انقلاب ميانمار يشكّل «اختبار نيات» إقليمياً ودولياً

التعايش الصعب بين الجيش وأونغ سان سو تشي انهار رغم تنازلاتها في موضوع الروهينغا

انقلاب ميانمار يشكّل «اختبار نيات» إقليمياً ودولياً
TT

انقلاب ميانمار يشكّل «اختبار نيات» إقليمياً ودولياً

انقلاب ميانمار يشكّل «اختبار نيات» إقليمياً ودولياً

استيقظ العالم في الأول من فبراير (شباط) الجاري على أنباء سقوط «أرض اليشم»، وهو اللقب الذي تشتهر به ميانمار أو بورما، في هوّة الاضطرابات السياسية مرة أخرى.
إذ تمكن جنود جيش ميانمار، المعروفين محلياً بمسمى «تاتماداو»، في تمام الساعة الثالثة صباحاً من بسط السيطرة على البلاد. وتولى قائد الجيش الجنرال مين أونغ هلاينغ، البالغ من العمر 65 سنة، رئاسة البلاد، وذلك إثر وقوع مستشارة الدولة أونغ سان سو تشي، والرئيس وين مينت، رهن الاعتقال بتهمة تزوير الانتخابات. وذلك إلى جانب اعتقال الكثير من الصحافيين، والنشطاء، والفنانين الآخرين الذين كانوا ينتقدون الجيش في ميانمار. ومن المعروف أن الجيش الميانماري يعد ثاني أكبر قوة عسكرية نشطة في جنوب شرق آسيا بعد «جيش فيتنام الشعبي».
ولقد عمل الجيش بكل عناية على صياغة المشهد السياسي الراهن في ميانمار، لدرجة أن بعض المراقبين قد استبعدوا في بداية الأمر مجرد احتمال حدوث الانقلاب. فلقد انتشر الجنود في الشوارع، وتعطلت وسائل الإعلام المحلية والدولية عن العمل، مع توقف تام لوسائل الاتصالات في العاصمة نايبيداو. وذكرت وكالة «رويترز» الإخبارية أن القيادة في البلاد قد أعلنت عن إغلاق مطار «يانغون» الدولي في وجه حركة الطيران حتى شهر مايو (أيار) المقبل. كذلك أعلنت قيادة الجيش في ميانمار عن سريان حالة الطوارئ في البلاد لمدة سنة كاملة، وتعهدت بإعادة تشكيل لجنة الانتخابات الوطنية، مع الإشراف على إجراء انتخابات جديدة متعددة الأحزاب تتسم بالحرية والنزاهة.
يعرف القاصي والداني مدى تورط جيش ميانمار، تحت قياد الجنرال مين أونغ هلاينغ، خلال السنوات الأخيرة في حملة دموية مروّعة ضد مسلمي أقلية الروهينغا في البلاد اعتباراً من أغسطس (آب) من عام 2017، ونتيجة الترويع والمجازر أُجبر مئات الآلاف منهم على الفرار من ميانمار في اتجاه بنغلاديش المجاورة. ولقد خاطر هؤلاء بكل غالٍ ونفيس، فراراً بحياتهم عن طريق البحر أو سيراً على الأقدام من الهجوم العسكري الذي وصفته منظمة الأمم المتحدة في وقت لاحق بأنها «حملة نموذجية ممنهجة للتطهير العرقي».
وتعد أقلية الروهينغا، الذين كان يقترب عددهم من المليون نسمة في ميانمار مع أوائل عام 2017، إحدى الأقليات العرقية الكثيرة الأخرى القاطنة في البلاد. ويمثل مسلمو أقلية الروهينغا أكبر نسبة من المسلمين في ميانمار، ويعيش السواد الأعظم منهم في ولاية راخين. ويُذكر أن لأبناء هذه الأقلية هويتهم، ولغتهم، وثقافتهم الخاصة، وهم يقولون إنهم يتحدّرون من نسل التجار العرب القدامى الذين زاروا تلك البلاد في الماضي مع جماعات أخرى من التي استوطنت تلك المنطقة منذ أجيال. غير أن حكومة ميانمار -تلك الدولة التي يعتنق السواد الأعظم من سكانها الديانة البوذية- ترفض الاعتراف بـ«مواطنة» أقلية الروهينغا، كما استبعدتهم من التعداد السكاني خلال عام 2014، وترفض وجودهم كأقلية قاطنة في البلاد، إذ تعدهم مهاجرين غير شرعيين من بنغلاديش المجاورة.
