منذ عام ونيّف ومنظمة الصحة العالمية تكاد تكون متفرّغة، كما معظم الحكومات في العالم، لجائحة (كوفيد - 19) التي فتحت الحرب الكونيّة ضدها معارك على كل الجبهات، من الصحة بكل أبعادها الجسدية والنفسية إلى الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية والسباق المحموم بين الدول الكبرى لتوسيع دوائر النفوذ الاستراتيجي على متن الإنجازات العلمية في تطوير اللقاحات والعلاجات.
وبعد أن انحصر نشاط المنظمة خلال الأشهر المنصرمة في متابعة وتوجيه مشاريع تطوير اللقاحات وحشد الدعم المالي واللوجيستي اللازم لتوزيعها على البلدان الفقيرة والنامية، يجد خبراء المنظمة أنفسهم في حيرة كبيرة اليوم إزاء التعاطي مع الطفرات الجديدة للفيروس، وتحديد الطرائق الناجعة لمكافحتها، واحتواء انتشارها بعد أن باتت تهدد بالقضاء على قسم كبير من الإنجازات التي تحققت في الحرب ضد الوباء.
وتوضح الخبيرة السويسرية في علم الأوبئة شانتال بوفيه أن التحوّلات هي من الثوابت في كل الفيروسات، وأنه كلما دخل الفيروس إلى الخليّة ليبدأ بالتناسخ ملايين المرّات تتعرّض المادة الوراثية الموجودة في بعض النسخ لخلل في تركيبتها الأصلية، وتبدأ بالتراكم إلى أن تشكّل أرومة فيروسية جديدة. وعندما يتراكم عدد كافٍ من هذه التحولات ويترافق مع تعديل في خصائص الفيروس وتأثيراته، نكون أمام طفرة جديدة أسرع سرياناً أو أشد فتكاً، ويبقى الفيروس هو ذاته وتبقى دفاعات الجسم وجهاز المناعة قادرة على معرفته. لكن عندما يتجاوز منسوب تحولات الفيروس قدرة أجهزة الدفاع على رصده والقضاء عليه، وتنشأ عنه عوارض تختلف عن تلك التي تولّدها الإصابة الأولى نكون أمام سلالة فيروسية جديدة.
هذه السلالات الفيروسية الجديدة التي بدأت تتشكّل من الطفرات التي ظهرت أولا في المملكة المتحدة وجنوب أفريقيا والبرازيل، هي التي تقلق خبراء منظمة الصحة الذين يتابعون عن كثب تطوراتها بعد أن تأكد وجودها في غالبية البلدان الأوروبية، وبخاصة في بريطانيا التي تجهد لاحتواء السلالة الجنوب أفريقية في الوقت الذي رصدت عيّنات من فيروس «كورونا» المستجدّ تحمل تحولّات وراثية جديدة.
وكانت الحكومة البريطانية قد خفضّت من منسوب التفاؤل الذي شاع مع التقدّم السريع الذي حققته حملة التطعيم التي شملت حتى الآن ما يزيد على 10 ملايين نسمة، وذلك بعد اتساع دائرة انتشار السلالة الجنوب أفريقية، حيث سجّلت السلطات الصحية 143 إصابة بها، منها عشر إصابات في الأقلّ لم تكن على اتصال بوافدين من جنوب أفريقيا. وتوزّعت هذه الإصابات على عدة مدن مثل ليفربول وبريستول وكنت وبعض أحياء العاصمة لندن، حيث تجري عملية غربلة واسعة عن طريق الفحوصات في المنازل ومراكز التتبع. وتهدف هذه العملية إلى احتواء الإصابات المحتملة بهذه السلالة بين ما يزيد على 80 ألف نسمة، مع الخشية بأن تكون قد انتشرت بين عدد أكبر من السكان. وكانت السلطات الصحية قد طلبت من جميع الذين تجاوزوا السادسة عشرة من العمر في هذه المناطق الخضوع للفحص حتى في حال عدم ظهور عوارض. وكان وزير الصحة البريطاني مات هانكوك قد طلب من سكّان هذه المناطق عدم مغادرة منازلهم إلا في حالات الضرورة القصوى، علما بأن بريطانيا تخضع لتدابير عزل صارمة تشمل إقفال المتاجر والمطاعم والمقاهي ومراكز الترفيه والمدارس والجامعات.
ويقول خبراء منظمة الصحة الذين يتواصلون بشكل دائم مع السلطات الصحية البريطانية إن البيانات المتوفرة حتى الآن تشير إلى أن الطفرة أو السلالة الفيروسية الجنوب أفريقية ليست أشد فتكاً، وأن معظم تحولاتها الوراثية مطابقة لتلك التي تحملها الطفرة البريطانية التي أصبحت الآن مصدر غالبية الإصابات الجديدة في المملكة المتحدة.
وتنبّه شانتال بوفيه إلى أن التحولات الفيروسية هي عمليات ديناميكية جداً يعسر رصدها بدقة، وتحتاج إلى قدرات تقنية عالية لتحديد التسلسل الوراثي ليست متوفرة بالقدر الكافي عند السواد الأعظم من الدول. ويذكر أن المفوضية الأوروبية كانت قد أوصت حكومات البلدان برفع هذه القدرات لتتمكن من تحديد التسلسل الوراثي لما لا يقلّ عن 5 في المائة من العيّنات الفيروسية، علما بأن هذه القدرة تقارب 10 في المائة في بريطانيا. ومن جهتها أوصت منظمة الصحة بزيادة هذه القدرات إلى جانب وضع خطط مخصصة لرصد الطفرات والسلالات الجديدة قبل انتشارها على نطاق واسع لتحديد سبل احتوائها.
وتتابع منظمة الصحة بقلق كبير البيانات الأخيرة التي وردتها من السلطات الصحية البريطانية التي رصدت مؤخراً تحولات جديدة على السلالة التي ظهرت في المملكة المتحدة تجعل الفيروس أكثر قدرة على تجاوز دفاعات جهاز المناعة. ويفيد البيان الأخير الذي صدر عن السلطات البريطانية أنها لم ترصد حتى الآن سوى إحدى عشرة إصابة بهذه السلالة الجديدة.
ويقول عالم الوبائيات نونو فاريا من المعهد الإمبراطوري في لندن الذي اكتشف أواسط الشهر الماضي أن الفيروس يتحوّل في مناطق عدة من العالم باتجاه واحد، أي بسرعة أكبر على السريان وقدرة على إصابة معافين من الوباء: «الحل معروف وهو الإسراع في تطعيم جميع السكان. وفي غضون ذلك، استخدام الكمّامات الواقية والتزام التباعد الاجتماعي وغسل الأيدي وتهوية الأماكن. والعبرة التي يجب أن نستخلصها من التحولات والسلالات الجديدة، هي أنه لا يمكن التقليل من شأن قدرة الفيروس على التحوّل وتركه ينتشر بلا ضوابط، لأن منعه من الانتشار يمنعه من التحوّل».
وتجدر الإشارة إلى أن السلالة التي تعرف بالبريطانية ظهرت للمرة الأولى في سبتمبر (أيلول) الفائت، وسرعان ما أصبحت الأكثر انتشاراً في المملكة المتحدة. وتقول منظمة الصحة إن وجود هذه السلالة قد تأكد حتى الآن في 73 دولة، محذّرة من أن عدم احتوائها بسرعة سيفاقم المشهد الوبائي العالمي ويضع المنظومات الصحية أمام تحديات صعبة جداً.
حملات التلقيح تحت وطأة التحولات الجديدة للفيروس
حملات التلقيح تحت وطأة التحولات الجديدة للفيروس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة