نيكول كيدمان لـ«الشرق الأوسط»: أنا امرأة حميمية وعاطفية وأحب العمل الجماعي

ترقص في «الحفل» وتؤدي دور ملكة في «الشمالي»

نيكول كيدمان كما تبدو في «حفل التخرج»
نيكول كيدمان كما تبدو في «حفل التخرج»
TT

نيكول كيدمان لـ«الشرق الأوسط»: أنا امرأة حميمية وعاطفية وأحب العمل الجماعي

نيكول كيدمان كما تبدو في «حفل التخرج»
نيكول كيدمان كما تبدو في «حفل التخرج»

بعد استعراضه فيلم توماس ڤينتربيرغ الجديد «دورة أخرى» (Another Round) الذي يتناول، فيما يتناوله، شخوصاً تشرب الكحول في لقاء سيكشف عن مكنونات مبعثرة في ذوات أربع شخصيات، كتب ناقد «ذا نيويوركر» أنطوني لين في مقدّمة نقده لفيلم «حفل التخرّج» (The Prom): «كم من الكحول عليك أن تُدخل في شرايين دمك قبل محاولة مشاهدة هذا الفيلم؟ هذا ليس من السهل تخمينه».
وأكمل بالنكهة الساخرة ذاتها «لقد فعلت الخطأ الفادح؛ إذ شاهدته وأنا صاحٍ».
لين لا يقف وحيداً بين النقاد الذين وجدوا الفيلم دون المستوى كيفما نظرت إليه: هو كوميديا بلا كوميديا كافية، وحكايته خفيفة الشأن ممطوطة لأكثر لنحو ساعتين، وحبكتها ساذجة حول ثلاثة أشخاص (نيكول كيدمان وميريل ستريب وجيمس كوردون) يغادرون نيويورك إلى ولاية إنديانا للاحتجاج على قرار إحدى المدارس منع طالبة مثلية من حضور حفل التخرّج.
طبعاً هناك من أُعجب بالفيلم أيما إعجاب، بينهم أووِن غلايبرمان، ناقد مجلة «ڤاراياتي» وبيتر برادشو، ناقد «ذا غارديان».
ومن بين المعجبين كذلك أعضاء كُثر من «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب» الذين ضمّوه إلى قائمة ترشيحاتهم لأفضل فيلم كوميدي. لكن المفارقة ليست في هذا الضم، بل في أن بطلتَي الفيلم، كيدمان وميريل ستريب، خرجتا خاليتَي الوفاض من حفل الترشيحات، ولو أن اسم كيدمان يلمع في نطاق أفضل تمثيل نسائي في مسلسل محدود الحلقات أو فيلم تلفزيوني.
‫هذا تم عن دورها الجيد في «غير المفعول» (The Undoing) مسلسل من التحقيقات البوليسية تقوم الممثلة فيه بتأدية دور طبيبة نفسية تجد نفسها وعائلتها في خطر بعدما حاولت معالجة قاتل من دون أن تعلم حقيقته.‬
هما، إذن، فيلم ومسلسل وكل منهما يوفّران للمشاهدين نيكول كيدمان في صورة مختلفة، وإذا ما ضممنا لقائمة أعمالها فيلمين جديدين قادمين هما «الشمالي» (The Northman) نجد ابنة الثالثة والخمسين ما زالت بقمّة النشاط و... الجمال أيضاً.

