تفاؤل في كوبا بفتح صفحة مع إدارة بايدن

بعد 4 سنوات من العقوبات والمتاعب مع ترمب... ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية و«ثورة التواصل الاجتماعي»

تفاؤل في كوبا بفتح صفحة مع إدارة بايدن
TT

تفاؤل في كوبا بفتح صفحة مع إدارة بايدن

تفاؤل في كوبا بفتح صفحة مع إدارة بايدن

منذ دخول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب البيت الأبيض في مثل هذه الأيام من العام 2017 حتى الساعات الأخيرة من ولايته، التي انتهت يوم 20 يناير (كانون الثاني) الحالي على وقع أحداث غير مسبوقة في التاريخ الأميركي، لم يتوقّف عن فتح الجبهات الخارجية والداخلية على مصاريعها. وكان تصميم ترمب الذي لا يلين منصباً، في كل خطوة، على تفكيك ما فعله سلفه باراك أوباما طوال 8 سنوات من حكمه، والحرص كل الحرص على الإبحار دائماً عكس التيار الذي سار فيه سلفه. أما آخر هذه آخر الخطوات التي اتخذها ترمب فكانت إدراج كوبا على قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، بعد أيام من إعلانه تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وتضييق الحصار الدبلوماسي الذي كانت إدارة أوباما قد بدأت برفعه عن الدولة - الجزيرة.

كوبا كانت تترقّب بفارغ الصبر تنصيب الرئيس الأميركي الجديد جون بايدن، الذي وعد باستئناف العلاقات الدبلوماسية التي قطعها سلفه دونالد ترمب مع سلطات هافانا. كذلك، كانت تأخذ على محمل الجِدّ قرار إدراجها على لائحة الدول الراعية للإرهاب رغم وصفها إيّاه بأنه «خطوة يائسة من حكومة مفلسة أخلاقياً»، كما جاء في بيان صادر عن وزارة الخارجية، اعتبر القرار انتهازياً ومفتقراً للمسوّغات، «هدفه الحقيقي وضع عراقيل إضافية أمام احتمالات استعادة العلاقات الدبلوماسية بين كوبا والولايات المتحدة الأميركية».
في الواقع، كانت كوبا قد ردّت على قرار ترمب بتصريح غير مألوف صدر عن رئيس الجمهورية ميغيل دياز كانيل، جاء فيه قوله: «الحقيقة التي يعترف الجميع بها هي أن كوبا ليست دولة راعية للإرهاب. فالسياسة الرسمية المعروفة التي ينهجها بلدنا في كل المحافل هي رفض الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره، وخاصة إرهاب الدولة». وأضاف أن قائمة الدول الراعية للإرهاب – التي كان الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان أول من أدرج كوبا فيها خلال عام 1982، ثم حذفها منها باراك أوباما عام 2015 – «ليست سوى أداة لفرض عقوبات اقتصادية تعسّفية على الدول التي ترفض الانصياع لنزوات الإمبريالية الأميركية». وللعلم، من شأن إدراج كوبا على هذه القائمة أن تنجم عنه عقوبات، تشمل وقف المساعدات الخارجية الأميركية إلى الجزيرة، وحظر الصادرات إليها، وفرض عقوبات مالية على الشركات التي تتعامل معه. إلا أنه بعدما كانت الإدارة الأميركية على عهد ترمب قد لجأت إلى تشديد العقوبات والقيود المالية بشكل غير مسبوق على الجزيرة - خاصة في إطار الصدام مع نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الذي يعتمد بشكل حيوي على الدعم العسكري والاستخباراتي من كوبا – أعلن الرئيس جو بايدن أخيراً أنه سيستأنف سياسة التقارب مع هافانا التي كان قد شارك في وضعها عندما كان نائباً للرئيس على عهد أوباما. ومن المنتظر أيضاً أن يرفع القيود ويلغي التدابير التي فرضتها إدارة ترمب، مثل تقييد تحويلات المهاجرين، ومنع الرحلات الجوية والبحرية المباشرة، وإغلاق القنصليات، وحظر سفر الأميركيين إلى الجزيرة.

