نوال نصر الله باحثة عراقية تُبحر في طعام الأولين

في حضرة أطباق «الرافدين» أتمنى لو أني بمعدتين

TT

نوال نصر الله باحثة عراقية تُبحر في طعام الأولين

كل لقمة طيبة أكلَتها نوال نصر الله التي تألقت في ترجمة وتحقيق كتب الطعام في العصور الوسطى، في طفولتها من مطبخ والدتها لا يمكن أن تنساها، ليشبه حالها في افتقادها لزمن جميل، ذلك الفتى المسافر المشتاق لأمه؛ الذي ورد ذكره في أحد النصوص البابلية؛ هذا النص كلما قرأته نوال ذرف قلبها دمعة ملتاعة.
بصعوبة؛ كانت تلهي نفسها باللعب والدراسة إلى حين الانتهاء من تحضير المائدة، مع أنها لم تكن أكولة؛ تكتفي بتناول «الموجود» طالما أنه مطهي بحب وذوق وعناية؛ ورائحته لطيفة ومذاقه جيد.
تقول نصر الله: «كثيراً ما وقفتُ مشدوهةً أمام الطعام وأجوائه في ذلك الوقت، كنا نفترش الأرض، فيما الوسائد تتوزع في الأرجاء بدلاً من الجلوس إلى طاولة، ما زلت أتذكر برودة البلاط في عزّ الصيف والعائلة تلتفّ بمرح وودّ مستمتعين بأطايب الطعام».
لخبزٍ طازج خرج لتوّه من التنور تحنّ؛ ولوعاء هريسة يتكون من عصيدة قمح مغطاة بالسمن الساخن والسكر والقرفة، فيما تذوب شوقاً لرائحة الأرز وهي تفوح من منازل الحي؛ حتى إن العراقيين سمّوه بالعنبر؛ وإلى الآن تشتهي شطيرةً بمخلل «العنبة» الحار، يُحضّر من فاكهة المانجو، فمن حبها لطعمها لم تكن لتأبه بتحذيرات أمها من تناولها، وسيظل شريط الذاكرة محتفظاً بفرحتها كلما اشترت «العنبة» من الباعة لتلتهمها برفقة صويحباتها في طريق العودة من المدرسة.
- سقطات لا يجوز الوقوع فيها
لم تطبخ عائلتها أطعمة باهظة الثمن، إلا أنها كانت أصنافاً تستغرق ساعات لتحضير وصفات المحاشي.
بضحكة مفعمة بعذوبة الحب؛ تحكي لـ«الشرق الأوسط» عن تلك الأيام: «هل سمعتِ عن أحد تمنى لو أن له معدتين! أنا تمنيت ذلك في كل مرة رأيت قِدر الدولمة المحشوة (شاملةً مختلف أنواع الخضراوات النضرة) يُسكب؛ لحظة الحقيقة تتجلى عندما ينبعث البخار وتتدفق النكهات الشهية في كل الجهات».
نوال؛ درّست الأدب الإنجليزي في جامعتي بغداد والموصل؛ وحاز كتابها «لذائذ من جنة عدن» المنشور عام 2003 على شهرة عالية؛ إذ صنّف أنه أفضل كتاب طبخ عربي في المملكة المتحدة؛ حيث روت فيه بعفوية الحكايات الفلكلورية المرتبطة ببعض الوصفات، ما كان دافعاً قوياً لتكرّس حياتها فيما بعد لترجمة كتب الطهي القروسطية، نسبة إلى القرون الوسطى، من العربية إلى الإنجليزية.
وبإلقاء نظرة على كتاب «كنز الفوائد في تنويع الموائد» الذي يحكي عن ثقافة الغذاء في المجتمع المصري ما قبل الحداثة، فمن الواضح أن الشهادات التي قيلت في جهد «مترجمته» لم تكن من قبيل المجاملة، وهذه إحداها: «إن إعداد الكتاب تم بخبرة لغوية وسياقية هائلة؛ ليتجاوز مجرد وثيقة تاريخية لا تقدر بثمن».
تخبرني حول سر التوجه إلى هذا الحقل: «نشأت في بيئة لا تعير الحديث عن الطعام اهتماماً، لكن بعد مجيئي إلى الولايات المتحدة عام 1990 بدأت أصبح قارئة نهمة لكتب ومجلات الطهي، وكأستاذة جامعية في الأدب الإنجليزي كان دائماً يشدني الجزء البحثي، فقررت أن أكتب عن الطعام العراقي لألقي الضوء على الوجه الإنساني لبلادي في وقت كانت تشهد فيه تحولات سياسية كبرى».
البحث في الطعام قد لا يأخذه البعض على محمل الجد كسائر الأجناس العلمية المتعارف عليها، إلا أن نوال تؤكد أن البحوث المتعلقة بالغذاء يشوبها التعقيد كأي مجال بحثي آخر يستحق الاستكشاف؛ ولا سيما حين تضع مجهرها على العادات الغذائية للناس وطرق استخدام الموارد المتاحة لهم؛ والكلام لها.
وبحسب تجربتها؛ فإن التعامل مع المصادر العربية في العصور الوسطى التي تعود إلى 10 قرون؛ يستدعي كثيراً من التقصي لمعرفة معاني بعض المصطلحات وأسماء الأعشاب والنباتات التي لم تعد متداولة في المنطقة أو ما زال الناس يستخدمونها لكن بأسماء جديدة.
