روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»

المبعوث الأميركي لإيران ينصح بايدن بإلغاء الانسحاب من الاتفاق النووي

روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»
TT

روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»

روبرت مالي... «رجل الأزمات» القادم على أساس دبلوماسية «الكل رابح»

طال الجدل لأسابيع في حملة تأرجحت بين تأييد قوي، ومعارضة صارخة حول ترشيح روبرت مالي لمنصب المبعوث الأميركي لشؤون إيران، حتى جاء إعلان إدارة الرئيس الأميركي يوم الجمعة الماضي بتأكيد اختياره لهذا المنصب. وتركز الجدل، وكذلك المخاوف والترقب والقلق من الفريق المعارض لتعيينه، بسبب مواقف مالي من النظام الإيراني. إذ كان مالي من الوجوه البارزة في فريق الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي تفاوض سراً على الاتفاق النووي الإيراني المعروف باسم «خطة العمل المشتركة» الموقعة عام 2015، وانسحب منه الرئيس السابق دونالد ترمب عام 2018، وفرضت إدارته عقوبات مشددة على طهران كجزء من حملة الضغط القصوى. وبدورها، خرقت طهران التزاماتها بموجب الاتفاق بإعلانها عن زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المائة وزيادة استخدام أجهزة طرد مركزي متطورة.
لقد أبدى صقور الحزب الجمهوري المنتقدون لاختيار روبرت مالي لمنصب المبعوث الأميركي لشؤون إيران تخوفهم من أنه «متساهل للغاية مع النظام الإيراني». ومن ثم، قد يتغاضى عن أي انتهاك ترتكبه طهران من أجل التوصل إلى اتفاقات معها. كذلك، قد يقدم على خطوات يمكن أن تضر بأمن إسرائيل ودول الخليج. وحقاً، ارتفعت مستويات القلق مع ترحيب الجانب الإيراني باختياره، لا سيما عندما غرد حسام الدين آشينا، المستشار البارز للرئيس الإيراني حسن روحاني، قائلاً «إن تعيين روبرت مالي يحمل رسالة واضحة حول نهج فعال لحل النزاع بسرعة وفاعلية».
الحقيقة أنه منذ فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، والجميع يرصد ويحاول التنبؤ بأسلوبه وطريقته في إدارة ملف الطموح النووي الإيراني. وخلال الأيام القليلة الماضية صرح كل من أنتوني بلينكن وزير الخارجية، وجايك سوليفان مستشار شؤون الأمن القومي، بأن توجهات إدارة بايدن نحو إيران ستكون «صارمة»، وأن الإدارة «ليست في عجلة للعودة إلى الاتفاق النووي»... وبالتالي، لن تقدم على رفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب، وأرسلا رسائل واضحة إلى طهران مفادها أن واشنطن بانتظار خطوات تثبت حسن نيات النظام الإيراني أولاً. كذلك، تعهد بلينكن بأنه «سيعمل للحصول على اتفاق نووي أطول وأقوى» مع إيران «بالتشاور مع الحلفاء الإقليميين مثل إسرائيل ودول الخليج العربي». وفي الوقت نفسه حذر من أن إيران قد تكون على بعد أشهر فقط من تطوير ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية.
في هذه الأثناء، يتفق الديمقراطيون والجمهوريون في مجلسي الكونغرس الأميركي، رغم كل الخلافات والاختلافات بين الحزبين الكبيرين، على مبدأ واحد هو رفض السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي. وثمة ساسة من الحزب الديمقراطي يدعمون استراتيجية ترمب الخاصة بفرض عقوبات ضاغطة على الاقتصاد الإيراني. ثم إن الحزبين يطالبان باتفاق أوسع يشمل الصواريخ الباليستية ومعالجة الثغرات في الجدول الزمني المنصوص عليه في الاتفاق النووي بما يعرف بـ«غروب الشمس»، وما يتعلق بتدخلات إيران في الإقليم عبر وكلائها.
وبالفعل، خلال الأسبوع الماضي تبادلت واشنطن وطهران التصريحات كما في لعبة «كرة الطاولة»، فألقى كل طرف الكرة في ملعب الطرف الآخر، إذ طالبت واشنطن طهران بالالتزام بتعهداتها كشرط مسبق لعودتها إلى الاتفاق النووي، وفي المقابل طالبت طهران الجانب الأميركي بـ«الامتثال الكامل» للاتفاق النووي، ورفع العقوبات الاقتصادية قبل أي مباحثات حول الاتفاق النووي.

