«بي بي سي» ورحلة السبعة وسبعين عاما

المذيعة هدى الرشيد مع الزميل فؤاد عبد الرازق في استوديو الاخبار ({الشرق الأوسط})
المذيعة هدى الرشيد مع الزميل فؤاد عبد الرازق في استوديو الاخبار ({الشرق الأوسط})
TT

«بي بي سي» ورحلة السبعة وسبعين عاما

المذيعة هدى الرشيد مع الزميل فؤاد عبد الرازق في استوديو الاخبار ({الشرق الأوسط})
المذيعة هدى الرشيد مع الزميل فؤاد عبد الرازق في استوديو الاخبار ({الشرق الأوسط})

ما دمت أصبحت تاريخا فسوف أكتب وأتحدث عن التاريخ وليس لي صلة بالحاضر. الـ«بي بي سي» بالنسبة لي تتعدي محدودية المكان والزمان. عندما تدرك أن مستمع الـ«بي بي سي» في الصحراء وقلب البداوة يسمعك ويحكم مؤشر مذياعه بشكل شبه متواصل على إذاعة الـ«بي بي سي»، ويشاركه في ذلك الحضري في المدينة مثقف أو غير ذلك. وعندما يعارض والدي عملي في الإعلام ويتنبأ لي بالفشل ولا يعترف بي إلا عندما يسمعني أذيع نشرة الأخبار من الـ«بي بي سي» ويصبح من المتحمسين الفخورين بابنته، وكان أيضا له مذياعه المخصص فقط لمحطة الـ«بي بي سي»، فهل احتاج لقول المزيد! ربما لا، ولكن للتاريخ أوضح، عندما وطئت قدماي الـ«بي بي سي» كانت تحفل بكفاءات مميزة وبارزة، وقد احتضنتني غالبيتهم، أذكر منهم وليسامحني من غاب عن ذاكرتي: د. كمال حسين، ود. إسطفانوس، وجورج مصري، وصلاح نيازي، وأنطون متري، ومنير شما، وكثيرون، كانوا لا يقدمون النصيحة فقط بل يسعون لتقديمها وتنوير آفاقي بالمعلومات، وأيضا في بعض الحالات تحذيري خوفا عليّ ورفقا بي. ولكن يبقي السؤال: ما السر في تمكن الـ«بي بي سي» من الاستحواذ على اهتمام فئة واسعة من المستمعين في جميع الأصقاع، شرقا وشمالا عربيا وأفريقيا؟
إذاعة الـ«بي بي سي» كانت في الواقع تحفل بباقة من الورود والأزهار، وكانت تلك تعبق وتشنف سامعها بشتى البرامج المنوعة منها الخفيفة جدا كندوة المستمعين وما يطلبه المستمعون، والجادة كلية من قبيل السياسة بين السائل والمجيب، وبرامج أخرى تظهر الجانب الثقافي والتجاري والسياحي للبلاد، عدا برامج الشعر والثقافة عامة، التي كانت تتناول بالفرز والتحليل المطبوعات من قصص وشعر وغير ذلك. ولكن يبقى القالب الأساسي الذي يحوي كل ما ذكر وما لم يذكر من برامج ألا وهو الطابع الإخباري للمحطة وعلى رأسه نشرات الأخبار وأقوال الصحف والأحاديث السياسية التحليلية. والـ«بي بي سي» تسعى في ذلك إلى البحث عن الحقيقة، بجهد جهيد، نعم، ولكن بموضوعية هدفها الرئيسي إظهار الصورة و«العفريتة» أو ظلال الصورة. وإذا ما استرسلت في الحديث عن البرامج السياسية كانت تجري مقابلات خاصة مع شخصيات قيادية وتخصص لها أوقات إضافية تصل إلى ما يقارب الساعة. وأذكر تحديدا لقاءات كثيرة، أولها في لندن والباقي في جدة أجريتها مع المغفور له الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية السعودية. لم يرفض الأمير نايف الإجابة على أي سؤال طرحته باسم الـ«بي بي سي»، وما أدراك ما أسئلة الـ«بي بي سي»، وتميز بالهدوء على الدوام. وكنت دائما، وأمر مؤكد، أن ألقي على سموه سؤالا أو سؤالين عن المرأة السعودية. وعندما سألته في آخر أحد اللقاءات عن السبب وراء قرار منع السعوديين من الزواج من الأجانب إلا بإذن مسبق. أجابني بهدوء وتؤدة، وكأنما لاحظ لهفتي في طرح السؤال وانتظار الإجابة، قائلا إن «هذا الإجراء اتخذ أساسا لحماية المرأة السعودية، لأن الرجل السعودي هو الذي يقدم أكثر من المرأة بمراحل على هذه الخطوة». ورغم كل التوتر الذي يسبق تسجيل المقابلة كانت تتم بسلاسة ودون توقف أو إعادة إلقاء أي سؤال على سموه.