- انتقاد ديمقراطي لترمب
من جهة ثانية، يرى مراقبون أن الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها ترمب تجاه كوبا إنما كانت تهدف إلى تحقيق مكاسب داخلية مثل إرضاء قطاع واسع من ناخبيه الذين يؤيدون كل خطواته لتفكيك ما أنجزه أوباما، وتعزيز قاعدته بين المتحدرين من أصل كوبي في ولاية فلوريدا. مع الإشارة، إلى أن القرارات التي اتخذتها الإدارة الجمهورية السابقة في أيامها العشرة الأخيرة ضد كوبا تزيد عن كل التي صدرت عنها في السنوات الأربع المنصرمة، ومن غير أن تخضع للإجراءات والتحريات المعهودة.
جو غارسيّا، الذي كان وزيراً للطاقة على عهد أوباما، وتولّى أخيراً تنظيم المساعدات الصحية التي أرسلت إلى كوبا لمواجهة جائحة «كوفيد 19»، اعتبر أن قرار ترمب إدراج كوبا على قائمة الدول الراعية للإرهاب هو «صرخة الغريق». وتابع: «لا علاقة لهذا القرار بكوبا، ولا بالإرهاب، ولا بالأمن القومي الأميركي. إنه ثمرة الحقد الدفين الذي يشعر به مَن خسر الانتخابات أمام بايدن، الذي وعد بأنه سيعيد النظر في كل القرارات التي اتخذتها الإدارة (الراحلة) في لحظات اليأس الأخيرة، في أعقاب فقدانها كل شرعيتها، وسعيها لإلحاق الضرر بالإدارة الجديدة».
ويرى غارسيّا أن الردّ المناسب من النظام الكوبي على خطوة ترمب، وعلى الذين يدعمونه في ميامي (حيث أحد أكبر نسب المهاجرين الكوبيين)، هو الاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية وتعميقها لمصلحة الشعب الكوبي. ويشدد الوزير الديمقراطي السابق على أن الإدارة الأميركية الجديدة التي تستند إلى غالبيتين ديمقراطيتين في مجلسي الشيوخ والنواب «ستعيد النظر في كل هذه القرارات، وستضع العلاقات مع كوبا في خدمة المصالح القومية الأميركية على طريق التطبيع». ولا يستبعد غارسيّا، المرشّح ليلعب دوراً أساسياً في رسم إطار علاقات إدارة بايدن مع دول أميركا اللاتينية، أن تبادر هذه الإدارة إلى إلغاء الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا، والذي تطالب الأسرة الدولية بإنهائه منذ العام 1992.