ورداً على مواقف السلطات الميانمارية وجيشها من الروهينغا، أمرت المحكمة الدولية العليا، خلال يناير (كانون الثاني) من عام 2020 هذه السلطات باتخاذ التدابير الكافية لحماية أفراد الروهينغا من الإبادة الجماعية. ومع أن الجيش دأب على الزعم أنه يقاتل حصراً المسلحين من أبناء الروهينغا وينفي على الدوام استهداف المدنيين، قال محققو الأمم المتحدة إن الهجمات كانت تشتمل على عمليات القتل الجماعية، والاغتصاب الجماعي، والحرق المتعمد على نطاق واسع، وبالتالي تعد تلك الجرائم التي جرى تنفيذها تحت مظلة الإبادة الجماعية الممنهجة. وهو ما نفاه وينفيه الجيش.

مين أونغ هلاينغ... وجيشه وانقلابه
من جهة أخرى، كانت الولايات المتحدة الأميركية، استجابةً لتلك الفظائع، قد فرضت العقوبات على الجنرال مين أونغ هلاينغ وثلاثة آخرين من كبار القادة العسكريين خلال عام 2019، وهناك عدة قضايا منظورة أمام المحاكم الدولية في هذا الشأن، بما في ذلك محكمة العدل الدولية. ويوصف هذا الجنرال بأنه شخصية ذات بنية جسدية ضئيلة، دائماً يواظب على ارتداء النظارة المستديرة بلا حواف تلك التي تمنحه مظهر الكاتب الحكومي أكثر من كونه قائداً لأحد أكبر الجيوش القائمة في المنطقة، والذي أعلن لتوّه عن عملية انقلاب عسكرية في بلاده.
وللعلم، يعد انقلاب العام الجاري هو الثالث من نوعه في التاريخ السياسي لميانمار. وكان الانقلاب الأول في عام 1962، ثم الثاني في عام 1990، وكان حزب «الاتحاد للتضامن والتنمية» المدعوم من الجيش في البلاد، قد مُني بهزيمة فادحة في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي على أيدي حزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» بقيادة أونغ سان سو تشي. وكان الجنرال مين أونغ هلاينغ قاب قوسين أو أدنى من التقاعد، إذ قاربت فترة التمديد لخدمته العسكرية لمدة خمس سنوات، التي حصل عليها في عام 2016، على الانتهاء. أما مينت سوي، وهو القائم الجديد بأعمال الرئيس، فيعدّ من الشخصيات العسكرية المخضرمة، وخدم كقائد عسكري في جنوب شرقي ميانمار. في حين جرى الاستعاضة عن أونغ سان من منصبها كوزيرة للخارجية مع تعيين قيادة الجيش لعشر وزراء جدد في مناصب وزارية متعددة. وأعلنت القناة التلفزيونية الخاضعة لسيطرة الحكومة أن وزير الخارجية الجديد هو وونا مونغ لوين.
هذا، ويأتي الانقلاب العسكري الأخير بعد حملة استمرت لمدة شهر كامل لتشويه سمعة الانتخابات الأخيرة في نوفمبر عام 2020 بناءً على مزاعم واهية لا أساس لها من تزوير الناخبين. وعَكَس الانتصار الانتخابي الثاني على التوالي لحزب «الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية» أن الجيش قد عدم وسائل العودة مجدداً إلى السلطة في البلاد عن طريق الانتخابات. وكان رفض الجيش الاعتراف بنتائج الانتخابات الأخيرة المفصل الذي أشعل أزمة سياسية كبيرة في البلاد. إذ رفع الحلفاء العسكريون الشكاوى أمام المحكمة العليا في ميانمار ضد قادة الحكومة المدنية، وهددوا بمقاطعة البرلمان، وطالبوا بإجراء تصويت انتخابي جديد.
