تفاؤل في كوبا بفتح صفحة مع إدارة بايدن

بعد 4 سنوات من العقوبات والمتاعب مع ترمب... ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية و«ثورة التواصل الاجتماعي»

تفاؤل في كوبا بفتح صفحة مع إدارة بايدن
TT

تفاؤل في كوبا بفتح صفحة مع إدارة بايدن

تفاؤل في كوبا بفتح صفحة مع إدارة بايدن

منذ دخول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب البيت الأبيض في مثل هذه الأيام من العام 2017 حتى الساعات الأخيرة من ولايته، التي انتهت يوم 20 يناير (كانون الثاني) الحالي على وقع أحداث غير مسبوقة في التاريخ الأميركي، لم يتوقّف عن فتح الجبهات الخارجية والداخلية على مصاريعها. وكان تصميم ترمب الذي لا يلين منصباً، في كل خطوة، على تفكيك ما فعله سلفه باراك أوباما طوال 8 سنوات من حكمه، والحرص كل الحرص على الإبحار دائماً عكس التيار الذي سار فيه سلفه. أما آخر هذه آخر الخطوات التي اتخذها ترمب فكانت إدراج كوبا على قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، بعد أيام من إعلانه تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وتضييق الحصار الدبلوماسي الذي كانت إدارة أوباما قد بدأت برفعه عن الدولة - الجزيرة.

كوبا كانت تترقّب بفارغ الصبر تنصيب الرئيس الأميركي الجديد جون بايدن، الذي وعد باستئناف العلاقات الدبلوماسية التي قطعها سلفه دونالد ترمب مع سلطات هافانا. كذلك، كانت تأخذ على محمل الجِدّ قرار إدراجها على لائحة الدول الراعية للإرهاب رغم وصفها إيّاه بأنه «خطوة يائسة من حكومة مفلسة أخلاقياً»، كما جاء في بيان صادر عن وزارة الخارجية، اعتبر القرار انتهازياً ومفتقراً للمسوّغات، «هدفه الحقيقي وضع عراقيل إضافية أمام احتمالات استعادة العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة الأميركية».
في الواقع، كانت كوبا قد ردّت على قرار ترمب بتصريح غير مألوف صدر عن رئيس الجمهورية ميغيل دياز كانيل، جاء فيه قوله: «الحقيقة التي يعترف الجميع بها هي أن كوبا ليست دولة راعية للإرهاب. فالسياسة الرسمية المعروفة التي ينهجها بلدنا في كل المحافل هي رفض الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره، وخاصة إرهاب الدولة». وأضاف أن قائمة الدول الراعية للإرهاب – التي كان الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان أول من أدرج كوبا فيها خلال عام 1982، ثم حذفها منها باراك أوباما عام 2015 – «ليست سوى أداة لفرض عقوبات اقتصادية تعسّفية على الدول التي ترفض الانصياع لنزوات الإمبريالية الأميركية». وللعلم، من شأن إدراج كوبا على هذه القائمة أن تنجم عنه عقوبات، تشمل وقف المساعدات الخارجية الأميركية إلى الجزيرة، وحظر الصادرات إليها، وفرض عقوبات مالية على الشركات التي تتعامل معه. إلا أنه بعدما كانت الإدارة الأميركية على عهد ترمب قد لجأت إلى تشديد العقوبات والقيود المالية بشكل غير مسبوق على الجزيرة - خاصة في إطار الصدام مع نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الذي يعتمد بشكل حيوي على الدعم العسكري والاستخباراتي من كوبا – أعلن الرئيس جو بايدن أخيراً أنه سيستأنف سياسة التقارب مع هافانا التي كان قد شارك في وضعها عندما كان نائباً للرئيس على عهد أوباما. ومن المنتظر أيضاً أن يرفع القيود ويلغي التدابير التي فرضتها إدارة ترمب، مثل تقييد تحويلات المهاجرين، ومنع الرحلات الجوية والبحرية المباشرة، وإغلاق القنصليات، وحظر سفر الأميركيين إلى الجزيرة.