قراءة في عقل
المبعوث الأميركي الجديد
يتمتع روبرت مالي بعلاقات جيدة داخل الأوساط السياسية الأميركية، وكان قد شارك مع وزير الخارجية الأسبق جون كيري في المباحثات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني قبل التوصل إلى «اتفاقية العمل المشتركة»، عام 2015. وما يلفت الانتباه في خيارات الرئيس بايدن أن معظم الشخصيات في إدارته تربط بينهم علاقات صداقة وروابط قديمة، خاصة أولئك الذين يتولون ملف السياسات الخارجية.
مالي يعد صديقاً مقرباً لكل من وزير الخارجية بلينكن، ومستشار الأمن القومي سوليفان، وأيضاً من ويندي شيرمان التي عملت معه كمفاوضة رئيسية في صفقة إيران، بل وتعود صداقة بلينكن مع مالي إلى فترة الدراسة الثانوية في العاصمة الفرنسية باريس. وكلاهما عمل في إدارة بيل كلينتون وفي إدارة باراك أوباما. أيضاً، كان مالي وزوجته كارولين زميلي دراسة في كلية الحقوق بجامعة هارفارد مع الرئيس أوباما.
من ناحية ثانية، مَن يعرف روبرت مالي أو «روب» - كما يسميه أصدقاؤه - تلفته شخصيته الهادئة المتزنة وابتسامته الدائمة. ويقول هؤلاء عنه إنه شخص يصعب إثارة غضبه، بل هو الذي يقوم دائماً بامتصاص غضب الآخرين وتهدئتهم. وشخصية كهذه ساعدته في عمله بمجلس الأمن القومي إبان عهد أوباما من فبراير (شباط) 2014 إلى يناير (كانون الثاني) 2017، وقبل ذلك عندما عمل مساعداً لمستشار الأمن القومي ساندي بيرغر. وهو يعد خبيراً في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وكتب مقالات عديدة دعا فيها إلى التقارب مع حركة حماس (المُدرجة على القائمة الأميركية كجماعة إرهابية)، وكذلك إلى التقارب مع جماعة الإخوان المسلمين.

استراتيجية «الكل رابح»
مالي يعتمد استراتيجية إشعار كل طرف بأنه رابح في اللجوء إلى التفاوض، وأن كل طرف يمكن أن يحصل من المفاوضات على ما يريده وما يحقق مصالحه. وعندما كان «روب» منخرطاً في النقاشات والمفاوضات مع الجانب الإيراني إلى أن أبرم الاتفاق النووي في 2015، قال في حوار خاص، نشر على صفحات «الشرق الأوسط» في ديسمبر (كانون الأول) 2016، إنه يعي تماماً أن إيران «لن تغير سلوكها لمجرد إبرام الاتفاق النووي، لكن إدارة أوباما لديها أمل في أن منع إيران من امتلاك سلاح نووي سيقلل من التوتر الإقليمي، وبمرور الوقت سيقلل من الأعمال العدائية ويحد من مخاطر المواجهة العسكرية. وبالتالي، هناك إمكانية لرؤية إيران ودول مجلس التعاون الخليجي ودول أخرى، يجلسون إلى طاولة واحدة».
اليوم، ثمة من يقول إن أولئك الذين يتوقعون من مالي أن يعود بنفس الملفات القديمة من إدارة باراك أوباما، يخطئ في تقدير إمكانات الرجل. ويرى هؤلاء أنه يدرك التغييرات التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه مكلف بإعادة ضبط بعض السياسات الخارجية للولايات المتحدة، ومنها إنهاء حملة الضغط القصوى ضد إيران. وفي هذا الإطار، يؤمن مالي بأن الضغط من خلال الدبلوماسية هو الأسلوب الأكثر فاعلية، وكذلك إشراك «شركاء أميركا التقليديين» وتعزيز التعاون مع أوروبا، خيارات ستحقق الكثير من الأهداف لأن القواسم المشتركة بين سياسات الدول الأوروبية وسياسات بايدن لمنطقة الشرق الأوسط، أكبر بكثير منها مع إدارة ترمب.