وعلينا في سياق الحديث عن برامج الـ«بي بي سي» ألا ننسى الحديث عن برنامج «في الواحة»، وهو عبارة عن لقاءات تتم مع ضيوف من شتى الاهتمامات السياسية والثقافية والفنية. وقد التقيت عبر البرنامج بكثيرين، منهم: وزير البترول الأستاذ أحمد زكي يماني، ومصطفي محمود في القاهرة، وأنيس منصور في لندن الذي أكد لي أن الشيخ والقسيس والحاخام يتشابهون في المظهر وتأدية الطقس الديني. ولا أنسى مقابلة أجريتها مع وزير الإعلام السعودي آنذاك محمد عبده يماني، لأكتشف أن الجهاز لم يسجل شيئا من المقابلة، وعندما قدمت له الاعتذار، وكنت في غاية الحرج، نظر إليّ بإشفاق، وقال: «لا بأس تعالي في الغد في الثامنة صباحا لنعيد التسجيل». وكان سيغادر لندن بعدها بوقت قصير، وقد كان.
أما الموعد الآخر الذي طلب مني فيه أن أحضر إلى الفندق الذي تنزل فيه أيضا في الثامنة صباحا لأنها ستغادر لندن ظهرا، فكان مع الفنانة كتلة المشاعر والأحاسيس فايزة أحمد. عندما دلفت إلى غرفة النوم في الجناح كانت قد استيقظت من النوم من فترة قصيرة، وكان يوجد عندها ابنة جارتها في شقتها في القاهرة. كانت مساحيق الليلة الماضية لم تزل في وجهها ورمش يتدلى من إحدى عينيها. رحبت بي وطلبت مني الجلوس وأخذت تستعد للسفر. عدلت زينتها وبدلت ملابسها وارتدت طقما ورديا جميلا. وبدت أنيقة ومشرقة مع انعدام الأمان الداخلي والثقة بالنفس، لأنها أخذت تسألني وتكرر السؤال عن كيف تبدو وهل ما ترتديه حقا جميلا، وأخذت أطمئنها، ولكنها ظلت تسأل. ثم بدأت في ترتيب الحقائب وكان حرفيا على هذا الشكل. كانت تتناول أشياء بأكياسها من تحت السرير، يبدو أنها اشترتها في اليوم السابق وتلقي بها في الحقيبة حتى تفيض بالأغراض ثم تقوم هي وابنة جارتها بوضع ثقلهما على كل حقيبة لإقفالها. ثم قامت بتقريب الحقيبة الأخيرة من طاولة الزينة التي كانت تعج بالأدوات وتلقي بها داخل الحقيبة. ثم جاءت حيث أجلس لنبدأ التسجيل. ما رأيته أمامي بقدر ما فاجأني بداية فقد أسعدني باكتشاف حقيقة الطفلة في الفنانة صاحبة الصوت الساحر فايزة أحمد.
الذكريات كثيرة أريد أن استرسل، ولكن قبل أن أنهي هذه الرحلة الساحرة أود العودة قليلا إلى الحاضر الذي تحتفل فيه الـ«بي بي سي» بعيدها السابع والسبعين؛ أي سبعة وسبعة، آمن الإغريق بأن الرقم هو مبدأ الوجود لذلك رقم سبعة يحوي النقيضين السكون والحركة، أي الواحد والكثير واليمين واليسار. والرقم سبعة يدل على العقل والصحة والحب والحكمة. ونحن في عالمنا يعني الرقم سبعة كثيرا ودلالاته أكثر.
تحية إعزاز بك يا «بي بي سي» في كل أعيادك.
* مذيعة الـ«بي بي سي» السابقة



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.