- انتقاد ديمقراطي لترمب
من جهة ثانية، يرى مراقبون أن الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها ترمب تجاه كوبا إنما كانت تهدف إلى تحقيق مكاسب داخلية مثل إرضاء قطاع واسع من ناخبيه الذين يؤيدون كل خطواته لتفكيك ما أنجزه أوباما، وتعزيز قاعدته بين المتحدرين من أصل كوبي في ولاية فلوريدا. مع الإشارة، إلى أن القرارات التي اتخذتها الإدارة الجمهورية السابقة في أيامها العشرة الأخيرة ضد كوبا تزيد عن كل التي صدرت عنها في السنوات الأربع المنصرمة، ومن غير أن تخضع للإجراءات والتحريات المعهودة.
جو غارسيّا، الذي كان وزيراً للطاقة على عهد أوباما، وتولّى أخيراً تنظيم المساعدات الصحية التي أرسلت إلى كوبا لمواجهة جائحة «كوفيد 19»، اعتبر أن قرار ترمب إدراج كوبا على قائمة الدول الراعية للإرهاب هو «صرخة الغريق». وتابع: «لا علاقة لهذا القرار بكوبا، ولا بالإرهاب، ولا بالأمن القومي الأميركي. إنه ثمرة الحقد الدفين الذي يشعر به مَن خسر الانتخابات أمام بايدن، الذي وعد بأنه سيعيد النظر في كل القرارات التي اتخذتها الإدارة (الراحلة) في لحظات اليأس الأخيرة، في أعقاب فقدانها كل شرعيتها، وسعيها لإلحاق الضرر بالإدارة الجديدة».
ويرى غارسيّا أن الردّ المناسب من النظام الكوبي على خطوة ترمب، وعلى الذين يدعمونه في ميامي (حيث أحد أكبر نسب المهاجرين الكوبيين)، هو الاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية وتعميقها لمصلحة الشعب الكوبي. ويشدد الوزير الديمقراطي السابق على أن الإدارة الأميركية الجديدة التي تستند إلى غالبيتين ديمقراطيتين في مجلسي الشيوخ والنواب «ستعيد النظر في كل هذه القرارات، وستضع العلاقات مع كوبا في خدمة المصالح القومية الأميركية على طريق التطبيع». ولا يستبعد غارسيّا، المرشّح ليلعب دوراً أساسياً في رسم إطار علاقات إدارة بايدن مع دول أميركا اللاتينية، أن تبادر هذه الإدارة إلى إلغاء الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا، والذي تطالب الأسرة الدولية بإنهائه منذ العام 1992.