- مصاعب... وسنة مفصلية
لكن، في الجزيرة العائمة بتحدٍّ وإباء منذ 6 عقود على مرمى حجر من الساحل الأميركي، لا تقتصر الشواغل والمتاعب على نزوات الرئيس الخارج من البيت الأبيض. ومع بداية كل عام منذ 1959، عندما نزل فيديل كاسترو ظافراً من «سييرا مايسترا» ودخل العاصمة هافانا مع رفاقه الثوريين، يستقبل الكوبيون السنة الجديدة على قلق الرهانات والتساؤلات. إذ مضت 3 عقود على إعلان «المرحلة الخاصة»، وهو الاسم الذي أطلقه النظام على الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخطيرة التي نشأت عن انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وأدت إلى تراجع إجمالي الناتج القومي بنسبة 35 في المائة خلال أقل من سنتين. وها هو العام 2021 يطلّ حاملاً وزراً ثقيلاً من الشحّ الناجم عن أزمة سيولة خانقة وانخفاض قياسي آخر في الناتج القومي بنسبة 11 في المائة في العام الماضي بسبب الجائحة التي قضت على قطاع السياحة الذي يشكّل المصدر الأساسي للعملة الصعبة في كوبا.
يضاف إلى ما سبق، تعثّر الإصلاحات الاقتصادية وصعوبة تطبيقها في مثل هذه المرحلة الحرجة التي ارتفعت فيها معدلات البطالة والفقر، بينما يواجه النظام تحديات غير مسبوقة ناجمة عن تعميم وسائل التواصل الاجتماعي. وهو ما فتح آفاقاً واسعة أمام الجدل السياسي والعقائدي.
السنة هذه مرشحة لتكون مفصلية أيضاً في كوبا، لأنها ستشهد في الربيع المقبل انعقاد المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الذي سيتنحّى فيه القيادي التاريخي راوول كاسترو (شقيق فيديل، مؤسس كوبا الحديثة) عن منصب الأمين العام. وكان راوول قد وعد بذلك في المؤتمر السابق عندما رشّح ميغيل دياز كانيل لمنصب رئيس الجمهورية، واقترح ولايتين كحد أقصى في القيادات السياسية العليا للبلاد. ويكتسي هذا المؤتمر الثامن أهمية خاصة، ليس فقط لأنه سيشهد انكفاء القيادات التاريخية للثورة بعد رحيل رمزها الأكبر فيديل كاسترو، وتولّي كانيل الأمانة العامة للحزب الشيوعي، بل لأنه سيحدد الخطوط الاستراتيجية العريضة للإصلاحات التي ينتظرها الكوبيون منذ عقود. وفي طليعتها؛ التعددية السياسية، وفتح الباب لنشاط القطاع الخاص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والاستثمارات الأجنبية، واللامركزية في رسم السياسات واتخاذ القرارات الاقتصادية، وإعطاء المؤسسات الرسمية هامشاً أوسع من الاستقلالية، وتعزيز الإدارات المحلية. وكان معظم هذه الإصلاحات قد أقرّ خلال المؤتمر السابع عام 2016. لكن تنفيذها أجّل مراراً، بما فيها الإصلاح النقدي الذي دخل حيّز التنفيذ مطلع هذا العام، وكان بمثابة «الهبوط الاضطراري» لكوبا على أرض الاقتصاد الحقيقي بعد عقود من سياسات الدعم في كل القطاعات.
كانت الحكومة الكوبية تدرك سلفاً أن خفض قيمة العملة الوطنية ستكون له تداعيات اجتماعية ومعيشية على صعيد ارتفاع الأسعار والتضخّم، والتراجع الكبير للقدرة الشرائية الضعيفة أصلاً للمواطنين. إلا أنها لم تكن تتوقع الكمّ الهائل من الانتقادات والاحتجاجات التي ضجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما سجّلت أسعار الخبز والمحروقات والمواصلات العامة وفواتير الكهرباء ارتفاعاً وصل إلى 500 في المائة، ما اضطرها إلى الإعلان عن إعادة النظر في التسعيرات التي كانت قد حدّدتها.
لقد أطلقت الحكومة على اليوم الأول من هذا الشهر مسمى «اليوم صفر» لكونه بداية الإصلاحات الموعودة منذ سنوات، والتي يعتبر خبراء الاقتصاد أنها السبيل الوحيد لمنع الانهيار التام والحيلولة دون إفلاس القطاع العام، الذي تدنّت معدلات إنتاجيته بصورة غير مسبوقة منذ بداية الثورة. غير أن عام 2021 يمكن اعتباره أيضاً «العام صفر» لأسباب أخرى مختلفة في مسار الثورة، التي ما زالت صامدة في وجه الرياح المعاكسة التي تبحر فيها منذ 6 عقود.

