هل فقدت مطالع القصائد فتنتها السابقة؟

بعد التغييرات الحاسمة التي أدخلتها الحداثة على بنية القصيدة العربية

محمد مهدي الجواهري  -  سعيد عقل  -  بشارة الخوري  -  بدر شاكر السياب
محمد مهدي الجواهري - سعيد عقل - بشارة الخوري - بدر شاكر السياب
TT

هل فقدت مطالع القصائد فتنتها السابقة؟

محمد مهدي الجواهري  -  سعيد عقل  -  بشارة الخوري  -  بدر شاكر السياب
محمد مهدي الجواهري - سعيد عقل - بشارة الخوري - بدر شاكر السياب

لعلهم لا يبتعدون عن الحقيقة كثيراً أولئك الذين يعتبرون أن العثور على المدخل المناسب للقصيدة هو المفتاح الأهم الذي يتعذر من دونه الولوج إلى متنها. لا بل يذهب أحد الشعراء إلى الاعتراف بأن نصْف الجهد الذي يبذله في كتابة قصيدته، ينحصر في سطرها الأول، فيما تتوزع بقية السطور نصفه الآخر. أما السبب في ذلك فيعود إلى المخاض الصعب الذي يعيشه الشعراء أثناء الانتقال من مرحلة الإيقاع المبهم والغمغمة اللغوية المشظاة، إلى خانة الإفصاح التعبيري، الذي تتوقف على بيته الأول، سائر الأبيات والمقاطع اللاحقة. والحقيقة التي يعرفها الشعراء أكثر من سواهم، هي أن المرحلة الفاصلة بين التهويمات الضبابية الأولية للإلهام، وبين تمظهر هذا الإلهام في اللغة والصورة والإيقاع، هي من أكثر مراحل الإبداع الشعري صعوبة وتمنعاً ووقوعاً في دوامة الحيرة، قبل أن يرسو الشاعر على بر مناسب للتأليف.
على أن المكانة الأبرز للمطالع هي تلك التي جسدتها على نحو خاص القصائد العربية الخليلية، حيث يمكن للأبيات أن تُقرأ بشكل مستقل وبمعزل عن السياق العام للنصوص، وحيث يكتسب المطلع قيمتين متلازمتين وبالغتي الأهمية. فهو يملك باعتباره الحجر الأساس في عمارة القصيدة، أو الجملة الموسيقية المفتاحية التي يقوم عليها اللحن، أن يحدد للأبيات التي تليه مساراتها الإيقاعية ونبضها ومساحة توترها، كما يملك من جهة ثانية قدرة موازية على الاستقلالية والانفصال عما يليه. وقد أدرك النقاد العرب الأقدمون، الأهمية البالغة التي تكتسبها المقدمات والمطالع في حث المستمع أو القارئ على متابعة الأجزاء الأخرى من القصيدة أو صرفه عنها، فذهب أبو هلال العسكري إلى القول «أحسِنوا معاشر الكتاب الابتداءات، فإنهن دلائل البيان». وأكد حازم القرطاجني على المعنى نفسه، مركزاً على أهمية الاستهلالات والمطالع باعتبارها «الطليعة الدالة على ما بعدها، والمتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة».
وقد يكفي في هذا السياق أن نستعرض مقدمات المعلقات السبع، وبمعزل عن المفاتيح النمطية للاستهلالات الموزعة بين البكاء على الأطلال، واستدعاء الأطياف الغاربة للنساء والأماكن، لندرك مدى الجهد المبذول في صياغة تلك المقدمات التي تحولت مع الزمن إلى جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية، من مثل افتتاحية امرئ القيس «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ»، وافتتاحية طرفة بن العبد «لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمدِ»، ومثلهما افتتاحيتا عمرو بن كلثوم «ألا هبي بصحنك فاصبحينا»، وعنترة بن شداد «هل غادر الشعراء من متردمِ». وما تجب ملاحظته هنا لا ينحصر فقط بالنبرة الرثائية الحزينة التي تسم تلك المقدمات، بل بتحول الشعر برمته إلى سؤال وجودي ملح حول ماهيات الحياة والموت والحب وانزلاق الأماكن والأزمنة، فضلاً عن تميز عنترة بطرحه في المطلع لإشكالية التجاوز والتكرار في عملية الإبداع الشعري، وهو السؤال نفسه الذي أعاد بورخيس صياغته بعد قرون عدة، حين اعتبر أن لا جديد يُذكر تحت شمس الكتابة، وأن كل نص يكتبه المتأخرون قد تمت كتابته من قبل، بشكل أو بآخر.