- مصاعب... وسنة مفصلية
لكن، في الجزيرة العائمة بتحدٍّ وإباء منذ 6 عقود على مرمى حجر من الساحل الأميركي، لا تقتصر الشواغل والمتاعب على نزوات الرئيس الخارج من البيت الأبيض. ومع بداية كل عام منذ 1959، عندما نزل فيديل كاسترو ظافراً من «سييرا مايسترا» ودخل العاصمة هافانا مع رفاقه الثوريين، يستقبل الكوبيون السنة الجديدة على قلق الرهانات والتساؤلات. إذ مضت 3 عقود على إعلان «المرحلة الخاصة»، وهو الاسم الذي أطلقه النظام على الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخطيرة التي نشأت عن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وأدت إلى تراجع إجمالي الناتج القومي بنسبة 35 في المائة خلال أقل من سنتين. وها هو العام 2021 يطلّ حاملاً وزراً ثقيلاً من الشحّ الناجم عن أزمة سيولة خانقة وانخفاض قياسي آخر في الناتج القومي بنسبة 11 في المائة في العام الماضي بسبب الجائحة التي قضت على قطاع السياحة الذي يشكّل المصدر الأساسي للعملة الصعبة في كوبا.
يضاف إلى ما سبق، تعثّر الإصلاحات الاقتصادية وصعوبة تطبيقها في مثل هذه المرحلة الحرجة التي ارتفعت فيها معدلات البطالة والفقر، بينما يواجه النظام تحديات غير مسبوقة ناجمة عن تعميم وسائل التواصل الاجتماعي. وهو ما فتح آفاقاً واسعة أمام الجدل السياسي والعقائدي.
السنة هذه مرشحة لتكون مفصلية أيضاً في كوبا، لأنها ستشهد في الربيع المقبل انعقاد المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الذي سيتنحّى فيه القيادي التاريخي راوول كاسترو (شقيق فيديل، مؤسس كوبا الحديثة) عن منصب الأمين العام. وكان راوول قد وعد بذلك في المؤتمر السابق عندما رشّح ميغيل دياز كانيل لمنصب رئيس الجمهورية، واقترح ولايتين كحد أقصى في القيادات السياسية العليا للبلاد. ويكتسي هذا المؤتمر الثامن أهمية خاصة، ليس فقط لأنه سيشهد انكفاء القيادات التاريخية للثورة بعد رحيل رمزها الأكبر فيديل كاسترو، وتولّي كانيل الأمانة العامة للحزب الشيوعي، بل لأنه سيحدد الخطوط الاستراتيجية العريضة للإصلاحات التي ينتظرها الكوبيون منذ عقود. وفي طليعتها؛ التعددية السياسية، وفتح الباب لنشاط القطاع الخاص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والاستثمارات الأجنبية، واللامركزية في رسم السياسات واتخاذ القرارات الاقتصادية، وإعطاء المؤسسات الرسمية هامشاً أوسع من الاستقلالية، وتعزيز الإدارات المحلية. وكان معظم هذه الإصلاحات قد أقرّ خلال المؤتمر السابع عام 2016. لكن تنفيذها أجّل مراراً، بما فيها الإصلاح النقدي الذي دخل حيّز التنفيذ مطلع هذا العام، وكان بمثابة «الهبوط الاضطراري» لكوبا على أرض الاقتصاد الحقيقي بعد عقود من سياسات الدعم في كل القطاعات.
كانت الحكومة الكوبية تدرك سلفاً أن خفض قيمة العملة الوطنية ستكون له تداعيات اجتماعية ومعيشية على صعيد ارتفاع الأسعار والتضخّم، والتراجع الكبير للقدرة الشرائية الضعيفة أصلاً للمواطنين. إلا أنها لم تكن تتوقع الكمّ الهائل من الانتقادات والاحتجاجات التي ضجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما سجّلت أسعار الخبز والمحروقات والمواصلات العامة وفواتير الكهرباء ارتفاعاً وصل إلى 500 في المائة، ما اضطرها إلى الإعلان عن إعادة النظر في التسعيرات التي كانت قد حدّدتها.
لقد أطلقت الحكومة على اليوم الأول من هذا الشهر مسمى «اليوم صفر» لكونه بداية الإصلاحات الموعودة منذ سنوات، والتي يعتبر خبراء الاقتصاد أنها السبيل الوحيد لمنع الانهيار التام والحيلولة دون إفلاس القطاع العام، الذي تدنّت معدلات إنتاجيته بصورة غير مسبوقة منذ بداية الثورة. غير أن عام 2021 يمكن اعتباره أيضاً «العام صفر» لأسباب أخرى مختلفة في مسار الثورة، التي ما زالت صامدة في وجه الرياح المعاكسة التي تبحر فيها منذ 6 عقود.