- لأداء أفضل
> لديك نحو 60 فيلماً وأكثر من 15 عملاً تلفزيونياً وبعض أفلامك وأعمالك من إنتاجك. ما هي التحديات التي تواجهينها في سبيل تقدّم مهنتك كممثلة وكمنتجة؟
- أعتقد أن المسألة تكمن في الاختيارات الخاصة بكل ممثل. بالنسبة لي هو اختياري في أن أواصل المهنة التي أحب وهي التمثيل، ولكي أحميها بأعمال أختارها عوض أن تختارني توجهت للإنتاج. التحدي في رأيي كما ذكرت هو اختيار ما أريد تمثيله أو ما أريد إنتاجه. ينبع من هنا (تضع إصبعها على صدغها الأيمن).
> هل يدخل في عداد اختياراتك من هو المخرج الذي ستقومين بالتمثيل تحت إشرافه؟
- على نحو مؤكد، والآن أكثر من السابق، وفي السينما أكثر من التلفزيون. في السينما تريد التعامل مع مخرج يعرف كيف ينجز النص الذي يبعث به إليك. هذا السيناريو جميل، لكن كيف سيقوم هذا المخرج أو ذاك بتحقيقه. أحاول الاعتماد على مخرجين أعرف أنهم سيؤثرون على النتيجة التي سيظهر عليها الفيلم. في «حفل التخرج» وجدت في خلفية (المخرج) رايان مورفيما أكّد لي أنني أستطيع الاتكال على خبرته.
> هذا هو التعامل الأول بينكما. هل تتدخلين في قراراته الفنية؟
- لا. لا هو ولا أي مخرج آخر.
> بعض نجوم السينما يفعلون ذلك، لهذا سألت.
- هناك فرق بين أن أبدي رأياً أو أن أتدخل. عادة ما يستشير المخرج ممثليه كلاً على حدة فيما يود القيام به، وهذه هي فرصة الممثل لإبداء الرأي.
> ما هي الصفات الفنية التي وجدتِها في رايان مورفي؟
- كنت شاهدت مسرحيات قام بإخراجها وأعلنت له مرّة أنني أود العمل معه، وكان بيننا مشروع فيلم اسمه Need، لكنه لم يتبلور. هو شخص ملم جداً بالممثل. أعتقد أن هذا شرط لكل من يعمل في المسرح بنجاح. بالنسبة لي وجدته مثل بطانة أستطيع الاعتماد عليها لكي تساعدني على أداء الأفضل.
> تقدمين رقصاً جيداً في «حفل التخرج» … كيف كان التدريب على هذا الرقص؟
- أخذ وقتا طويلاً. لم أكن أعرف شيئاً عن شيء اسمه «بوب فوسي ستايل» (بوب فوسي كان مخرجاً لأفلام عدة، بينها الفيلم الموسيقي الناجح «كباريه») إلى أن تم تعيين مدرّسة عملت على مسارح برودواي لتساعدني. كل يوم نخصص بضع ساعات للتدريب، وكان هذا شاقّا، لكنه ضرورياً.
> هل وجدت أن هذا التدريب كان أصعب مما تصورت في البداية؟
- طبعاً. وصلت إلى حد أنني فكّرت جدّياً في عدم استكمال التدريب. في الاعتذار عن تقديم الاستعراض. فكّـرت إن هذا كثير عليّ. أستطيع أن أرقص الباليه، لكن الرقص بطريقة بوب فوسي هذه كان أكثر من صعب. لكني لست الشخص الذي يستسلم للمصاعب.
> ما هي خصائص هذا الأسلوب؟… شاهدت «كباريه» و«كل ذلك الجاز» و«ليني»، لكن صعب عليّ وضع أسلوب فوسي في زجاجة.
- أعرف ذلك. كان عليّ أن أشاهد مقاطع من أفلامه التي ذكرت. راقبت طريقة توظيفه للظهر. حين تقف مثلاً فإن رأسك وكتفيك لهم علاقة بظهرك، خصوصاً كيف توجه رأسك وكيف تبقى مستقيماً. وكل شيء عليه أن يكون تفصيلياً؛ لأنك ستستخدم هذا «التكنيك» لكي تبني عليه الحركة الراقصة التي ستقوم بها. طبعاً لا أعرف إذا كنت أريد أن أقوم بهذه التجربة مرّة ثانية، لكنها كانت تجربة مفيدة.