استرعى انتباهها أثناء محاولتها العثور على مصادر ومراجع؛ مصادفتها بعض النصوص التي ظلمها الأداء السيئ، فصار لزاماً تنقيحها وتصحيحها، ويظهر امتعاضها في قولها: «أغضب عندما أطالع ترجمة غير كفؤة لكتب قيّمة، وعلى إثرها يتعرض المعنى الذي أراده الكاتب الأصلي للارتباك؛ ثم يلقي عامة الناس باللوم عليه، هذا ليس منصفاً؛ علينا أن نتذكر أن هذه النصوص القادمة من قرون خلت قد نُسخت مراراً وتكراراً، في بعض الأحيان مرّت على (كتبة) لم يكونوا على دراية بلغة الطباخّين قبل مئات الأعوام، فأحدثوا كثيراً من اللبس، لذا أبذل جهدي لجعل النص منطقياً وسليماً ليوافق ما قصده المؤلف».
لقد استحق الأمر أن تنبّه المتخصصون بشأن المرادفات والمسميات، كونها تتغير، ودلالاتها تتطور عبر العصور، ما يتطلب تفرّغاً وأدوات ثقافية ولغوية احترافية، وقدرة على البحث الشامل ومسؤولية علمية حيال النصوص؛ «ولا يمكن القيام بذلك إلا بصبر وحبّ». تبعاً لها.
- عن غابر الزمان
تتبعّت تاريخ نشوء وتطور الوصفات العراقية على مدار قرون، بدءاً من الحضارات السومرية والبابلية، ومروراً بالعصر العباسي والعصور الوسطى، حتى الوقت الحاضر، وفي ذلك تُقدم إسهاباً مليئاً بالمعلومات الغنية لـ«الشرق الأوسط».
ففي بلاد ما بين النهرين كانت الوصفات البابلية التي تعود إلى 1700 عام قبل الميلاد تشهد تنوعاً هائلاً؛ وكان المرق طعامهم الرئيسي؛ حيث تُغلي المكونات من لحم وخضار وأعشاب مع مرقٍ غني بدهن الغنم، ويُثخّن بفتات الخبز بما يشبه «الكشك»؛ وكان البابليون يتفنّنون في تحضير فطائر اللحم، عبر طهي لحوم الطيور في صلصة غنية بالحليب لترصّ داخل العجين.
وتضيف أن خبز التنور كان أساسياً لديهم؛ وهو «الفرن الطيني المقبّب» الذي أطلق عليه السومريون هذا الاسم، ومن ثم انتقل لاحقاً إلى العرب، وبعدها جاء التنور التركي والهندي؛ كما أن الأجداد في سالف الزمان هم من أطلقوا اسم «كباب» وقصدوا به الشواء، أما في العصور الوسطى فكان الناس مُولعين بكرات اللحم التي تحمل اسم «بنادق اللحم»، وقد تناقلتها الأجيال عن طريق سفر العرب إلى أصقاع الأرض.
ومن جهة أخرى، ازدهر المطبخ في العصر العباسي، وورثنا عنه كتابي طهي لكاتبين من بغداد، أحدهما في القرن العاشر لابن سيّار الوراق، والآخر لابن الكريم في القرن الثالث عشر، تفاصيل تواصل سردها: «ذلك العصر اشتهر أيضاً بأطباق المرق المقدمة مع الثريد (الخبز)، وبمجموعة رائعة من (النواشف)، وبعددٍ مذهل من أطباق الحلويات التي أخذناها عنه، مثل الزلابية والقطايف والحلوى المحضّرة من النشا، وتعرف بـ(الخبيص)».
تتطرق إلى العوامل التي غيّرت من طريقة الطهي في المنطقة العربية، ولا سيما العراق؛ بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر؛ ومن أبرزها ظهور محاصيل جديدة مثل الطماطم والبطاطس والفلفل الحار؛ فالحساء - والكلام لها - ما زال طبقاً رئيساً لدينا كما في العصور القديمة، إلا أننا أصبحنا نطهوه مع الطماطم أو الأرز بفضل تقدم التكنولوجيا في زراعة الحبوب.
سألناها عما يتميز به المطبخ العراقي عن باقي مطابخ الشرق الأوسط، وكان جوابها أن العراق يتقاسم كثيراً من الخصائص مع سائر دول المشرق؛ فإن كان المطبخ العربي يميل إلى الوصفات القائمة على الحشوات، مثل كبة البرغل والكوسا المحشية؛ فالمطبخ العراقي يحفل بأطباق فاتنة على هذا الغرار؛ وتقصد بذلك الدولمة العراقية التي لا تقتصر على نوع خضرة واحد، وكذلك الحال بالنسبة لعجينة البرغل المحشوة، والتي تُعرف بـ«كُبة الموصل»؛ وتأخذ عادةً شكل أقراص كبيرة مُسطّحة ورقيقة؛ وإذا نظرنا إلى امتداد ضفاف نهر دجلة فإن شهرة «السمك المسكوف» يُحكى بها؛ «هذا السمك لن تجديه في أي مكان آخر في العالم».