- عهد بايدن وانعكاساته
أما النبأ السار في العام الجديد بالنسبة للنظام الكوبي فهو وصول جون بايدن إلى البيت الأبيض. كيف لا، وهو الذي أعلن أنه سيستأنف سياسة التقارب مع الجزيرة، وسيرفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب خلال السنوات الأربع المنصرمة، والتي شدّدت الحصار الذي تفرضه واشنطن على كوبا، وزادت من الصعوبات المعيشية التي تعاني منها. وفي هذا السياق، من المنتظر أن تعوّض عودة النشاط إلى القطاع السياحي، وإنهاء القيود على الرحلات الجوية والبحرية المباشرة، وتحويلات المهاجرين، الآثار السلبية الناجمة عن جائحة «كوفيد 19». إلا أن بعض الخبراء يعتقدون أن أي إدارة أميركية، ديمقراطية كانت أو جمهورية، تشكّل دائماً تحدياً بالنسبة لكوبا... كما تبيّن مع سياسة الانفتاح التي انتهجها أوباما، وواجهت مقاومة كبيرة بين المتشددين في نظام هافانا.
أيضاً، من الأمور الأخرى التي تثير قلق النظام منذ فترة الاحتجاجات المتزايدة في الأوساط الشعبية - وخاصة بين المثقفين والفنانين - المطالبة بهامش أوسع من حرية التعبير. وتتوقف السلطات عند المظاهرة السلمية، التي شارك فيها مئات أمام وزارة الثقافة أواخر العام الماضي احتجاجاً على اعتقال أحد المطربين الشعبيين، وتداعى إليها المتظاهرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتحوّلت إلى مسيرة للمطالبة بمزيد من الحرية والتعددية السياسية والكفّ عن ملاحقة المنشقّين. وحقاً، قد وجد النظام نفسه ذلك اليوم أمام مشهد غير مألوف، ما أجبر وزير الثقافة على استقبال ممثلين عن المتظاهرين والاستماع إلى مطالبهم ووعدهم بمواصلة الحوار... في سابقة لم يشهدها النظام منذ بداية الثورة.
تلك المظاهرة أدت، فعلاً، إلى إشعال وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث هبّ مئات من الفنانين والأكاديميين والناشطين والمواطنين العاديين إلى الدفاع عن المتظاهرين ومطالبهم، فيما كانت السلطات والأوساط المؤيدة لها تعلن رفضها الحوار مع الذين أطلقت عليهم التسميات التقليدية مثل «أعداء الثورة» أو «المرتزقة الذين تموّلهم الإمبريالية». وأظهرت تلك الحادثة، وما عقبها من تطورات، أن الدولة اليوم في كوبا ما عادت تحتكر توجيه الرسائل للمواطنين وإرساء حقائق الأحداث التي تشهدها البلاد.

- «ثورة» التواصل الاجتماعي
من المراقبين الذين يتابعون عن كثب هذه التطورات الصحافي والكاتب إيغناسيو رامونيه، المدير السابق لصحيفة «الموند الدبلوماسي» وأحد كبار المتخصصين في الثورة الكوبية، التي وضع عدة مؤلفات عنها، أشهرها كتابه «100 ساعة مع فيديل». يقول رامونيه معلّقاً على هذه التطورات الأخيرة في كوبا: «إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم التعبير الفعلي عن ديمقراطية الإعلام التي أطلقتها الثورة الرقمية. يكفي هاتف ذكي لأي مواطن في أي بلد من العالم للتواصل مثل أي شبكة تلفزيون عالمية. إنها الثورة الجارفة التي على النظام الكوبي أن يتعايش معها».
والواقع أن ما شهدته كوبا من تطورات منذ مطلع هذا العام مع الإصلاح النقدي، وما نجمت عنه من تداعيات وردود فعل شعبية، بيّن أن قواعد اللعبة قد تغيّرت بشكل جذري. إذ اضطرت السلطات إلى العودة عن كثير من القرارات التي اتخذتها. وبعد 62 سنة على انتصار الثورة تقف كوبا على أبواب مرحلة جديدة تطوي فيها آخر صفحات الزعماء التاريخيين، وتبحر بين أنواء الإصلاحات الاقتصادية الصعبة ووسائل التواصل الاجتماعي المشتعلة بالاحتجاجات على الظروف المعيشية والقيود على الحريات. وهو ما يجعل من العام 2021 بلا شك موعداً مفصلياً في الصراع الذي تخشاه الثورة وتؤجله منذ عقود مع التطور.



هل تتوسّط الهند لإحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا؟

مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)
مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)
TT

هل تتوسّط الهند لإحلال السلام بين أوكرانيا وروسيا؟

مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)
مودي يصافح زيلينسكي إبان زيارته التاريخية لأوكرانيا (رويترز)

هل يسعى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للجلوس على طاولة المباحثات؟ بعد الزيارة التاريخية لرئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى أوكرانيا، التي تُعد الأولى على الإطلاق من جانب رئيس وزراء هندي بعد استقلال أوكرانيا عام 1991، من المرجح أن يسعى مودي بدأبٍ لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، خاصة أنه يجري النظر إليه بوصفه حليفاً وثيقاً لروسيا ورئيسها. تأتي هذه الدفعة الدبلوماسية في وقت حرِج تدخل معه الحرب بين روسيا وأوكرانيا سنتها الثالثة دون أدنى مؤشر على انحسار الحرب. وحقاً أسفرت هذه الحرب عن معاناة إنسانية وخسائر اقتصادية، في حين يشعر المجتمع الدولي بقلق متزايد إزاء تداعياتها العالمية.