ورغم تبدل الظروف وطرائق العيش في العصرين الأموي والعباسي، حيث الشعراء بمعظمهم باتوا ملتحقين بالبلاطات الرسمية المختلفة، أو منخرطين في الحياة المدينية الجديدة التي فرضت على الشعر موضوعات وأساليب مغايرة لأساليب الأقدمين، فإن مطالع القصائد لم تفقد دورها التقليدي وجاذبيتها السابقة، لا بل اكتسبت بفعل تطور الأدوات والمفاهيم، المزيد من التوهج والزخم والدلالة. وهو ما يمكن الاستدلال عليه بمطالع عديدة لأبي نواس، من مثل «دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ»، أو «لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هندِ»، أو «ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ». ولن يكون أبو تمام بدوره بعيداً عن المطالع المماثلة التي تجمع بين قوة السبك وكثافة المعنى الحكَمي، من مثل «لا أنت أنت ولا الديارُ ديارُ»، أو «إذا جاريتَ في خُلقٍ دنيئاً\ فأنت ومن تجاريه سواءُ»، فضلاً عن استهلاله الشهير في فتح عمورية. وإذا كان الأمر ينسحب على معظم الشعراء العباسيين كالبحتري وابن الرومي والمعري والشريف الرضي، فإن المتنبي كان أكثر الشعراء العرب اشتغالاً على مفتتحات قصائده التي بدت أشبه بمدخرات معرفية ثمينة مستخلصة من تجارب الشاعر القاسية، ومن تأملاته العميقة في أحوال النفس ومعنى الوجود الإنساني، وهو ما أتاح لها أن تنحفر كالأوشام في ذاكرة العرب الجمعية. وإذا لم يكن بالمستطاع تعداد هذه المطالع، فيمكننا الإشارة إلى بعضها على الأقل، من مثل «لكِ يا منازل في القلوب منازلُ»، أو «كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا»، أو «أطاعن خيلاً من فوارسها الدهرُ»، أو «على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ»، أو «لكل امرئ من دهره ما تعودا»، وكثير غيرها.
ولم يكن الأمر ليختلف كثيراً في العصور المتأخرة، حيث كان عدد غير قليل من الكلاسيكيين الجدد يعمل على إحياء التقاليد الفنية العريقة للقصيدة الخليلية، ويحاول ما أمكن أن يعيد إلى تلك القصيدة بعض وهجها القديم، قبل أن تدفع رياح الحداثة العاتية بذلك الوهج إلى الخفوت النسبي. لا بل إن التعويل على مفتتحات القصائد العمودية قد تضاعفت وتيرته في القرن المنصرم، حيث عملت التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، ومعها الحركات القومية والاستقلالية، إلى إحياء الدور القديم للشعر، وإيلائه بالتالي مهمة التحريض والتحشيد الدعائي. وهو ما سنجد تمثلاته الأبرز عند البارودي وشوقي والزهاوي والرصافي وبدوي الجبل وسليمان العيسى، كما عند الجواهري الذي بدت بعض مطالعه أقرب إلى المشهديات الملحمية منها إلى أي شيء آخر، كقوله في قصيدة عن تونس:
رِدي يا خيول الله منهلكِ العذبا
ويا شرقُ عدْ للغرب واقتحم الغربا
ويا شرق هل سر الطواغيت أنها
فُويقك أشلاءٌ مبعثرة إرْبا
كذلك سينعكس هذا النفس الملحمي عند الأخطل الصغير، وبخاصة في رثائيته الشهيرة لأحمد شوقي، التي يستهلها بالقول:
قف في ربى الخلْد واهتفْ باسم شاعرهِ
فسدرة المنتهى أدنى منابرهِ
وامسحْ جبينك بالركن الذي انبلجتْ أشعة الوحي شعراً من منائرهِ
إلهة الشعر قامت عن ميامنهِ وربة النثر قامت عن مياسرهِ