- عهد بايدن وانعكاساته
أما النبأ السار في العام الجديد بالنسبة للنظام الكوبي فهو وصول جون بايدن إلى البيت الأبيض. كيف لا، وهو الذي أعلن أنه سيستأنف سياسة التقارب مع الجزيرة، وسيرفع العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب خلال السنوات الأربع المنصرمة، والتي شدّدت الحصار الذي تفرضه واشنطن على كوبا، وزادت من الصعوبات المعيشية التي تعاني منها. وفي هذا السياق، من المنتظر أن تعوّض عودة النشاط إلى القطاع السياحي، وإنهاء القيود على الرحلات الجوية والبحرية المباشرة، وتحويلات المهاجرين، الآثار السلبية الناجمة عن جائحة «كوفيد 19». إلا أن بعض الخبراء يعتقدون أن أي إدارة أميركية، ديمقراطية كانت أو جمهورية، تشكّل دائماً تحدياً بالنسبة لكوبا... كما تبيّن مع سياسة الانفتاح التي انتهجها أوباما، وواجهت مقاومة كبيرة بين المتشددين في نظام هافانا.
أيضاً، من الأمور الأخرى التي تثير قلق النظام منذ فترة الاحتجاجات المتزايدة في الأوساط الشعبية - وخاصة بين المثقفين والفنانين - المطالبة بهامش أوسع من حرية التعبير. وتتوقف السلطات عند المظاهرة السلمية، التي شارك فيها مئات أمام وزارة الثقافة أواخر العام الماضي احتجاجاً على اعتقال أحد المطربين الشعبيين، وتداعى إليها المتظاهرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتحوّلت إلى مسيرة للمطالبة بمزيد من الحرية والتعددية السياسية والكفّ عن ملاحقة المنشقّين. وحقاً، قد وجد النظام نفسه ذلك اليوم أمام مشهد غير مألوف، ما أجبر وزير الثقافة على استقبال ممثلين عن المتظاهرين والاستماع إلى مطالبهم ووعدهم بمواصلة الحوار... في سابقة لم يشهدها النظام منذ بداية الثورة.
تلك المظاهرة أدت، فعلاً، إلى إشعال وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث هبّ مئات من الفنانين والأكاديميين والناشطين والمواطنين العاديين إلى الدفاع عن المتظاهرين ومطالبهم، فيما كانت السلطات والأوساط المؤيدة لها تعلن رفضها الحوار مع الذين أطلقت عليهم التسميات التقليدية مثل «أعداء الثورة» أو «المرتزقة الذين تموّلهم الإمبريالية». وأظهرت تلك الحادثة، وما عقبها من تطورات، أن الدولة اليوم في كوبا ما عادت تحتكر توجيه الرسائل للمواطنين وإرساء حقائق الأحداث التي تشهدها البلاد.

- «ثورة» التواصل الاجتماعي
من المراقبين الذين يتابعون عن كثب هذه التطورات الصحافي والكاتب إيغناسيو رامونيه، المدير السابق لصحيفة «الموند الدبلوماسي» وأحد كبار المتخصصين في الثورة الكوبية، التي وضع عدة مؤلفات عنها، أشهرها كتابه «100 ساعة مع فيديل». يقول رامونيه معلّقاً على هذه التطورات الأخيرة في كوبا: «إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم التعبير الفعلي عن ديمقراطية الإعلام التي أطلقتها الثورة الرقمية. يكفي هاتف ذكي لأي مواطن في أي بلد من العالم للتواصل مثل أي شبكة تلفزيون عالمية. إنها الثورة الجارفة التي على النظام الكوبي أن يتعايش معها».
والواقع أن ما شهدته كوبا من تطورات منذ مطلع هذا العام مع الإصلاح النقدي، وما نجمت عنه من تداعيات وردود فعل شعبية، بيّن أن قواعد اللعبة قد تغيّرت بشكل جذري. إذ اضطرت السلطات إلى العودة عن كثير من القرارات التي اتخذتها. وبعد 62 سنة على انتصار الثورة تقف كوبا على أبواب مرحلة جديدة تطوي فيها آخر صفحات الزعماء التاريخيين، وتبحر بين أنواء الإصلاحات الاقتصادية الصعبة ووسائل التواصل الاجتماعي المشتعلة بالاحتجاجات على الظروف المعيشية والقيود على الحريات. وهو ما يجعل من العام 2021 بلا شك موعداً مفصلياً في الصراع الذي تخشاه الثورة وتؤجله منذ عقود مع التطور.



كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
TT

كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيّد المراقبين السياسيين داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يتابعون «مستجدات ملفات الانتخابات الرئاسية»، فأعلن قبل أسابيع من الموعد الانتخابي عن تغيير حكومي واسع، وتعيين البروفسور كمال المدّوري، وهو شخصية أكاديمية وإدارية وسياسية مستقلة، على رأس الحكومة الجديدة خلفاً للمستشار القانوني المخضرم أحمد الحشّاني الذي مرت سنة واحدة على تعيينه رئيساً للوزراء. المدّوري ليس غريباً عن قصر رئاسة الحكومة، إذ سبق له أن تولى منصب مستشار قبل تعيينه في مايو (أيار) الماضي وزيراً للشؤون الاجتماعية تتويجاً لمسيرة أكثر من 20 سنة على رأس عدد من المؤسسات الحكومية المكلفة بملفات «الأمن الاجتماعي». والواضح أن الرئيس التونسي عبر تعيينه «صديق النقابيين» والخبير الدولي في التفاوض على رأس الحكومة، استبق محطة 6 أكتوبر (تشرين الأول) الانتخابية التي يريد أن يعبر بها إلى «الدورة الرئاسية الثانية»، وسط تزايد مخاوف المعارضة والنقابات من تسارع «تدهور أوضاع الاجتماعية للطبقات الشعبية بسبب نسب التضخم والبطالة والفقر المرتفعة».

يأتي قرار الرئيس قيس سعيّد تعيين البروفسور كمال المدّوري رئيساً جديداً للحكومة بمثابة «سحب البساط» من تحت معارضيه النقابيين والسياسيين، الذين تضاعفت انتقاداتهم مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، وتزايد الكلام عن تدهور القدرة الشرائية للعمال والمتقاعدين والفقراء، رغم القرارات الرئاسية الجديدة، ومنها ترفيع جرايات التقاعد ورواتب قطاع من الأجراء.

وبدا واضحاً وجود إرادة سياسية للتأكيد على أن القرارات المركزية للدولة، بما فيها تلك المتعلقة بالأمن الاجتماعي ومستقبل الاقتصاد «تصنع في قصر الرئاسة» في قرطاج ، بصرف النظر عن مآلات انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

مستقل من «حزب الإدارة»

لقد نوّه عدد ممّن عملوا مع المدّوري طوال السنوات العشرين الماضية، في المؤسسات الحكومية والإدارية للدولة، بخبرته في تسيير مفاوضات الحكومة مع نقابات العمال ورجال الأعمال داخلياً، وأيضاً نجاحاته الدولية عبر دوره في مفاوضات تونس مع المفوضية الأوروبية حول «سياسة الجوار الأوروبية» و«وضعية الشريك المميّز».

وفي حين كانت البعثات الأوروبية والدولية المفاوضة في بروكسل وبرشلونة وجنيف تدفع تونس ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط - كما هو مألوف - نحو «تحرير» الاقتصاد بتقليص العمالة، وتخفيف «الأعباء الاجتماعية للدولة»، و«خفض نسبة الرواتب في ميزانية الدولة»، صمد المدّوري ومعه الفريق الحكومي التونسي في وجه هذا الدفع. بل مارس هو ورفاقه دفعاً مضاداً ضاغطاً على «الشركاء الأوروبيين» والمؤسسات الدولية من أجل إبعاد تونس عن تجرّع مرارة الاقتطاعات الخدمية المرتجلة والمؤلمة شعبياً التي قد تفجّر اضطرابات أمنية اجتماعية سياسية وأعمال عنف، كالأحداث الدامية والمواجهات التي عرفتها تونس مطلع عامي 1978 و1984، ثم منذ 2010 - 2011.

هذا الرصيد كان على يبدو أحد أسباب اختيار رئيس الدولة لهذا الأكاديمي والإداري المجرّب لترؤّس الحكومة. وبالمناسبة، كان المدّروي أحد طلبة سعيّد في كلية الحقوق والعلوم القانونية والسياسية والاجتماعية، قبل أن ينضم إلى «حزب الإدارة»، أي إلى صفّ «كبار الموظفين في جهاز الدولة» الذين ليست لديهم انتماءات حزبية أو سياسية، بل تميّزوا باستقلاليتهم وحيادهم وولائهم «للوظيفة الحكومية» بصرف النظر عن الحاكم.

ابن «الجهات المهمشة»

من جهة ثانياً، بخلاف معظم رؤساء الحكومات منذ 1955، فإن المدّوري من مواليد «الجهات الزراعية المهمّشة»، وتحديداً مدينة تبرسق الجبلية الصغيرة، الواقعة على مسافة 100 كيلومتر جنوب غربي العاصمة تونس، والغنية بمياهها العذبة ومزارعها الجميلة.