جاءت زيارة رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، إلى العاصمة الأوكرانية كييف، بعد ستة أسابيع من زيارة له إلى روسيا التقى خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأثارت تلك الزيارة عاصفة انتقادات هائلة من حلفاء غربيين للهند، أشاروا فيها إلى أن نيودلهي تحاشت إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. ثم إنه لم يسبق أن خاض رئيس وزراء هندي رحلة بالقطار طوال 10 ساعات، برفقة وفد رفيع المستوى، لزيارة منطقة حرب.

الدبلوماسي الهندي السابق، فيفيك كاتجو، علّق على الأمر بقوله: «يُعدّ مودي واحداً من الزعماء الدوليين القلائل، الذين زاروا موسكو وكييف. وكان قد دعا باستمرار إلى اتخاذ مسار الدبلوماسية والحوار، لإنهاء حرب روسيا في أوكرانيا. وفي الواقع، أكد مودي لبوتين مباشرة، أثناء لقاءٍ جمعهما في أوزبكستان، خلال سبتمبر (أيلول) 2022، أن هذه ليست حقبة حرب. وجاء هذا الكلام بمثابة تعبير واضح، وإن كان غير مباشر، عن رفض مودي العمل العسكري الروسي».

وبالفعل، شدّد الزعيم الهندي، عبر مترجم: «نقول بصوت عالٍ وواضح: إننا ندعم احترام السيادة والسلامة الإقليمية». من جهته، نشر زيلينسكي، عبر قناته على «تلغرام»، مقطع فيديو عن لقائه بمودي، بينما ذكّر مودي بأنه أثناء زيارته لروسيا، الشهر الماضي، أخبر الرئيس الروسي بوتين بأنه «لا يمكن حل المشاكل في ساحة المعركة»، بل يجب علاجها، بدلاً عن ذلك، عبر «الحوار والدبلوماسية»، دون تأخير.

اتصال هاتفي بين مودي وبوتين

كان التساؤل الكبير، قبل زيارة رئيس الوزراء الهندي لأوكرانيا، ما إذا كانت هذه الزيارة محاولة لاحتواء الأضرار الجيوسياسية، على أثر ردود الفعل الغربية الغاضبة تجاه زيارته موسكو، الشهر الماضي، وما إذا كانت هذه رسالة إلى شركاء نيودلهي الغربيين بأن الهند ليست في صف بوتين.

لكن بعد زيارة أوكرانيا، رجّحت مصادر مطّلعة احتمال أن ينجح مودي في دفع الزعيمين المتحاربين، الروسي والأوكراني، للجلوس إلى طاولة التفاوض، وجهاً لوجه فيما يُعدّ أمراً حيوياً لإحلال السلام.

يُذكر أنه في الفترة السابقة، أجرى مودي اتصالاً هاتفياً بالرئيس الروسي، بعد يوم من مكالمته مع الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي عبّر فيها عن دعم الهند العودة المبكرة إلى مسار السلام والاستقرار.

من جهتها، أعلنت وزارة الخارجية الهندية أنه خلال المكالمة الهاتفية مع بوتين، أكد مودي أهمية الحوار والدبلوماسية، بالإضافة إلى «المشاركة الصادقة والعملية بين جميع الأطراف المعنية». ووفقاً لصحيفة الـ«موسكو تايمز»، أبلغ مودي بوتين بدعمه وضع نهاية سريعة للصراع الطاحن الدائر في أوكرانيا، بعد زيارته للأخيرة، الأسبوع الماضي. وأفادت الصحيفة بأن مودي سعى نحو تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على العلاقات الدافئة تاريخياً بين الهند وروسيا، وبين مساعي بناء شراكات أمنية أوثق مع الدول الغربية، بوصفها «حصناً» في مواجهة المُنافس الإقليمي للهند؛ أي الصين.