مقالات ذات صلة

أليساندرو بيرغامو... شيف خاص بمواصفات عالمية

مذاقات الشيف أليساندرو بيرغامو (الشرق الاوسط)

أليساندرو بيرغامو... شيف خاص بمواصفات عالمية

بعد دخولي مطابخ مطاعم عالمية كثيرة، ومقابلة الطهاة من شتى أصقاع الأرض، يمكنني أن أضم مهنة الطهي إلى لائحة مهن المتاعب والأشغال التي تتطلب جهداً جهيداً

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات كعكة شاي إيرل جراي مع العسل المنقوع بالقرفة والفانيليامن شيف ميدو (الشرق الأوسط)

الشاي... من الفنجان إلى الطبق

يمكن للشاي أن يضيف نكهةً مثيرةً للاهتمام، ويعزز مضادات الأكسدة في أطباق الطعام، وقد لا يعرف كثيرٌ أننا نستطيع استخدام هذه النبتة في الطهي والخبز

نادية عبد الحليم (القاهرة)
مذاقات الشيف الفرنسي بيير هيرميه (الشرق الأوسط)

بيير هيرميه لـ«الشرق الأوسط»: العرب يتمتعون بالروح الكريمة للضيافة

بيير هيرميه، حائز لقب «أفضل طاهي حلويات في العالم» عام 2016، ويمتلك خبرةً احترافيةً جعلت منه فناناً مبدعاً في إعداد «الماكارون» الفرنسيّة.

جوسلين إيليا (لندن )
مذاقات الشيف العالمي أكيرا باك (الشرق الأوسط)

الشيف أكيرا باك يفتتح مطعمه الجديد في حي السفارات بالرياض

أعلن الشيف العالمي أكيرا باك، اكتمال كل استعدادات افتتاح مطعمه الذي يحمل اسمه في قلب حي السفارات بالرياض، يوم 7 أكتوبر الحالي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
مذاقات الشعيرية تدخل في أطباق حلوة ومالحة (الشرق الأوسط)

حكاية أقدم صانع شعيرية كردي في شمال سوريا

من بين حبال رقائق الشعيرية الطازجة ولونها الذهبي ورائحتها الطيبة، يقف الصناعي الكردي عبد الناصر قاسم برفقة زوجته، بوصفه أحد أقدم الحرفيين في صناعة الشعيرية…

كمال شيخو (القامشلي)

مطعم «تيرا نيرا» في باريس... جاذب عشاق الأكل الإيطالي والسياح

مشهد من مسلسل «إيميلي في باريس» خارج المطعم (إنستغرام)
مشهد من مسلسل «إيميلي في باريس» خارج المطعم (إنستغرام)
TT

مطعم «تيرا نيرا» في باريس... جاذب عشاق الأكل الإيطالي والسياح

مشهد من مسلسل «إيميلي في باريس» خارج المطعم (إنستغرام)
مشهد من مسلسل «إيميلي في باريس» خارج المطعم (إنستغرام)

الشيف غابريال في «إيميلي في باريس» (Emily in Paris) هو شخصية محورية في المسلسل، وهو شاب فرنسي وسيم يعمل شيفاً في مطعم في باريس. يُجسِّد دوره الممثل الفرنسي لوكاس برافو. غابريال هو جار إيميلي، ويسكن في نفس المبنى الذي تسكن فيه البطلة الأميركية، التي تنتقل من شيكاغو إلى باريس للعمل في شركة تسويق. تنشأ بينهما علاقة معقدة ومليئة بالتوتر العاطفي، حيث تنجذب إيميلي إلى الشيف غابريال، لكنه في نفس الوقت مرتبط بعلاقة حب مع كامي، وهي إحدى صديقات إيميلي.

