاطون وكانط أصبح على قناعة بأن هناك انفصالاً بين الوعي العادي والوضع الأسمى الذي يتمكن فيه العقل البشري من النفاذ فيما وراء مجرد المظاهر إلى معرفة ما هو أكثر حقيقية.
ويوضح جاناواي ذلك، قائلاً إن الفكرة الأساس في كتابه العمدة تتعلق بالإرادة، حيث يقدم لنا شوبنهاور العالم بصفته ذا جانبين: جانب «التمثل»، أي الأسلوب الذي به تُقدم لنا الأشياء ذاتها وكيف «نتمثلها» نحن؛ وجانب الإرادة، أي رغبة الإنسان في السمو فوق ما يتمثله، ليصنع من العالم حقيقة تتجاوز مجرد المظاهر الوجودية المعتادة. بعبارة أخرى، فإن البشرية موزعة بشكل متوازن بين طبيعة كائن حي مدفوع نحو البقاء والتناسل، وعقل خالص يناهض طبيعة ذلك الكائن، ويتوق إلى تأمل أبدي لحقيقة أسمى. ومع أن شوبنهاور ما زال يتصور نوعاً من الخلاص الذي يقوم على التخلي، فإنه يعتقد أن الوجود في صورته العادية يتضمن بالضرورة بؤساً مزدوجاً من الألم والسأم.

تجربة فاشلة
يذكر الكتاب أنه في سنة 1820، تم قبول شوبنهاور محاضراً في جامعة برلين، بعد أن ألقى محاضرة أمام حشد من أعضاء هيئة التدريس، برئاسة فيلسوف ألمانيا الكبير جورج فريدريش هيغل الذي كان أستاذاً للفلسفة بالجامعة. وقام شوبنهاور نفسه على نحو سديد ليحاضر تحت هذا العنوان الفاتن «مجمل الفلسفة: أي نظرية جوهر العالم وجوهر العقل البشري»، ولكنه اختار أن يحاضر في التوقيت ذاته الذي يحاضر فيه هيغل، فحضر مائتان من الطلاب محاضرة الأستاذ الذي كان في قمة مجاله المهني، بينما بقي لشوبنهاور غير المعروف قلة هزيلة من الطلاب. ورغم أن اسمه بقي مدوناً في جدول المحاضرات في السنوات التالية، فإنه لم يعد لتكرار هذه التجربة، وكان هذا هو نهاية ممارسته لمهنة التدريس الجامعي. لقد كان هيغل مثالاً على كل ما يكرهه شوبنهاور في الفلسفة، فقد كان أستاذاً أكاديمياً استفاد من السلطة الرسمية التي ظل فيلسوفنا يزدريها، كما كان هيغل يؤيد الكنيسة والدولة، ولم يستطع شوبنهاور هضم تصوره للدولة بصفتها تمنح «أسلوباً جباراً في الكتابة»، كما أنها مجرد وسيلة ملائمة لحماية الملكية وكبح فرط الأنانية. ورأى شوبنهاور في كتابات هيغل أنها تتسم بتكلف الادعاء والغموض، بل هي مضللة، فالشعار الذي ينبغي وضعه عنواناً للفلسفة الجامعية الهيغلية هو أنها «سمكة حبّار» تضع فوق نفسها سحابة من التعتيم كي لا يرى أي أحد ما كنهها، متخذة تلك المقولة شعاراً لها: غموضي يحصنني! وليس من الصواب القول إن فلسفة شوبنهاور قد قامت على أساس من معارضة هيغل، فالأخير كان بمنأى تماماً عن عقل شوبنهاور، حينما أبدع عمله الفذ «العالم إرادة وتمثل»، ولكن نجاح هيغل المظفر الذي صاحب افتقاد شوبنهاور المستمر للعرفان ترك في نفسه ضغينة لازمته فترة طويلة من حياته المهنية.