وقال مودي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إنه «تبادل وجهات النظر حول الصراع بين روسيا وأوكرانيا» مع بوتين، وتشارك معه في «رؤيته التي خرج بها من زيارته الأخيرة لأوكرانيا». وأفاد أيضاً بأنه «أكد التزام الهند الراسخ بدعم إقرار حل مبكر ودائم وسِلمي للصراع الدائر».

تجدر الإشارة هنا إلى أنه من المعروف وجود أواصر صداقة تربط بين مودي وبوتين. وتاريخياً، ارتبطت الهند بعلاقات طويلة الأمد مع الاتحاد السوفياتي أولاً، ثم الاتحاد الروسي. وتميزت صلات البلدين بمصالح دفاعية قوية، ودعم موسكو لموقف نيودلهي بشأن قضية كشمير داخل الأمم المتحدة.

وفي هذا الصدد، قال هارش بانت، نائب رئيس الدراسات في مؤسسة «أوبزرفر للأبحاث» بنيودلهي: «أعتقد أن مباحثات مودي تأتي في خِضم جهود هندية لتوصيل رسالة مفادها أنها جادة في استخدام نفوذها لحل هذا الصراع، وإثبات نفسها بصفتها فاعلاً مستقلاً. ولقد سبق أن تعرضت الهند لانتقاد على تأخرها في لعب هذا الدور، في الماضي، لذا فهي تتواصل مع البلدان الأكثر تورطاً في الصراع».

لا خطة سلام مقترحة حتى الآن

في الواقع لم تقترح نيودلهي أي خطة سلام لإنهاء الحرب. ومع ذلك، نظراً لكون الهند واحدة من الدول القليلة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع كل من روسيا والغرب، فإنها تأمل في دفع عملية التفاوض بين موسكو وأوكرانيا قُدماً. وهنا لا بد من التذكير بأن علاقات الهند بأوكرانيا، منذ استقلال الأخيرة عن الاتحاد السوفياتي، لم تكن وثيقة.

وهنا يوضح فيفيك كاتجو: «الحقيقة أن العلاقات الهندية الأوكرانية بدأت بشكل سيئ، ربما نسينا الآن أن أوكرانيا زوّدت باكستان بأكثر من 300 دبابة قتالية طراز (تي-80)، رغم اعتراضات الهند الشديدة، وأنها كانت أيضاً واحدة من الدول القليلة التي أدانت التجارب النووية التي أجرتها الهند عام 1998. طبعاً ألقى هذا ظلالاً طويلة على العلاقات بين البلدين، لكن مع ذلك، ينبغي عدم السماح لهذه التجارب بالتأثير سلباً على العلاقات الثنائية على الأمد البعيد. ثم إن رد الهند على عمل روسيا في شبه جزيرة القرم عرقل، هو الآخر، النمو الفاعل في العلاقات».

هل تستضيف الهند القمة الثانية للسلام؟

على أية حال، مع تصاعد الضغوط على روسيا وأوكرانيا للجلوس إلى طاولة التفاوض، وإنهاء الحرب التي لم تثمر سوى تفاقم التحديات الاقتصادية العالمية، تحاول الهند إيجاد موطئ قدم لها بصفتها «صانعة سلام». وقد وردت فكرة أن تكون الهند مقراً لقمة سلام بين روسيا وأوكرانيا، إذ قال الرئيس الأوكراني زيلينسكي أخيراً: «أما فيما يخص قمة السلام، أعتقد حقاً أنه يجب عقد قمة السلام الثانية، وسيكون جيداً أن تُعقَد في إحدى دول الجنوب العالمي». وأردف، بعد يوم من استضافته الزعيم الهندي في كييف، قائلاً: «أخبرت رئيس الوزراء مودي بأنه يمكننا عقد قمة السلام العالمية في الهند، إنها دولة كبيرة وديمقراطية عظيمة... الديمقراطية الكبرى».