لماذا شرع الجيش في تنفيذ الانقلاب؟
تساور الكثيرين الحيرةُ إزاء هذا التساؤل المهم عن السبب الحقيقي لإقدام جيش ميانمار على تنفيذ الانقلاب في الوقت الذي يحظى بنفوذ كبير وواسع في سياسات البلاد؟
وهنا نشير إلى أن دستور عام 2008 في ميانمار ينص على ضمان 25% من مقاعد البرلمان لقادة الجيش، ولا يُسمح بإدخال التعديلات على الدستور من دون حيازة نسبة تأييد برلمانية تبلغ 75% على مثل هذه التعديلات. وهذا الأمر يمنح الجيش –عملياً- سيطرة شبه كاملة على عمليات سَنّ وتشريع القوانين في البلاد، حتى وإن كان بإمكان الممثلين المنتخبين مدنياً اتخاذ بعض القرارات المعنية بالشؤون الخارجية أو المحلية -كما شهدنا خلال السنوات القليلة الماضية في عهد أونغ سان سو تشي.
وحيال ما حدث، يقول المحلل السياسي الهندي أفيناش باليوال: «إن توقيت الانقلاب في ميانمار لا يحتاج إلى تفسير. فلقد جرى الكشف عنه قبل ساعات من الميعاد المقرر لانعقاد البرلمان الجديد. ولو لم يقع الانقلاب لكانت نتائج الانتخابات الأخيرة قد صودق عليها دستورياً. وكانت التوترات قد اندلعت بين حزب (الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية) وبين الجيش منذ انتخابات نوفمبر الماضي. وأظهرت نتائج الانتخابات في عامي 2015 ثم 2020 ارتفاعاً كبيراً في شعبية السيدة أونغ سان في مقابل التدني الملحوظ لشعبية الجيش في البلاد. ثم كانت هناك مطالب مستمرة بتخفيض النسبة البرلمانية المطلوبة لإدخال التعديلات الدستورية، وهو ما عمّق شكوك قيادة الجيش في محاولات أونغ سان سو تشي الرامية إلى تغيير موازين القوى المدنية العسكرية في ميانمار إثر وصولها إلى سدة السلطة للمرة الثانية».
ويتابع باليوال شرحه للوضع قائلاً إن «هذا المزيج الواضح من مخاوف الجيش وطموحات السيدة أونغ سان قد أسفرت عن اندلاع الخلافات بينها وبين المجموعة السياسية المؤيدة للجيش وهي حزب (الاتحاد للتضامن والتنمية). وثارت حالة من القلق المتزايد داخل أروقة الجيش بأنه بات يخاطر بفقدان النفوذ واستقلالية القرار على الكثير من الملفات السياسية ذات الأهمية في ميانمار».
وفي سياق متصل يرى أحد المراقبين السياسيين من نيودلهي -طلب إغفال الإشارة إلى هويته- أنه «في ديمقراطية ميانمار الخاصة، ينطبق الكثير من الشروط. وتدرك السيدة أونغ سان سو تشي إبان ولايتها الثانية للسلطة في البلاد ذلك الأمر تماماً. ولذلك، حال تولي حزبها السلطة على مدار السنوات الخمس الماضية، كانت حريصة كل الحرص على تحاشي استعداء قيادة الجيش. وهكذا، استمر الجنرالات في السيطرة المطلقة على الوزارات السيادية الرئيسية، وهي الدفاع والداخلية وشؤون الحدود. وحتى عندما وقعت عمليات التطهير العرقي ضد طائفة الروهينغا، التزمت أونغ سان -الحائزة على جائزة نوبل للسلام- الصمت المطبق حيالها. ورفضت أن تستفز الجيش في ذلك... ومع هذا كان الجنرالات أبعد ما يكونون عن السعادة بذلك».
فرص نجاح الانقلاب وردود الفعل العالمية
هل من شأن انقلاب الجيش في ميانمار أن يحظى بالنجاح؟ هذا أحد الأسئلة الحتمية المطروحة التي لا محيد عنها.