قناعاته و«مقترحاته الإيرانية»
يوم الاثنين الماضي، حمل «روب» مالي أوراقه وملفاته إلى مكتبه الجديد في مبنى الخارجية الأميركية، ولم يضع أي وقت في البدء – وبسرعة – في الاتصال بالمسؤولين البريطانيين والفرنسيين والألمان لمناقشة الملف الإيراني. لم يجرِ مالي أي اتصالات أو مناقشات مع الجانب الإيراني بعد، فالسياسة التي يقول إنه يريد اتباعها أولاً هي تشكيل قاعدة أساسية من التوافقات مع الدول الأوروبية، والعثور على طريقة لرفع القيود المفروضة على إيران حتى يمكن تنظيم العودة إلى الصفقة مرة أخرى، والوصول إلى أرضية وسط.
مالي يعتبر أن الضغوط الاقتصادية لم تؤدِ إلى «استجابة» النظام الإيراني والعودة إلى مائدة المفاوضات. بل كان مالي من «جوقة» منتقدي انسحاب ترمب من الاتفاق النووي، وكتب في تقرير أصدره خلال «مجموعة الأزمات الدولية» حول الموضوع «إن حملة الضغط القصوى التي شنتها إدارة ترمب كانت تهدف إلى التوصل لاتفاق نووي أفضل، مع كبح جماح نفوذ إيران الإقليمي، لكن ما حققته هو العكس، إذ أدت إلى زيادة التوترات في الشرق الأوسط وزعزعة الاستقرار الإقليمي، كما تراجعت المكاسب التي حققتها خطة العمل الشاملة المشتركة، وتركت الولايات المتحدة معزولة عن الحلفاء الأوروبيين والدول الأعضاء في مجلس الأمن».
وتابع مالي منتقداً سياسات إدارة ترمب، فقال إنه «حينما سعت الولايات المتحدة لإطلاق آلية (سناب باك) لإعادة العقوبات الدولية المعلقة... تجاهل أعضاء مجلس الأمن طلب الولايات المتحدة. وبعد مقتل العالم النووي محسن فخري زادة، أقر البرلمان الإيراني تشريعاً يفرض المزيد من التوسع في الأنشطة النووية، وأعلنت إيران زيادة تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المائة في منشأة فوردو التحت أرضية».
ومن ثم، «نصح» مالي إدارة بايدن بإلغاء انسحاب ترمب من الاتفاق النووي، والتراجع تماماً عن العقوبات التي كانت قائمة في عهد ترمب، بينما تعيد إيران برنامجها النووي إلى الامتثال الكامل. واقترح كإجراءات إضافية أن تدعم واشنطن طلب إيران قرضاً من صندوق النقد الدولي كدليل على حسن النية في ضوء جائحة «كوفيد – 19» وتدفع طهران لمناقشات حول تبادل الأسرى. أما فيما يتعلق بخروق إيران وانتهاكاتها، فيدعي مالي أن عكس مفعول الخروق في خطة العمل الشاملة المشتركة الإيرانية «يمكن أن يتحقق في غضون شهرين». وهو يأمل في أن تتطرق النقاشات مع الحلفاء الأوروبيين إلى الضغط على إيران لإنهاء الصراع في اليمن ودعم الحوار بين إيران والدول الخليجية بما يؤدي إلى خفض التوترات.
في المقابل، يرى مالي أن «ربط إعادة الانضمام للاتفاق النووي بـ(قضايا أخرى) قد يعرض المفاوضات والصفقة بأكملها للخطر». وبالتالي يعتقد أنه «يجب أن يكون الهدف إعادة الدخول في الاتفاق، أما القضايا الأخرى مثل خفض التصعيد الإقليمي وتطوير الصواريخ الباليستية، من الأفضل متابعتها فيما بعد، وليس وضعها كشرط لاستعادة الاتفاقية بالكامل».
أكثر من هذا، يعتبر مالي أن من مصلحة الولايات المتحدة كبح جماح إيران نووية، ومن مصلحة إيران الحصول على خفض للعقوبات الأميركية بعد سنوات من الإنهاك الاقتصادي نتيجة حملة الضغط القصوى والعقوبات التي فرضتها إدارة ترمب. ولذا فإن العودة إلى الاتفاق النووي أمرٌ ممكن رغم وجود تعقيدات كثيرة. وفي ظل تيارات إيرانية محافظة متشددة وأخرى «معتدلة»، يؤمن مالي بأن عملية صنع القرار في إيران تتركز في يد المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يلعب الدور المهيمن في السياسات. وعليه، فهو لا يتعجل إجراء المشاورات حول العودة إلى الاتفاق النووي قبل انتهاء ولاية الرئيس الإيراني حسن روحاني في يونيو (حزيران) المقبل، ولا يتخوف من وصول تيار محافظ أكثر تشدداً وأكثر صرامة إزاء واشنطن، بل إن قرار التعامل مع واشنطن سيعتمد على رؤية خامنئي لا من سيشغل منصب الرئيس.