الهروب من الكوليرا
يذكر الكتاب أن فترة العشرينيات من القرن التاسع عشر الأقل إنتاجاً في حياة شوبنهاور، فقد سافر إلى إيطاليا، وعاني أثناء ذلك وبعد عودته من مرض خطير ومن اكتئاب، كما ارتبط بعلاقة غرامية مع كارونيه ريشتر، وهي ممثلة استعراضية في المسرح القومي ببرلين.
وفي سنة 1831، وصلت الكوليرا العاصمة الألمانية، وتبين أن هيغل من بين ضحاياها، وغادر شوبنهاور المدينة. وبعد فترة من الحيرة، استقر في فرانكفورت، حيث بدا أنه يواصل هناك حياته الإبداعية التي توزعت بتوازن بين الكتابة والاستجمام، كالذهاب إلى المسرح والأوبرا والتريض والعزف على الفلوت، وتناول العشاء في المطاعم، وقراءة جريدة «التايم» في مكتبة المدينة. وحينئذ، أصبح قادراً على إنتاج مزيد من الأعمال. ففي سنة 1836، نشر كتابه عن «الإرادة في الطبيعة» الذي أعده ليكون داعماً لمذهبه في الإرادة. وفي سنة 1844، تم نشر مجلد ثان من «العالم إرادة وتمثل»، مع طبعة جديدة من المجلد الأول. وكان حكيماً في أنه لم يحاول أن ينسخ العمل الذي أنجزه في فترة الشباب، وبدلاً من ذلك أدخل تنقيحاً جوهرياً على الأصل، وأكسبه مزيداً من الوضوح والإفاضة بما استفاده من تأملات فترة النضج. وقد أعيد نشر الجزأين معاً في طبعة ثالثة صدرت عام 1859، قبيل وفاته. أما آخر ما نشره شوبنهاور من مؤلفات جديدة، فكان كتاباً آخر من جزأين، بعنوان «الحواشي والبواقي»، وهو الكتاب الذي ظهر عام 1851، بعنوانه المثير للتأمل، حيث تتراوح المحتويات بين مقالات فلسفية مطولة ومأثورات عن حكمة الحياة بأسلوب أكثر شعبية، وهي المأثورات التي كثيراً ما كان يتم نشرها منفصلة.
ومن الغريب أن هذا العمل تحديداً وجد ترحيباً في إنجلترا أولاً، وهو ما أدى إلى شهرة شوبنهاور، فأصبح هناك احتياج إلى طبعات جديدة من كتاباته، وأصبح موضوعاً لمقررات في الجامعة الألمانية، وراح يستقبل كثيراً من الزوار وكثيراً من المراسلات، من بينها النص الأوبرالي الكامل «خاتم النيبلونج» الذي أرسله واحد من أشد المعجبين به، وهو ريتشارد فاغنر الذي تصادف أن شوبنهاور لم يكن يرى موسيقاه رفيعة القدر إلى حد كبير.
وخلال الخمسين سنة الأولى التالية على وفاته، أصبح شوبنهاور واحداً من أعظم الكتاب الأوروبيين تأثيراً، ورغم أنه لم يدع كونه شاعراً، فإن الأبيات الشعرية التي جاءت في نهاية البواقي والحواشي تعد تأملات صادقة لما كان يشعر به في نهاية سنواته الأخيرة، لا سيما تلك التي تحمل عنوان «اللحن الختامي»:
إنني أقف الآن مرهقاً عند نهاية الطريق
جبيني المنهك لا يكاد يحمل إكليل الغار
غير أني أنظر في سعادة
إلى ما صنعته غير مبال بما يقوله الآخرون



قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»
TT

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

مرت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الأصعدة، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة وطالت لبنان، ولا تزال مشاهدها الدامية تراكم الخراب والدمار على أرض الواقع. في غبار هذا الكابوس تستطلع «الشرق الأوسط» أهم قراءات المثقفين والمبدعين العرب خلال 2024.