- ملكة آيرلندية
> دورك هنا هو دور امرأة لديها الكثير من الاعتبار الذاتي... ربما إلى حد النرجسية. تقابلنا كثيراً من قبل، وأعرف أن هذا ليس من طباعك. على ذلك في الفيلم هناك شبه تبرير إيجابي لهذه النزعة.
- شخصياً إنني لست من مؤيدي النزعة النرجسية أو الاعتزاز بالذات. أعتقد أن هذا يمكن له أن يكون مدمّراً للشخص كما لعلاقاته المختلفة في العمل أو في العلاقات الخاصّة. هذه النزعة تجعلك غير قادر على أن تتواصل جيداً مع الآخرين، وتبعدك عن إيجاد وظيفة اجتماعية وإنسانية مفيدة.
> هل هذا هو السبب الذي ذكرتِه ذات مرّة عندما قلت لي إنك تؤمنين بالعمل الجماعي؟
- تماماً. النرجسية مدمّرة، خصوصاً إذا ما مارسها الممثل؛ لذلك دائماً ما أحب أن أجد نفسي في وسط المجموعة التي أعمل معها وعلى مسافة قريبة واحدة من الجميع. تكتشف أن الحياة ليست أنت. العمل الذي تؤديه ليس أنت، بل أنت في الحياة، وأنت في العمل، والكل في منهج مشترك واحد. الممثل أكثر من سواه عليه أن يعرف كيف يندمج في المجتمع. أنا امرأة حميمية وعاطفية، وأحب كثيراً أجواء العمل الجماعي.
> كيف كانت تجربتك في فيلم «الشمالي». أعتقد أن تصويره تم في شمالي آيرلندا.
- نعم. عندي جذور آيرلندية بدوري لجهة أجدادي. هم هاجروا إلى أستراليا سنة 1839، لكني ما زلت أحمل اللون الآيرلندي المناسب (تضحك).
> إذن، كيف كانت التجربة من حيث إن الفيلم يدور عن الفايكنغز، ومن حيث إن السفر منهك وسط إجراءات «كورونا»؟
- فكرت في الاعتذار عن هذا الفيلم. كل هذه الإجراءات قبل وخلال السفر وفي التصوير والحرارة الباردة والشمس التي تشرق لساعات قليلة في هذا الوقت من العام… لكني نبذت فكرة الاعتذار. قلت لنفسي أنت فنانة وهذا عملك وواجبك. حتى بعد وصولي استمر التساؤل حول ما إذا فعلت الشيء الصحيح بالموافقة على هذا الفيلم (تضحك).
> إلى متى استمر تساؤلك هذا؟
- إلى أن ركبت الفرس في بعض الأيام الأولى من التصوير. اعتليت الحصان وتبدّل كل شيء. شعرت بالرضا. كنت ارتديت كل تلك الأثقال المعدنية التي يرتديها المحاربون في ذلك الزمن. نظرت إلى الجبال من حولي وإلى الكاميرا تنتظر بدء الأوامر ونهاية الاستعدادات وقلت في نفسي... نعم، أستطيع أن أفعل ذلك.
> بات لديك روح الفايكنغ إذن…
- بالتأكيد. أنا الملكة غودرون في الفيلم ومقاتلة من صنف أول، أحمل السيف وأشترك في الهجوم على الأعداء… احذروني (تضحك).
> هل يزداد التمثيل صعوبة مع مرور الأعوام؟ أقصد هل يحتاج الممثل إلى التركيز أكثر أو يغمره تكثيف في المشاعر أكثر مما كان الأمر عليه؟
- والدتي كانت تقول لي بأنني دائماً ما كنت حادّة في مشاعري منذ أن كنت صغيرة. ما يريحني هو الحميمية. حميمية الأمكنة والذكريات والأشخاص. أرتاح عندما ألتقي أشخاصاً عاديين بعيدين عن مهنتي ويعيشون حياتهم بهدوء مثالي لا يملكه الممثل عادة؛ لأنه مطالب دائماً بكثير من المسؤوليات، خصوصاً تلك المسؤوليات المتعلقة بعمله.
> أنتِ الآن منتجة تلفزيونية لحلقات بعنوان The Undoing وبطلة المسلسل كذلك. هل توجهك للتلفزيون بمثابة فرصة عمل إضافية تطلبينها لنفسك أو هو ضمن مسارك الطبيعي؟
- هو فرصة ومسار طبيعي في الوقت ذاته. كوني منتجة يدعم اختياراتي كما ذكرت سابقاً. الممثل لديه حس بالشخصية التي يريد أن يؤديها قبل أن يبدأ فعلياً تأديتها. شيء من الفهم لها حتى من دون أن يقرأ كثيراً عنها.
> أخيراً، هل أعربت ابنتاك عن رغبتهما في التمثيل؟
- لديهما النيّة في ذلك. في الحقيقة ابنتي الكبرى بدأت الإخراج وتكتب أفلامها بنفسها، ولاحظت أنها لا تطلب مني ولا من شقيقتها أن نمثل في مشاريعها. لكني سعيدة بذلك؛ لأنها تريد الوقوف على قدميها باستقلالية كاملة.
> هل هما معك في آيرلندا؟
- للأسف لا. بروتوكولات السفر للتمثيل تمنع الممثل من جلب أفراد عائلته. في السابق نعم كثيراً ما كانتا تصحبانني... كنت احتاج إلى وجودهما... هل تعرف لماذا؟ ليس هناك من دعم للممثل أفضل من دعم أفراد عائلته.


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)