جذوره المصرية
على الصعيد الشخصي، يفخر «روب» مالي دائماً بأن جده كان صحافياً يهودياً مصرياً، ولد وعاش في مصر، وعمل في جريدة «الجمهورية» المصرية قبل أن يهاجر في الستينيات من مصر إلى فرنسا ويؤسس هناك جريدة «أفريكاسيا»، وهي مجلة يسارية مهتمة بالشؤون الأفريقية والآسيوية.
ولد مالي عام 1963. ونقل والده سيمون مالي العائلة إلى نيويورك عام 1980، وذلك بعد طرد الرئيس الفرنسي - آنذاك - فاليري جيسكار ديستان سيمون والد «روب» بسبب كتاباته العدائية تجاه إسرائيل والدول الغربية. وبعدما هاجرت العائلة إلى نيويورك، التحق «روب» بجامعة ييل العريقة. ثم عام 1984 فاز بـ«منحة رودز» للدراسة في كلية مودلين بجامعة أوكسفورد الشهيرة في بريطانيا، حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة. وفيما بعد دخل كلية الحقوق بجامعة هارفارد ونال منها إجازة القانون، وهناك التقى زوجته كارولين وتزاملا في الوقت ذاته (عامي 1991 و1992) مع زميل آخر هو باراك أوباما.
مالي شخص عائلي جداً، فهو مرتبط بشكل كبير بزوجته وولديه مايلز وبلايز وابنته فرانسيس، ويحرص على حضور الحفلات المدرسية ومتابعة دروس ابنته وعروضها في حفلات رقص الكلاينيت. كذلك، فإنه يحرص على زيارة مصر، خاصة منطقة الأهرامات وخان الخليلي.
وعودة إلى الصعيد السياسي، فإن مالي تولى مناصب عديدة في إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون داخل مجلس الأمن القومي، وبرز اسمه حين تولى منصب مساعد الرئيس كلينتون للشؤون العربية الإسرائيلية بين 1998 و2001. وبعد رحيل إدارة كلينتون، غادر للعمل مع «مجموعة الأزمات الدولية»، التي تدير مجموعة واسعة من المحللين المتخصصين في الصراع العربي الإسرائيلي والحركات الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة.
ويذكر أن جريدة «التايمز» البريطانية فجرت فضيحة عام 2008 بنشرها تقريراً حول علاقات واتصالات مالي بمسؤولي حركة «حماس» التي تدرجها الخارجية الأميركية كمنظمة إرهابية. ودافع مالي عن تلك العلاقات بأنه جزء من عمله في «مجموعة الأزمات الدولية»، ونشر مقالات عديدة دعا فيها إسرائيل و«حماس» إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولكن بريق مالي خبا بعد تلك التقارير إلى أن عاد عام 2014 عضواً في مجلس الأمن القومي بإدارة أوباما مسؤولاً عن إيران ومنطقة الخليج. ويومذاك، حل محل فيليب غوردون عام 2015 مساعداً خاصاً لأوباما ومنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج، ثم مسؤولاً عن ملف مكافحة «داعش»، كما شارك في وفد المفاوضين الأميركيين في الاتفاق النووي الإيراني.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.