في دول الخليج تنوّعت قراءات المثقفين والكتاب ما بين القراءات الشعرية والروائية، مع انفتاح على التجارب الأدبية في العالم العربي، ومقاربات للأعمال التي رصدت التجربة الحداثية وتأثيراتها، وكذلك التجارب النسوية في الرواية والسيرة الذاتية، وبينها كتب في الفكر والفلسفة والتاريخ الاجتماعي.

 

باسمة العنزي: ثوب أزرق وقبيلة تضحك ليلاً!

 

من الكويت، تقول الكاتبة والروائية الكويتية باسمة العنزي: سنة عاصفة مليئة بالأحداث المحبطة والأخبار البائسة! القراءة بدت فيها كاستراحة من لهاث متابعة أخبار الحروب وتردي الأوضاع وانحدار البشرية السريع. المفرح وسط كل هذا أن يقع بين يديك أعمال مبهرة هي الأولى لأصحابها!

قرأت للكاتبة السورية الكردية هيفا نبي «ثوب أزرق بمقاس واحد» الصادر عن دار «جدل» عام 2022، وهي رواية كتبت على شكل مذكرات، تناقش موضوع اكتئاب ما بعد الولادة بسرد جميل ونبرة أنثوية تغلغلت لتفاصيل عالم الأمومة الجديد لدى شابة مهجّرة من مدينتها بسبب الحرب. سرد شفاف يحلّق نحو ذات وحيدة تجتاز أزمتها عبر البوح. وهو عمل - للأسف - لم يحظَ بما يستحقه من اهتمام وانتشار رغم تجلي موهبة الكاتبة وتمكنها اللغوي وقدرتها على اقتناص الحالات النفسية ووصفها بكل تدرجاتها.

أما العمل الثاني فهو للكاتب السعودي سالم الصقور «القبيلة التي تضحك ليلاً» الصادر عن دار «مسكيلياني» عام 2024، وهو أيضاً يتناول موضوعاً جديداً في الرواية العربية عن عدم القدرة على الإنجاب في مجتمع قبلي معاصر، العمل مكتوب بلغة شعرية فذة وبنظرة فلسفية عميقة تضع تحت المجهر مفاهيم مثل الأمل والحرمان وخسارات الحياة القسرية. نوفيلا مكتنزة تدور أحداثها في نجران ليوم واحد يتحدد فيه مصير أبوة البطل المنتظرة!

هيفا نبي وسالم الصقور جاء عملاهما كإضاءة مبشّرة بالكثير في عالم يفقد دهشته ويخفت فيه صوت الحكمة، وقرأتهما في عام شحّت فيه الأشياء المدهشة!

 

د. عبد الرزّاق الربيعي: عودة لعبد الوهاب البياتي

ومن سلطنة عُمان، يقول الشاعر الدكتور عبد الرزاق الربيعي: كتب كثيرة قرأتها هذا العام، والبعض أعدت قراءته، وفق نظرة جديدة أكثر نضجاً، وتمحيصاً، وتذوّقاً، كالأعمال الشعرية لعبد الوهاب البياتي، والذي حفّزني للعودة إليها كتاب صدر عن دار «أبجد» هذا العام ضمن فعاليات مهرجان بابل العالمي للثقافات والفنون والإعلام (دورة 2024)، حمل عنوان «عبد الوهّاب البيّاتي... دراسات وشهادات وحوارات»، حرّره وقدّم له د. سعد التميمي. في بادرة ولمسة وفاء تُحسَب لرئيس المهرجان د. علي الشلاه.