معلوم أن قمة السلام الأولى عُقدت في سويسرا، خلال يونيو (حزيران) الماضي. وأثناء لقائه زيلينسكي، أكد مودي التزام الهند باحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها، مؤكداً أن الحرب يجب تصفيتها عبر الحوار والدبلوماسية، وأن الهند «ليست محايدة، بل تقف بحزم إلى جانب السلام».

ارتبطت الهند بعلاقات طويلة الأمد مع الاتحاد السوفياتي أولاً، ثم الاتحاد الروسي،

وتميّزت صلات البلدين بمصالح دفاعية قوية،

ودعم موسكو لموقف نيودلهي بشأن قضية كشمير

من جهته، أعرب هارش بانت عن اعتقاده أن زيارة مودي لأوكرانيا أكدت رغبة الهند في رؤية نهاية للصراع، «وجلوس كلا الجانبين إلى طاولة المفاوضات... إذ لا ترى الهند احتمالاً للحل دون وجود روسيا على الطاولة». وأوضح بانت: «لا تريد الهند أن يستمر الانفصال بين روسيا والغرب إلى الأبد؛ لأن هذا يعني مزيداً من التقارب بين موسكو وبكين، ثم إن الهند ترغب كذلك في وجود أوروبا مستقرة، تستطيع بعد ذلك لعب دور أكبر في ضمان استقرار المنطقة المُطلة على المحيطين الهندي والهادئ. هذا أمر بالغ الأهمية للهند. الهند لا تريد حتماً أوروبا منهمكة في تحدياتها الداخلية، بدلاً من اضطلاعها بدور عالمي».

زيلينسكي وخطوطه الحمراء

خلال مؤتمر صحافي، بمشاركة عدد من الصحافيين الهنود، بعد مغادرة مودي كييف، رحّب زيلينسكي بزيارة رئيس الوزراء الهندي، لكنه أطلق، ضمن كلامه، عدة مواقف، فقال: «أخبرت رئيس الوزراء مودي بأنه يمكننا عقد قمة سلام عالمية في الهند... لكننا لن نتمكن من عقد قمة سلام في دولة لم تنضمّ إلى البيان الصادر عن قمة السلام الأولى».

ولمّح زيلينسكي كذلك بشكل غير مباشر إلى مغامرات الصين على طول حدودها مع الهند، إذ قال: «إذا كان هناك ما يبرّر تصرفات بوتين، فأنا واثق من أنه ستكون هناك عواقب في أجزاء أخرى من العالم، فيما يتعلق بانتهاك سلامة الأراضي». وانتقد واردات الهند من النفط الروسي الرخيص، لمساعدة «اقتصاد الحرب» في موسكو، متابعاً: «إذا أوقفت الهند شراء النفط، فستواجه روسيا مشاكل وتحديات كبيرة».

توازن بين العلاقات أم استهداف لروسيا؟

لقد كان التساؤل الكبير قبل زيارة مودي لأوكرانيا عما إذا كان الهدف منها السيطرة على الأضرار الجيوسياسية، بعد الانتقادات الغربية لزيارته إلى موسكو. أما الآن، بعد انتهاء الزيارة، فيبدو أن التساؤل الأهم بات عما إذا كانت الزيارة قد نقلت رسالة خفية إلى موسكو. ووفق بعض الدلائل، هذا قد يكون صحيحاً.

الصحافية الهندية بيا كريشنامورثي ترى أن الزيارة «سلّطت الضوء على التوازن الدقيق الذي حققته نيودلهي في علاقاتها مع الغرب وروسيا إبّان الحرب الجارية، بينما يسعى نهج الهند المتعدد الأطراف إلى تعزيز مصالحها الوطنية وثقلها الإقليمي. وفي الوقت الذي زار فيه مودي النصب التذكاري للأطفال الذين قُتلوا خلال الحرب في المتحف الوطني للتاريخ بأوكرانيا، ووقف بجانب زيلينسكي، وذراعه ملتفّة حول الرئيس الأوكراني، أعرب مودي، لاحقاً، عن حزنه العميق على وفاة أطفال روس».