هذه المدينة الصغيرة أسّست قبل أكثر من 2000 سنة في عصر «اللوبيين» قرب مدن تاريخية قرطاجنية رومانية ونوميدية شهيرة مثل دقة وباجة والكاف، ناهيك من بلاريجيا، عاصمة «النوميديين»، حسب المؤرخ والمفكر التونسي محمد حسين فنطر. وكان اسمها الأصلي القديم «تبرسوكوم»، أي «سوق الجلود»، باعتبار تلك المنطقة الواقعة شمال غربي تونس غنية فلاحياً، وتنتشر فيها الزراعات الكبرى للحبوب وتربية المواشي. غير أنها صارت مهمشة منذ 70 سنة.

ويبدو أن الرئيس سعيّد - وهو من مواليد تونس العاصمة، لكن أصوله تعود إلى الأرياف الزراعية بمحافظة نابل (100 كيلومتر شرق العاصمة) - أراد باختيار تلميذه السابق توجيه رسالة ردّ اعتبار لأبناء الجهات الفقيرة والمهمّشة. وهي الرسالة ذاتها التي ربما أراد توجيهها عندما عيّن هشام المشيشي ابن بلدة بوسالم، في محافظة جندوبة الحدودية مع الجزائر، وزيراً للداخلية ثم رئيساً للحكومة في 2020 و2021.

«تكنوقراط» وسياسي

في أي حال، منذ الإعلان عن تعيين المدّوري رئيساً للحكومة تفاوتت التقييمات لشخصيته ومؤهلاته. إذ انتقد بعض الساسة والكتّاب، بينهم وزير التربية السابق وعالم الاجتماع سالم الأبيض، تعيين شخصية «غير سياسية» على رأس الحكومة. وقال الأبيض إن تعلّم السياسة «ليس أمراً يسيراً بالنسبة لتكنوقراطي» يخلو رصيده من تجارب مع الأحزاب والحركات السياسية القانونية وغير القانونية وأخرى مع مؤسسات المجتمع المدني.

ولكن، في المقابل، ثمّن آخرون «ثراء تجربة» رئيس الحكومة الجديد، ولا سيما كونه طوال أكثر من 20 سنة من أبرز كوادر الإدارة والدولة الذين تفاوضوا مع قيادات نقابات العمال ورجال الأعمال والمزارعين وهيئات صناديق «الضمان الاجتماعي والتقاعد» التي تهم ملايين الموظفين والمتقاعدين في القطاعين العام والخاص في البلاد. وللعلم، شملت تلك المفاوضات الملفات «السياسية والاجتماعية الحارقة»، بينها القضايا الخلافية التي كانت تتسبب في تنظيم آلاف الإضرابات العمالية وغلق مئات الشركات أو نقل جانب من أنشطتها خارج تونس.

وبناءً عليه، عندما وقع عليه اختيار الرئيس سعيّد يوم 25 مايو (أيار) الماضي وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم يوم 7 أغسطس (آب) رئيساً للحكومة، فإنه لا بد أنه أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية. ثم إن تعيين المدّوري الآن يؤكد تزايد البُعد السياسي الاستراتيجي لقطاع «الأمن الاجتماعي»، وأيضاً اعتماد «نظام رئاسي مركزي» منذ 2021.

خلفيات أكاديمية وصلات خارجية

أكاديمياً، تخرّج المدّوري أولاً في الجامعة التونسية، وتحديداً في كلية الحقوق والعلوم السياسية والقانونية بتونس، التي كانت مناهجها الأقرب إلى مناهج الجامعات الفرنسية. وفي الوقت نفسه، تابع دراساته العليا في جامعات أوروبية، وحصل على شهادة «دكتوراه الحلقة الثالثة» في قانون المجموعة الأوروبية والعلاقات المغاربية الأوروبية. وأهّلته هذه الشهادة الجامعية الأوروبية لاحقاً للعب دور بارز خلال مفاوضات تونس مع الاتحاد الأوروبي ومع الدول المغاربية حول «المنطقة الحرة الأورو متوسطية» والشراكة الاقتصادية وبرامج «سياسة الجوار».