إلى جانب جاذبيته الشخصية، غابريال موهوب جداً في الطهي، ويكرس وقته بالكامل لمهنته طاهياً وحلمه الحصول على نجمة ميشلان للتميز. في مواسم لاحقة من المسلسل، يلعب دورُه في إدارة المطعم والطموح لفتح مطعمه الخاص دوراً مهماً في تطور قصته. العلاقة بينه وبين إيميلي وكامي هي جزء أساسي من دراما الحب الثلاثي، التي تتكرر في سياق المسلسل.

الطاولة الشهيرة التي يجلس عليها الشيف غابريال (إنستغرام)

الشخصية تعكس الجوانب الرومانسية والمهنية للعالم الباريسي، حيث يتفاعل الشيف غابريال مع شغفه بالطهي وتحديات العلاقات العاطفية.

هذه هي باختصار قصة الشيف الوسيم الذي يعمل في مطعم «ليه دو كومبير» (Les Deux Compères)، وهو موقع حقيقي ومعروف في باريس، لكنه في الواقع لا يحمل هذا الاسم. المطعم الحقيقي يُدعى «Terra Nera»، وهو مطعم إيطالي يقع في الدائرة الخامسة في باريس بالقرب من البانثيون، تماماً كما في المسلسل.

ومن وراء شهرة «إيميلي في باريس» عالمياً أصبح «تيرا نيرا» وجهة شعبية للزوار والمعجبين بالمسلسل، بعد أن تم تصوير مشاهد كثيرة فيه. على الرغم من أن المسلسل يظهره مطعماً فرنسياً بإدارة غابريال، فإن المطعم الحقيقي يقدم أطباقاً إيطالية.

ويدور كثير من الأحداث والمشاهد في المسسل في هذا المطعم الذي يلعب دوراً محورياً، فهو ليس مكان عمل الشيف غابريال فقط، ولكنه نقطة التقاء شخصيات رئيسية كثيرة في القصة أيضاً.

يشتهر مطعم «تيرا نيرا» بأطباقه الإيطالية الأصلية، فهو صغير الحجم يقصده الذواقة الباحثون عن عنوان إيطالي في قلب العاصمة الفرنسية، كما يشتهر أيضاً بخدمته الجيدة. ويعمل فيه أعضاء من عائلة إيطالية واحدة. من أشهر أطباقه: أنتيباستي ميزون، واللينغويني ألي فونغولي، وساليتشي نابوليتانا، وتورتا ديلا نونا، أو «تورتة الجدة»، ولاكريما كريستي.

ميزة المطعم أنه يقدم مأكولات إيطالية تقليدية مع التركيز على الأطباق الكلاسيكية، مثل البيتزا والمعكرونة، بالإضافة إلى اللحوم والأسماك التي تحضر على الطريقة الإيطالية المتوسطية.

يشتهر «تيرا نيرا» بالأطباق الإيطالية بما فيها الأسماك (إنستغرام)

ومن الأسباب التي زادت من شهرة المطعم هو موقعه في منطقة سياحية، وقربه من معالم ثقافية كثيرة، مثل البانثيون وجامعة السوربون.

الديكور في المطعم بسيط وجميل بنفس الوقت، وأجواؤه دافئة جداً، يجذب كثيراً من الزوار بسبب المسلسل الذي تنتجه «نتفليكس»، ما زاد من شعبيته بين عشاق «إيميلي في باريس» والسياح عموماً، وخاصة عشاق الأكل الإيطالي.

وقبل ظهور المطعم في المسسل كان المطعم مقصد الذواقة الإيطاليين والفرنسيين الذين يعشقون الأكل الإيطالي.

مطعم «تيرا نيرا» الإيطالي في باريس (إنستغرام)

الطاهي الرئيسي في مطعم «Terra Nera» في باريس هو «Giovanni Lepori». يتميز «Lepori» بخبرته الواسعة في تقديم المأكولات الإيطالية الأصيلة، مع التركيز على إعداد الأطباق باستخدام مكونات طازجة وتقنيات تقليدية، تعكس روح المطبخ الإيطالي. ومن الضروري أن تقوم بالحجز المسبق نظراً لشعبيته المتزايدة، خصوصاً خلال المواسم السياحية على مدار العام.