تقول الكاتبة الصحافية الهندية جيوتو مالهوترا، عن ذلك: «مع أن قيادة الجيش في ميانمار تملك القوة العسكرية الكبيرة، فإن ذلك لا يضمن الانتصار في معركة الشرعية السياسية. ولقد أكدت جولات الانتخابات المحلية المتتالية في البلاد وبصورة كبيرة وغالبة، شعبية السيدة أونغ سان سو تشي، وأن القاعدة السياسية الموالية للجيش ليست واسعة النطاق كما هو مُعتقد. وفي أعقاب عِقد كامل من الانتخابات الديمقراطية والحكم المدني بصفة جزئية في ميانمار، يخاطر الانقلاب العسكري الأخير بإشعال حالة عارمة من الاحتجاجات الجماهيرية في البلاد، تلك التي زعزعت استقرار السياسات في ميانمار في الماضي. غير أن المجلس العسكري قد خطط لذلك منذ فترة طويلة، ومن شأنه الصمود في وجه ردود الفعل الشعبية الغاضبة المتوقعة».
من ناحية أخرى، ما من شك في أن ردود الفعل العالمية كانت سريعة وقاسية، لا سيما مع تولي الولايات المتحدة وأستراليا زمام المبادرة في ذلك من خلال الدعوة الصريحة إلى إطلاق سراح المعتقلين واحترام نتائج الانتخابات الأخيرة في عام 2020.
ولقد أعرب أنطونيو غوتيريش، الأمن العام لمنظمة الأمم المتحدة، عن إدانته البالغة لإقدام الجيش على اعتقال القادة المدنيين المنتخبين في ميانمار. كذلك، وصفت وسائل الإعلام الأوضاع في ميانمار بأنها تعد أول اختبار رئيسي في السياسات الخارجية لفريق الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن. وللأمر خلفيته المعروفة في أوقات أكبر الإنجازات الماضية لإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما. وكان الرئيس أوباما قد قام بزيارة ميانمار في عام 2012، تلك الزيارة التي تزامنت مع الانفتاح الديمقراطي الجديد في البلاد، بتشجيع واضح من الولايات المتحدة، ومع تكثيف العلاقات المشتركة مع الكثير من البلدان الديمقراطية الغربية، وتراجُع حالة النفوذ الخانقة للصين في المقابل.
وبعدما كانت الحكومة الأميركية قد رفعت العقوبات المفروضة على ميانمار خلال العقد الماضي إثر التقدم الذي أحرزته الحكومة هناك على مسار الديمقراطية، قال الرئيس بايدن في بيانه الأخير عن الوضع: «إن عكس هذا التقدم سيستلزم من جانبنا إعادة النظر بصفة فورية في قوانين وصلاحيات العقوبات لدينا، ومن شأن ذلك أن يتبعه اتخاذ الإجراء المناسب». وحقاً، ترددت أصداء تعليقاته على نطاق كبير لدى البلدان الديمقراطية الأخرى وإن كانت ببعض التغييرات. كما اتّسقت تلك التعليقات إلى درجة كبيرة مع تعهد الإدارة الأميركية بتأكيد المسار الديمقراطي لا سيما بعد الاضطرابات السياسية التي شهدتها سنوات حكم الرئيس السابق دونالد ترمب.

الصين في {مأزق} بعد انقلاب الجيش في ميانمار
> من المثير للاهتمام أن الحكومة الصينية قد أحجمت حتى الآن عن التعرض بالانتقاد أو التأييد لانقلاب ميانمار العسكري الأخير، لا سيما مع وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الحكومة التي تصف الانقلاب في ميانمار بأنه «تعديل وزاري واسع النطاق». كذلك فضّلت الحكومة الصينية التزام الصمت التام، مع الإشارة إلى أن ميانمار هي آخر البلدان التي قام الرئيس الصيني بزيارتها في عام 2020.