وبدا أن حسابات زيلينسكي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تعمل بالتناغم مع حسابات رئيس الوزراء الهندي، فقد كتب زيلينسكي: «اليوم، في كييف، احتفيت أنا، ورئيس الوزراء ناريندرا مودي، بذكرى الأطفال الذين فقدوا حياتهم بسبب العدوان الروسي. يستحق الأطفال في كل بلد أن يعيشوا في أمان. يجب أن نجعل هذا ممكناً»، وشارك مقطع فيديو لمودي وهو يزور النصب التذكاري.

وأضافت كريشنامورثي: «هذه البادرة لإظهار الحداد ذات مغزى خاص، عندما تقترن بزيارة مودي لموسكو، التي تزامنت مع ضربة صاروخية روسية على مستشفى للأطفال في كييف. والدليل الثاني على رسالة محتملة إلى موسكو، الإشارة الصريحة لمسألة الدفاع في البيان المشترك بين أوكرانيا والهند، إذ أشار البيان إلى الدور الحاسم للمحرّكات الأوكرانية في السفن الحربية الهندية، وجاء هذا الذكر الصريح لمبادرات الدفاع المشتركة بمثابة مفاجأة. ومن المحتمل أن يثير هذا حفيظة موسكو، التي طالما أقامت علاقة دفاعية وأمنية قوية مع نيودلهي. وما زاد حجم الإثارة أن وزير دفاع مودي كان في واشنطن العاصمة، حيث وقَّع اتفاقيتين جديدتين، في أثناء وجود مودي نفسه في كييف».

تنافس هندي ــ صيني في مجال صنع السلام

مع طرح كل من الهند والصين نفسيهما، بشكل متزايد، بصفتيهما لاعبين أساسيين في الدبلوماسية العالمية، تحولت الحرب في أوكرانيا إلى ساحة لعرض قدراتهما في صنع السلام.حول هذا الجانب، شرح أمي فيلانجي، الباحث المتخصص في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، الذي يعمل حالياً زميلاً في جامعة تشاناكيا الهندية، أن «الأدوار المتطورة للعملاقين الآسيويين لا تعكس طموحاتهما على الساحة العالمية فحسب، بل تؤكد كذلك التفاعل المعقّد بين المصالح الاستراتيجية والحقائق العملياتية، في خِضم السعي لتحقيق السلام بأوكرانيا».وتابع: «تميَّز دور الصين في حرب أوكرانيا بالمشاركة الحذِرة، وموازنة علاقاتها العميقة مع روسيا، ومصالحها في الحفاظ على علاقات اقتصادية مع أوروبا والغرب الأوسع. وفي وقت سابق من هذا العام، قدّمت الصين خطة سلام من 12 نقطة، دعت إلى وقف إطلاق النار، واستئناف المفاوضات. ومع ذلك قوبلت هذه الخطة بالتشكك، خصوصاً من أوكرانيا وحلفائها الغربيين، الذين عدُّوا اقتراح بكين بمثابة دعم خفي لموقف روسيا». وأضاف: «أما تورط الهند في حرب أوكرانيا فجاء أكثر تحفظاً، ما يعكس التزامها التاريخي باللاالانحياز والاستقلال الاستراتيجي». وكشفت زيارة مودي إلى كييف عن استعداد الهند للعب دور أكثر نشاطاً في الصراع، ما قد يجعل منها وسيطاً للسلام. وبعكس الصين، لا يثقّل على الهند المستوى نفسه من الالتزام الاستراتيجي تجاه روسيا أو أوكرانيا، ما يمنحها ميزة فريدة تتمثل في النظر إليها بوصفها لاعباً أكثر حيادية.في المقابل، شككت صحيفة «غلوبال تايمز»، الناطقة الرسمية باسم الصين، في إمكانية اضطلاع الهند بدور «صانع سلام». وذكرت أن التركيز الأساسي لنيودلهي ليس على الصراع بين روسيا وأوكرانيا، بل على تحقيق توازن في علاقاتها مع روسيا والغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة. يُذكر أنه في يوليو (تموز) الماضي، أثارت زيارة مودي لروسيا استياءً شديداً لدى الولايات المتحدة والغرب.