وتأتي أهمية الكتاب كون محرّره د. التميمي، أستاذ النقد والبلاغة بالجامعة المستنصرية، وجّه دعوة ضمنيّة لقراءة البياتي، والكشف عن دوره الريادي، وفحص نتاجه من قبل النقاد الذين صرفت غزارة إنتاجه الشعري أنظارهم عنه، فهذه الغزارة بنظر د. حاتم الصكر «لم تدع فسحةً لقراءة نصيّة مناسِبة، فكثير من منتقدي سيرته السياسية اتبعوا ما أشيع عنه دون تمحيص؛ إذ لم يضعه الشيوعيون العراقيون - كما يشاع - محل السياب حين ارتدّ عنهم، لأنهم ليسوا بحاجة لشاعر، ومعهم مثقفوهم وأدباؤهم، كما أن البياتي ينتهج فكراً يسارياً قبل اصطفافه نصيراً للفكر اليساري التقليدي، وقد عزا ذلك - حين كتب (تجربتي الشعرية) - إلى ما كان يرى وهو صبي، من مظالم ومآسٍ تحيق بالمشردين والفقراء والنازحين للمدينة، وهو يراهم حول مزار الصوفي عبد القادر الجيلاني بوسط بغداد، حيث ولد البياتي ونشأ». وقد شارك في الكتاب كل من: د. حاتم الصكر، ود. بشرى موسى صالح، ود. خالد سالم، ود. محمد عبد الرضا شياع، ود. أناهيد الركابي، والشعراء: علي الشلاه، وهادي الحسيني، ومحمد مظلوم، ومحمد تركي النصار، ود. عبد الرزاق الربيعي، واشتمل على دراسات وشهادات وحوارات مسلطاً الضوء «على الإرث الشعري الذي خلّفه البياتي، وإسهاماته في تحديث القصيدة العربية، ورؤية البياتي للشعر، والحداثة وموقف الشاعر من السلطة والحرية، فضلاً عن تقنية كتابة القصيدة، وفاعليته في الوسط الثقافي».

قسّم التميمي الكتاب إلى ثلاثة فصول: تضمن الأول دراسات وقراءات، والثاني شهادات وذكريات، والثالث حوارات. وقد احتل الفصل الأول مساحة واسعة؛ إذ ضم سبع دراسات هي: القصيدة... المنفى... الموت... مفردات في تجربة البياتي الشعرية، للدكتور حاتم الصكر، وهالة الأسطورة في شعر عبد الوهاب البياتي، للدكتورة بشرى موسى صالح، والمتعاليات النّصّيّة في شعر البياتي، للدكتور محمد عبد الرضا شياع، والتجربة الإسبانية لدى البياتي، للدكتور خالد سالم، والبياتي من فلسفة الرفض إلى استشراف الرؤية، للدكتور سعد التميمي، ومركزية الهامش في شعر البياتي، للدكتورة أناهيد الركابي، ومجد الشعلة الخالدة الآخر في مرآة البياتي الشعرية، لمحمد تركي النصار.

أمّا الفصل الثاني، فقد ضمّ ثلاث شهادات حملت العناوين: «رجاءً عدم الجلوس... عبد الوهّاب البيّاتي قادمٌ بعد قليل» لعبد الرزاق الربيعي، و«في ذكرى البياتي» لهادي الحسيني، و«البياتي وسنواتنا في عمّان» للدكتور علي الشلاه.

وخُصّص الفصل الثالث لحوارات أجريت مع البياتي، وقد تناولت الدراسات الأثر الذي تركه البياتي ليس فقط لدى الشعراء العرب، بل تجاوز ذلك إلى الإسبان، خلال إقامته بمدريد في الفترة (1980-1990).

لقد أعاد هذا الكتاب لنفسي شغفي بقصيدة البياتي، التي تأثّرت بها في بداياتي مطلع الثمانينيات، فوفّر لي فرصة العودة للمنابع الشعرية الأولى.

 

عبد العزيز الصقعبي: أيام الغزو وسير النساء الذاتية

ومن السعودية، يقول الروائي والمسرحي السعودي عبد العزيز الصقعبي: أنا متفرغ حالياً للقراءة والكتابة، فالكتاب وجبة يومية، من الصعوبة تركها، والجميل في زمننا هذا هو سهولة الوصول للكتاب، ورقياً أو إلكترونياً، الحصة الأكبر من قراءاتي دائماً الرواية والقصة ثم الشعر والمسرح، إضافة إلى الكتب الفكرية والدراسات المهمة.