وهنا، يقول الخبراء المعنيون بالأمر إن ميانمار تملك أهمية خاصة بالنسبة إلى الخطط الجيو - استراتيجية لدى الصين. وسوف يكون من المثير للاهتمام في الفترة المقبلة أن نشهد مسار استجابة الصين إزاء تداعيات الموقف في الأيام القليلة المقبلة. وفي اتجاه موازٍ، من شأن الانقلاب الأخير أن يضع الصين في مأزق سياسي بالنظر إلى حقيقة دفء العلاقات بين الحكومة الصينية وأونغ سان سوتشي خلال السنوات الأخيرة رغم محافظة بكين على علاقاتها الوثيقة والقوية مع جيش ميانمار.
ثم قد يكون من المفيد النظر إلى حقيقة المصالح التجارية الكبيرة لدى الصين. فهناك اعتبارات «مبادرة الحزام والطريق» في ميانمار، والدعم الصيني المستمر لإجبار ميانمار على تسوية أزمة طائفة الروهينغا بصورة إنسانية في المناطق الحدودية المتاخمة، مع ترسيخ القوى الديمقراطية في البلاد، تلك التي تحظى بعلاقات ودّية جيدة مع الحكومة الصينية. فهل من شأن الصين، على سبيل المثال، الاستعانة بحق النقض «الفيتو» ضد انتقاد الانقلاب العسكري في مجلس الأمن الدولي؟ إنْ أقدمت الصين على فعل ذلك، فقد يكون ذلك خطوة جديدة على طريق التشدد الآيديولوجي ضد الديمقراطية من بكين، وليس فقط في الداخل وإنما بين جيرانها في الخارج كذلك.
أما فيما يخص العملاقين الآسيويين الآخرين، الهند واليابان، فإنهما التزمتا الصمت التام إزاء انتقاد الانقلاب في ميانمار. إذ اكتفت نيودلهي بالإعراب عن قلقها العميق، وأعلنت طوكيو أنه «من المهم للأطراف المعنية حل المشكلات سلمياً من خلال الحوار وفقاً للعملية الديمقراطية». وراهناً، تراقب نيودلهي بعناية وعن كثب مستجدات الأوضاع في ميانمار، ولقد رفضت الانجرار إلى تأييد فريق الجيش أو فريق أونغ سان المناوئ له. ولا يرمز شيء إلى ذلك الموقف أكثر من الزيارة المشتركة التي قام بها وزير الخارجية الهندي رفقة قائد الجيش الهندي إلى ميانمار، فلقد كانت زيارة استثنائية، وكانت لها أهداف ونتائج غير اعتيادية. ومعلومٌ أن التواصل العسكري والدبلوماسي الهندي إزاء ميانمار يشكل الركن الأساسي في سياسة «التوجه شرقاً» المعتمدة لديها. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، سلّمت حكومة ميانمار 22 متمرداً هندياً لسلطات نيودلهي ممن كانوا يثيرون المشكلات عبر الحدود. غير أن العلاقات الثنائية بين البلدين تعززت بالفعل اعتباراً من عام 2015 في أعقاب اللجنة الثنائية المشتركة التي أسفرت عن اتخاذ الهند قرارها بزيادة المبيعات العسكرية إلى ميانمار.
وهنا يعلِّق الصحافي الهندي البارز مانيش شيبار، قائلاً: «يمكن تفسير الاستجابات الهادئة من جانب الهند واليابان بأنها إحجام عن استعداء أي جانب يسيطر على السلطة في ميانمار، نظراً لأن مثل هذه الخطوة ستدفع ميانمار مجدداً إلى أيدي المنافس الكبير المشترك على النفوذ هناك، ألا وهي الصين».
وأما بالنسبة لدول المنطقة الأخرى، فقد اتسمت بيانات البلدان المشاركة لميانمار في «رابطة دول جنوب شرقي آسيا - آسيان» بالحذر الشديد. فلقد حثت سنغافورة وإندونيسيا الأطراف كافة على ضبط النفس، ورأت كمبوديا الانقلاب الأخير «شأناً داخلياً» في ميانمار، ودعت ماليزيا الجيش ومختلف الأطراف المعنية في ميانمار إلى «منح الأولوية القصوى إلى الحفاظ على السلام والأمن» في البلاد.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.