بالتوازي، يُعد الرجل من جيل «المخضرمين» كونه حصل أيضاً على شهادات عُليا من مؤسسات جامعية خاصة بكبار الكوادر السياسية للدولة، بينها شهادة ختم الدراسات بالمرحلة العليا في «المدرسة الوطنية للإدارة» في تونس، وأخرى من معهد الدفاع الوطني. ولقد مكّنته هذه الشهادات والخبرة من التدريس في جامعات إدارية مدنية وأمنية وعسكرية، منها المدرسة العليا لقوات الأمن الداخلي. وأيضاً، ساعدته هذه الخبرة المزدوجة الإدارية السياسية الأمنية العسكرية كي يكون «مفاوضاً دولياً»، بما في ذلك مع مؤسسات «مكتب العمل الدولي» في سويسرا ومكاتب العمل وصناديق التنمية العربية والإقليمية وغيرها من المؤسسات التي تجمع في الوقت عيّنه ممثلي الحكومات ومنظمات رجال الأعمال ونقابات العمال.

وبحكم خصوصية الشراكة بين تونس مع ليبيا والجزائر والمغرب، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً، ساهم المدّوري مطولاً في المفاوضات مع الشركاء المغاربيين حول ملفات «الأمن الاجتماعي».

مسؤوليات

من جانب آخر، نظراً لما تشكو منه آلاف المؤسسات العمومية والخاصة في تونس منذ عهد الرئيس زين العابدين بن علي من صعوبات مالية وعجز عن تسديد مساهماتها في «الصناديق الاجتماعية»، عيّن كمال المدّوري خلال العقدين الماضيين الماضية ليرأس «الإدارة العامة للضمان الاجتماعي» في وزارة الشؤون الاجتماعية ثم مؤسسات صناديق التقاعد والتأمين على المرض. وكانت مهمته سياسية بامتياز: إبرام اتفاقات بين الحكومة والقطاع الخاص والنقابات وتجنيب البلاد مزيداً من الإضرابات والاضطرابات، ثم إنقاذ الصناديق الاجتماعية من سيناريوهات الإفلاس والعجز عن دفع مستحقاتها لملايين العمال والموظفين والمتقاعدين.

وفعلاً أبرمت الصناديق الاجتماعية والنقابات والحكومة بفضل تلك الجهود، قبل سنوات، اتفاقيات أثمرت «إصلاحات جذرية» تخلّت الدولة بفضلها عن «الحلول السهلة»، وبينها سياسة «التداين من البنوك التونسية» بصفة دورية بهدف تسديد رواتب الموظفين وجرايات المتقاعدين.

صعوبات وأوراق سياسية

في المقابل، لا يختلف اثنان على حجم المخاطر الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الأمنية التي ستواجهها الحكومة الجديدة ورئيسها، في مرحلة تعمقت فيها التناقضات بين النقابات والمعارضات والسلطات المركزية، وتوشك أن تزداد عمقاً بعد انتخابات 6 أكتوبر.

ولا شك أن الرئيس سعيّد أدرك ذلك، ولذا أبعد شخصيات «مثيرة للجدل» من قصري قرطاج والقصبة، وغيّر أكثر من ثلثي الفريق الحكومي. وفي المقابل، اختار مزيداً من «التكنوقراط» الذين ليست لهم «صفة آيديولوجية وحزبية»، وطالبهم بالانسجام في الحكومة الجديدة. وبالفعل، أسفر «التعديل الحكومي الأول» الذي أجراه سعيّد ورئيس حكومته الجديد قبل أيام عن إبعاد مزيد من رموز المشهد السياسي والآيديولوجي القديم، وتعيين مزيد من «الخبراء المستقلين» الأكثر انسجاماً مع «دستور 2022»، الذي نصّ على كون مهمة رئيس الحكومة وكامل الفريق الحكومي «مساعدة رئيس الجمهورية» على إنجاز برامجه وسياسته، لا العكس.