كما أن الحديث عن المطالع اللافتة لشعراء الأوزان الخليلية المعاصرين، لا يستقيم بأي وجه دون التطرق إلى تجربة سعيد عقل، بصفته أحد أمهر المشتغلين على الهندسة الجمالية للشعرية العربية. ومن البديهي في هذه الحالة أن يحول صاحب «كما الأعمدة» مطالع قصائده إلى ما يشبه الاحتفاء الكرنفالي بلغة الضاد، الذي يجمع بين الأنا المتعالية والبلاغة المْحكمة والجرس الإيقاعي التطريبي. وهو ما نلحظه في العديد من المطالع، من بينها قصيدته التكريمية للكاتب الروسي شولوخوف، التي يستهلها بالقول:
ولدتُ سريري ضفة النهر، فالنهرُ
تآخى وعمري مثلما الوردُ والشهرُ
وكان أبي كالموج يهدرُ، مرة
يدحرِجُ من صخرٍ، وآناً هو الصخرُ
وقد علماني الحق، ما الحق؟ دُفْعة كما السيلُ عنه انشق واخضوْضر القفرُ
سيكون من الطبيعي في هذه الحالة أن يتحدث بعض المتعصبين للتقاليد الشعرية الموروثة، وفي معرض انتقادهم اللاذع لمغامرة الحداثة الشعرية، عن افتقار هذه الأخيرة إلى ذلك الرنين الافتتاحي الباذخ للمطالع الشعرية الكلاسيكية. وإذا كانت هذه الملاحظة غير بعيدة عن الصحة، فليس لأن الحداثة لا تولي مطالعها ومفتتحاتها أي عناية تذكر، بل لأن مفاهيم الكتابة الشعرية نفسها قد تبدلت، بحيث بات يُنظر إلى القصيدة كبنية تعبيرية وجمالية متكاملة، لا كوحدات وأجزاء لا تجمعها سوى وحدة الوزن والقافية، كما كان الحال في معظم القصائد الخليلية. هكذا لم يعد المطلع يختزل القصيدة أو يشكل عنواناً لها. كما أن ضرب مفهوم البيت التقليدي لم يعد يسمح للسطر الأول بأن يشكل وحدة مستقلة عما يليه من السطور، بل بات متصلاً بغيره اتصالاً وثيقاً، وفق مقتضيات المعنى والدلالة والسياق النصي. ومع ذلك فإن من العسف ومجانبة الحقيقة أن نتحدث عن أفول المطالع وضمورها التام في الشعر العربي الحديث، بخاصة في جانبه المتعلق بقصيدة الشعر الحر. ذلك أن حفاظ هذه القصيدة على البنية الإيقاعية الأساسية للشعر العربي، مع هامش واسع من المناورة والتنوع، أتاح لبعض مطالعها غير الخاضعة للتدوير، أن ترسخ في أذهان القراء وتتحول كالمطالع القديمة إلى ما يشبه الأيقونات الجمالية، أو الأمثال السائرة. وهو ما ينطبق على العديد من مفتتحات القصائد الحديثة، مثل «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب التي يندر أن تغيب عن بال أحد من قراء الشعر ومحبيه، ومطلعها:
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السحَرْ
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حين تبسمان تورقُ الكرومْ
وترقص الأضواءُ، كالأقمار في نهَرْ
أما في قصيدة النثر فقد كاد هذا النوع من المطالع يتراجع بشكل مطرد إلى حد الضمور التام. فإذا كانت البنية الفنية والإيقاعية لبعض قصائد الشعر الحر، تتقاطع إلى هذا الحد أو ذاك مع الأنساق المتوارثة للشعرية العربية، مفسحة في المجال لنوعٍ من المطالع الاستهلالية قابلٍ للرسوخ في ذاكرة القارئ، من مثل «سجل أنا عربي» لمحمود درويش، و«لا تصالح ولو منحوك الذهب» لأمل دنقل، فإن الأمر يختلف تماماً مع قصيدة النثر، التي تنهض فوق أرض مغايرة على مستوى الترابط والتكثيف وخفوت الصوت والانكباب على المنسيات. ولعل أطرف المواقف وأكثرها حراجة بالنسبة لشعراء الحداثة، هو ما يحدث حين ينبري أحدهم، للطلب منه عن براءة أو خبث، أن يسمعه مطلع إحدى القصائد التي فرغ للتو من كتابتها. إذ كيف للشاعر أن يتخلص من ورطته تلك، وهو يعلم أن لا مجال للفصل بين أجزاء قصيدته، بل هناك نص متسق وغير قابل للتجزئة. وقد يكون الوضع أكثر صعوبة بالنسبة له، إذا كانت قصيدته مؤلفة من سطر واحد، هو ذاته المطلع والمتن والخاتمة!



الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)
مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)
TT

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)
مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

في نهاية ربيع الأول من عام 1341 للهجرة، كتب الملك عبد العزيز رسالة جاء فيها «إلى حضرة الوطني الغيور والمصلح الكبير أمين أفندي الريحاني المحترم، دامت أفضاله، آمين. سلاماً وشوقاً وبعد، فبأشرف طالع وردني كتابكم الكريم المنبئ بوصولكم إلى البحرين، وإنكم مزمعون التوجه إلى طرفنا. أهلاً وسهلاً على الرحب والسعة. بالله لقد سررت جدّاً بذلك؛ فطالما كنت مشتاقاً للقياكم، وقد حققت الأيام شوقي والحمد لله».

وردت هذه الرسالة التي تعكس الرابط الوثيق بين الملك المؤسس عبد العزيز مع الأديب والمثقف اللبناني أمين الريحاني، في مطبوع وزعته دارة الملك عبد العزيز خلال الحفل الذي أقيم (الأربعاء) في مدينة الرياض، بمناسبة مرور مائة عام على صدور كتابه «ملوك العرب»، الذي أودع فيه الريحاني خلاصة رحلته إلى الجزيرة العربية بين عامي 1922 و1924، وقدّمها في عمل استثنائي وثّق معالم الجزيرة العربية وشخصياتها.

شارك في الندوة نخبة من الأكاديميين والمفكرين من مختلف التخصصات، لمناقشة الأبعاد المتعددة التي تضمنها كتاب «ملوك العرب».

واستعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات، وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها، من خلال استعراض تجربة المفكر الريحاني التي عكست وعي الملك عبد العزيز المبكر بأهمية كتابة التاريخ، وتوفير كل الوسائل المتاحة لتمكين المؤرخ من عمله.

الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن (الشرق الأوسط)

محطة لتأمل العلاقة بين الريحاني والجزيرة العربية

قال الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين رئيس مجلس إدارة الدارة، إن الاحتفاء بالكتاب هو بمثابة محطة لتأمل العلاقة الفريدة التي جمعت بين هذا المفكر الكبير والجزيرة العربية، مضيفاً أن الريحاني جاء مشحوناً بتصورات ضبابية، ومخاوف زُرعت في أذهان الكثيرين ممن لم تتسن لهم فرصة التعرف على جزيرة العرب من قرب.

وأشار الأمير فيصل، في كلمته خلال افتتاح الندوة، إلى أن «الجزيرة العربية كانت تتوجس من الآخر، وتنظر له نظرة شك، إلا أن الملك عبد العزيز بحكمته، تبنّى نهجاً منفتحاً ومرحباً بالجميع، إيماناً منه بأن معايشة القيم الإسلامية والعربية الأصيلة من شأنها تغيير المفاهيم وكسر الحواجز وعبور المسافات».

وأبان أن الريحاني «لم ينبهر بشخصية الملك عبد العزيز، حين أُسر بحنكته ورحابة صدره فحسب، بل سحرته أرض الجزيرة العربية، وأحب جبالها الشامخة ووديانها الغنية وصحراءها الفسيحة»، مضيفاً: «من أهم ما لفت نظر الريحاني هو اهتمام الملك عبد العزيز بالتاريخ والصحافة وتجارب الأمم الأخرى».

وتابع الأمير فيصل: «كما لم تفت الريحاني الإشارة إلى تفاصيل متعددة تعكس النهم لدى الملك المؤسس حول السياسات العالمية والدول الكبرى والفوارق بينها، وإدراكه كيف يسخر ذلك لمصلحة بلاده الفتية وللأمة العربية والإسلامية».

‏⁧وواصل: «من تجربة شخصية في الواقع، لا أكاد أعرف شخصاً كان عنده تصورات سلبية مسبقة عن هذه الدولة إلا وتشكلت عنده نظرة إيجابية بعد زيارتها والتعرُّف على شعبها الكريم».

من جهته، شارك الأكاديمي والباحث الدكتور أمين ألبرت الريحاني، رئيس مؤسسة الريحاني وابن شقيق المحتفى به، بكلمة مصورة، حكى فيها عن مسيرة الراحل البحثية، والأثر الذي تركته مؤلفاته على المستويين العربي والدولي.

الأمير فيصل بن سلمان خلال كلمته في افتتاح الندوة (دارة الملك عبد العزيز)

وقال أمين ألبرت إن الريحاني فوجئ عندما خاطبه الملك عبد العزيز بقوله: «لك الحرية يا أستاذ أن تتكلم معي بكل حرية، ولا أقبل منك غير ذلك، وأنا أتكلم معك بكل حرية، ولا تتوقع مني غير ذلك».