ربما - وأنا أتحدث عن نفسي كروائي - يرد في ذهني أمر ما - ربما وليس أكيداً – أتناوله في مشروع روائي؛ لذا أكثف قراءاتي حول ذلك الموضوع، أطرح لكم بعض الأمثلة «أيام الغزو... يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت»، وهي يوميات للفنان التشكيلي إسماعيل شموط؛ حيث كان لدي اهتمام بتلك الفترة التي لم تؤثر على الكويت فقط، بل على كامل المنطقة وبالأخص المملكة، بالطبع قرأت عدداً من الروايات والكتب حول ذلك ومن أهمها السباعية الروائية «إحداثيات زمن العزلة» للروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، على الرغم من كل الكتابات فتلك الفترة تحتاج إلى مزيد من الكتابة.

وحقيقة من الصعوبة سرد بقية أسماء الكتب التي قرأتها، فهنالك مثلاً روايات، تكون مقبولة وأنتهي منها عند آخر صفحة، ولكن لا تبقى في الذاكرة ولا تشجّع على قراءتها مرة أخرى ناهيكم عن كثير من الكتب وبالذات النصوص السردية التي لا أستطيع إكمالها، اللافت في 2024 دخول عدد من السير الذاتية النسائية في دائرة قراءاتي، بدأتها بسيرة «السنوات» الحائزة جائزة نوبل (أني إرنو)، وبعد ذلك أجد نفسي أمام سيرتين متشابهتين وفي الوقت ذاته مختلفتين؛ «حد الذاكرة» لعائشة محمد المانع، و«حياتي كما عشتها... ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» لثريا التركي، وبكل تأكيد هنالك قائمة طويلة أحتفظ بها لنفسي، من الكتب التي قرأتها أو سأقرأها، أو أتصفحها ربما تشدني للقراءة.

 

كاظم الخليفة: الأدب السعودي والعلاقة بين الأدب والفلسفة

ويقول الكاتب والناقد السعودي كاظم الخليفة: كان مشروعي القرائي لعام 2024 هو استكشاف الأفق الإبداعي للكتاب السعوديين، الذي أتاحه المرور على عناوين وتصفح بعض إصدارات مشروع «1000 كتاب» الذي تقوم عليه دار «أدب للنشر والتوزيع» بدعم من الصندوق الثقافي السعودي، وكذلك قراءة «كتاب أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» - الجزء الثاني - ذلك المشروع الرائد الذي قام بجهد شخصي من الأديب والقاص خالد اليوسف؛ لإبراز المشهد السردي السعودي المعاصر ومدى تقدمه من خلال ممارسة التجريب وتنوع الأدوات السردية. والثالث، كان المشروع الآخر للشاعر عبد الله السفر «رمال تركض بالوقت» الذي كان برعاية من مركز الملك عبد العزيز الثقافي «إثراء»، وهو عبارة عن مختارات لنصوص شعرية تختص بقصيدة النثر السعودية بغية ترجمتها للقارئ الفرنسي.

تعرض تلك الكتب جانباً مهماً من حراك الأدب السعودي المعاصر الذي يتطلب الكثير من الدراسة والتأمل، لكن الانطباع العابر يمكن استخلاصه في أن القصيدة الكلاسيكية السعودية تحاول تجديد ثوبها من خلال جعل «ذات» الشاعر بهواجسه وأحلامه أحد مواضيعها المهمة. أي أن الدافع الذاتي للكتابة، واتخاذ القصيدة وسيلة فضلى للتفكير، قد عمل على تقليص المساحة الكبيرة التي كان يحتلها شعر «المناسبات» في دواوين الشعراء.