وأضاف: «القارئ يستوقفه ما كتبه الريحاني في مذكراته من اليوم الأول واللقاء الأول مع الملك عبد العزيز، حيث قال: لقد قابلت أمراء العرب كلهم، فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل، لست مجازفاً أو مبالغاً فيما أقول، فهو حقاً كبير، في مصافحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظراته».

واستشهد ألبرت بآراء عدد من كبار المفكرين العرب والغربيين الذين أشادوا بكتاب «ملوك العرب» الذي نقل قصة الشرق إلى الغرب، وذلك بلغة علمية دقيقة وراقية، وكان كتابه إضافة أدبية في أدب السياسة، وفي أدب الرحلات الصحراوية.

ثم انطلقت الجلسات العلمية للندوة التي تناولت جوانب أدبية وتاريخية عن الكتاب والمؤلف، وشارك في الندوة نخبة من الأكاديميين والمفكرين من مختلف التخصصات، لمناقشة الأبعاد العميقة والمتعددة التي تضمنها كتاب «ملوك العرب».

واستعرضت الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات، حيث كتب في مجالات الأدب، والفلسفة، والسياسة، والاجتماع، وأدب الرحلات، وهو ما أكسبه مكانةً خاصةً، وجعل رؤاه تتجاوز الزمان والمكان.

من ندوة الاحتفاء بمئوية كتاب ملوك العرب (دارة الملك عبد العزيز)

وقال الدكتور عبد اللطيف الحميد، الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، إن أبناء الملك عبد العزيز ورثوا مكانة الريحاني لدى والدهم المؤسس، ومن ذلك اهتمام الملك سلمان بمؤرخي التاريخ السعودي، وفي مقدمتهم أمين الريحاني.

وأضاف الحميد في ورقته «السعودية كما رآها الريحاني» أن «السعودية أعادت طباعة كتابة ملوك العرب، في طبعته الخامسة قبل خمسة وأربعين عاماً، في استمرار للاهتمام بإرث الريحاني قبل أن تحين لحظة الاحتفاء السعودي العربي المئوي المهيبة هذه، بأمين الريحاني وبمؤلفه الرصين».

من جهتها، قالت الدكتورة زهيدة درويش أستاذة الأدب الفرنسي بالجامعة اللبنانية، إن المناسبة تجديد للجسور بين السعودية ولبنان، وإن الطريقة التي وصف بها الريحاني لقاءه بالملك عبد العزيز تعكس هذه العلاقة الممتدة منذ أكثر من مائة عام.

وأضافت درويش: «هذا الاحتفاء يأتي في لحظة مهمة للسعودية، التي تشهد تحولاً كبيراً في كل المجالات، والتنوع الثقافي والجغرافي لديها وما تتميز به من ازدهار ورخاء، يعكسان اعتزاز المجتمع السعودي بهويته».

وتابعت: «استوقفتني في الكتاب مقدمته، وما ورد فيه عن إشكالية الهوية والعلاقة بالآخر، وأزعم أن سؤال الهوية هذا، شكّل أحد الدوافع الرئيسية لزيارة أمين الريحاني إلى شبه الجزيرة العربية، التي وفرت له مادة غنية بوضع هذا المؤلف المرجع».

وواصلت: «يبوح لنا الريحاني، بأن وعيه تكوّن وهو طفل على صورة مغلوطة للعربي، تكشف عن أحكام نمطية وصور مسبقة طالما أطبقت على وعينا الثقافي، إلا لدى من حثّه فضوله المعرفي، إلى طرح السؤال، وبدء مغامرة البحث عن حقيقة يتبناها بقناعة».

واستعرض فيلم قصير جزءاً من سيرة أمين الريحاني، والكتاب الذي عدّ أحد أبرز الأعمال الأدبية التي وثّقت الحياة في المنطقة العربية وتاريخها في مطلع القرن العشرين، لتسليط الضوء على أثر هذا الكتاب المميز في توثيق الثقافة العربية ورؤى الريحاني في مستقبل المجتمعات العربية، من خلال استعراض محاور ثقافية وفكرية متنوعة.

وسعت «دارة الملك عبد العزيز» من خلال هذه الندوة إلى إحياء التراث الثقافي العربي، وتعزيز الوعي بأهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.