والانطباع الثاني عن مستوى التقدم في كتابة قصيدة التفعيلة، التي لم تتقدم وتكتسب نسبة وازنة في دواوين الشعراء المعاصرين بشكل ملحوظ. أما ملمح قصيدة النثر الحديثة فنجد بروزاً لموضوع «الميتاشعرية»؛ حيث سؤال القصيدة ومحرضات كتابتها وجدواها. وفي كلا الجنسين الشعريين: الكلاسيكي والنثري، نلحظ فيهما تجاوز الشواعر النساء أزمة «النِّسوية» وبالتالي الكتابة بروح الأنثى المدركة لكينونتها.

في السرد، نلحظ نمواً لجنس القصة القصيرة جداً واقترابها - في بعض التجارب - من شذرات قصيدة النثر. وما يخص جنس القصة القصيرة، فيمكن ملاحظة أنها اتجهت نحو التنوع - بشكل واضح - في مواضيعها، مع تناول أكبر بالتركيز على الجوانب الوجودية والأزمات النفسية لشخوص حكاياتها. أما الرواية، فيمكننا رؤية اجتذابها للكتاب الشباب بإنتاج متلاحق لبعضهم؛ حيث يفصل بين كل عمل روائي وآخر أقل من عام.

مجال القراءة الحرة كان من نصيب كتب مميزة في بابها، وإن لم تبتعد كثيراً عن الأدب. ولعل أبرزها كتاب حديث للناقد الفرنسي كاميل ديموليي «الأدب والفلسفة... بهجة المعرفة في الأدب» الذي يُعتبر من أواخر من دخلوا في حلبة الصراع والجدل - منذ أفلاطون – عمّن هو الأجدر بتمثيل «الحقيقة»؛ الأدب أم الفلسفة، وكذلك عن طبيعة العلاقة الملتبسة بينهما. ففي هذا الكتاب يستعرض ديموليي الجدل القديم/الجديد عن علاقة الفلسفة بالأدب، ويحاور فيه جميع آراء الأدباء والفلاسفة البارزين، ابتداء بأفلاطون وسقراط، وانتهاء بنيتشه وهايدغر، ثم في خاتمة الكتاب يميل إلى الرأي الذي يقول إن «فكرة الفلسفة هي الأدب»، وذلك بمعنيين: أولاً أن الأدب هو فكرة الفلسفة، أي أنها إبداعه أو ابتداعه؛ ثم إنها مدار دراسته. وهكذا صار الأدب في نتيجته هو منبع الأفكار الفلسفية، وأنها تعود فيه وكأنها تعود إلى أصلها المنسي، كما يقول. بل إن نيتشه والتيار الرومانسي حاولا إعادة الفلسفة والأدب إلى أصلهما الشعري، بصفته نشاطاً خلاقاً؛ حيث الفلسفة - من وجهة النظر هذه - يمكن أن تكون ضرباً من الشعر المتحجر؛ أي خطاباً بواسطة الصور والمجازات.

 

حمد الرشيدي: بين البردوني والأفلاج والزلفي

من الرياض، يقول الشاعر والروائي السعودي حمد حميد الرشيدي: كثيرة هي الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، وكتبت بعض انطباعاتي الشخصية لما قرأته منها، وهي كتب تُعنى بالأدب والشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسات النقدية، وقرأت بعض الكتب التي أثارت اهتماماً من قبل القراء أو النقاد... ومن الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، كتاب «المكان في شعر البردوني» للدكتور خالد اللعبون، وهو دراسة موضوعية تحدث فيها الكاتب عن ظاهرة اكتناز شعر الشاعر العربي اليمني الكبير عبد الله البردوني (رحمه الله) بالمكان وجغرافيته وارتباطه الحسي والمعنوي بالإنسان.

وفي مجال أدب الرحلات، قرأت كتاب «الأفلاج كما رآها فيلبي» وهو من تأليف عبد العزيز المفلح الجذالين. ويتحدث فيه مؤلفه عن أهمية مدينة الأفلاج عبر التاريخ وما ذكره الرحالة الإنجليزي المعروف عبد الله فيلبي عن هذه المدينة عندما زارها زيارة ميدانية سنة 1918م.

وفي مجال علوم التاريخ والاجتماع، قرأت كتاب «الكويت والزلفي» لمؤلفه حمد الحمد، وهو يتحدث عن الصلات التاريخية والاجتماعية بين بعض العوائل والأسر العربية ذات العوامل المشتركة في الاسم والنسب والأرومة في كل من الكويت ومدينة الزلفي.

وفي الفكر والفلسفة، قرأت كتاب «الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها» للدكتور أمين أحمد زين العابدين، وهو كتاب تطرّق فيه المؤلف للحضارة العربية والإسلامية عبر التاريخ وما مرت به من مراحل وتغيرات عبر الزمن وأثرها وتأثيرها في الحضارات الأخرى.

وفي العلوم، قرأت كتاب «في تاريخ العلوم» للدكتور عبد الله محمد العمري، وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم عند العرب القدامى حتى العصر الحديث، وأهم الاكتشافات والاختراعات التي قام بها العرب والمسلمون منذ القدم، ثم تم نقلها عنهم للشعوب الأخرى التي قامت بالاستفادة منها وتطويرها في الوقت الحاضر.

جمانة الطراونة

 

جمانة الطراونة: من «أشجار الكلمات» إلى «غيم على سرير»

الشاعرة الأردنية المقيمة في مسقط (سلطنة عُمان) جمانة الطراونة، تقول: أميل إلى قراءة كتب المختارات الشعرية، كونها تعطي فكرة عن التجارب الشعرية المتحقّقة، وضمن هذا السياق، قرأت كتاب «أشجار الكلمات»؛ وهو مختارات شعرية للشاعر عدنان الصائغ. اختارها وقدم لها: حاتم الصكر، وحسن ناظم، وناظم عودة. وصدر عن دار «صوفيا» للنشر والتوزيع في الكويت، ومما علق في ذهني قوله:

«في الليلِ

أرى شخصاً آخرَ

لا أَعْرِفُـهُ

يَتَعَقَّبُني

فأغذُّ خطايَ،

وأسرعُ

أسمَعُهُ يتوسّلُ خلفي:

– اصحبْني ظلاً

فأنا أخشى أنْ أمشي منفرداً في الطُرُقاتْ».

أما أحدث كتاب قرأته هذا العام من كتب المختارات فهو كتاب «غيم على سرير» وقد ضمّ بين دفتيه مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي، وقد صدر عن دار «شمس» للنشر والإعلام، بالتعاون مع بيت الشعر ببغداد، والنصوص من اختيار الشاعر عماد جبّار، وقدّم لها د. سعد التميمي، الذي قال: «ينفرد الشاعر عبد الرزاق الربيعي من بين شعراء جيل الثمانينات باتّساع تجربته الشعرية وعُمقها وتنوعها، وهو الحاضر باستمرار في الساحة الشعرية والقادر على الانتقال من منطقة إلى أخرى مجدِّداً في القصيدة على مستوى اللغة والأسلوب والمعالجة والمفارقة، كاشفاً ما يحمله من عمق معرفي يتجلى في تناصّاته المتنوعة، (...) فهو القادم من صومعة الشعر حاملاً الوطن المثخن بالجراح والألم وصور الخراب والموت التي يختلط فيها الدم بالدموع»، وعلى الغلاف الأخير للمختارات كتب د. حاتم الصكر شهادة حول تجربة الربيعي، وقد قرأت ديوان الصكر «الهبوط إلى برج القوس» الصادر عن دار «أرومة للدراسات والترجمة والنشر»، وأبحرت مع عوالم الفقد، وأحزان غربته، التي يسرّبها عن طريق الشعر الذي يعتبره ملاذه الأخير ويستثمر الموروث الرافديني حين يرسم «بورتريهات» لعدد من أصدقائه كما في «خُطى جلجامش» التي يهديها إلى الشاعر عبد الرزاق الربيعي.