أزهار متفتحة وجنوح نحو الجديد من دون إلغاء الماضي

أسبوع الأزياء الراقية الباريسي لربيع وصيف 2015 تحت حراسة مشددة

من عرض فرساتشي
من عرض فرساتشي
TT

أزهار متفتحة وجنوح نحو الجديد من دون إلغاء الماضي

من عرض فرساتشي
من عرض فرساتشي

طقس بارد.. أمطار متساقطة وحراسة مشددة، هكذا بدأ أسبوع باريس للهوت كوتير لموسمي الربيع والصيف المقبلين. هل هذا يعني أن الحماس كان قليلا والتذمر كثيرا؟. لا أبدا فالطقس كان متوقعا بحكم أننا في شهر يناير (كانون الثاني)، والحراسة المشددة، مفهومة بعد الأحداث التي شهدتها باريس مؤخرا، ما جعل الكل مستعدا لكل الاحتمالات والتغييرات، بما فيها فكرة حمل بطاقات شخصية أو جوازات سفر لكل عرض، والوقوف لعدة دقائق إضافية في طوابير طويلة للتفتيش. الطريف أن حتى الأجهزة الإلكترونية المؤقتة التي تم نصبها في مداخل العروض بدت وكأنها إكسسوارات تراعي الموضة، كما هو الحال في عرض ديور الذي استبدلت فيه الصناديق الرمادية الخاصة بوضع حقائب اليد للتفتيش بأخرى بيضاء شفافة، حتى تشعر فيها حقائب ديور أو شأنيل أو هيرميس، التي كانت تحملها الحاضرات، بالأمان. المهم أن الكل كان متجاوبا، يركز فقط على ما سيقدمه المصممون من إبداعات وتوجهات لربيع وصيف 2015 عوض التركيز على السلبيات، ولم يخيب الأسبوع الآمال منذ اليوم الأول، الذي كان من نصيب دار فرساتشي.
ففي يوم الأحد مساء، قدمت الدار الإيطالية عرضها الذي عادت فيه إلى ما تتقنه أكثر من غيرها: الإثارة الأنثوية والاعتماد على عارضات سوبر. كانت الفساتين طويلة تعانق الجسم وتكشف أجزاء استراتيجية منه لتبرز جمالياته معتمدة على عارضات أربعينيات وثلاثينيات، مثل إيفا هيرزيغوفا وأمبر فاليتا عوض عارضات صغيرات بمقاسات صبيانية، بينما جلست النجمة غولدي هون وابنتها كايت هادسون جنبا إلى جنب، وكأن دوناتيلا فرساتشي تريد أن تقول إنها تتوجه إلى الأمهات وبناتهن بنفس القدر، وبأن الجمال لا يعترف بزمن، علما بأنها هي نفسها تبلغ من العمر 59 عاما. أول ما يتبادر إلى الذهن عند النظر إلى هذه التشكيلة أن المصممة لم تحاول تغيير جلدها وظلت وفية لأسلوبها رغم أنه أوقعها في فترة من الفترات في مطبات عويصة، لم تتجاوزها إلا في السنوات الأخيرة. عوض أن تركب موجة الهادئ والرومانسي الوقور، ظلت متمردة تستعمل لغة حسية صارخة، قد تفتقد إلى بعض الشاعرية أحيانا، إلا أنها تنجح دائما في شد الانتباه وكسب قلوب نساء يعشقن لفت الأنظار. الأغنية التي صاحبت المجموعة الأخيرة، كانت معبرة جدا وتلخص فكرة العرض، فهي أغنية «سيكشوال هيلينغ» للمغني مارفن غاي، تهادت على نغماتها عارضات في فساتين تقطر أنوثة وبخطوط، قد تكون بسيطة ومتوقعة، إلا أنها لا تخلو من فنية. تجلت هذه الفنية في أشكال هندسية ظهرت كمثلثات على الصدر أو كأشكال بيضاوية تتعرج وتتماوج في أجزاء أخرى، وشرحت دوناتيلا بأنها اعتمدت فيها «على التفنن في القص وتتبع تقاطيع جسد المرأة.. عندما بدأنا تصميم التشكيلة، طلبت أن لا تكون الخطوط مستقيمة على الإطلاق، بل أن تكون كل جزئية منحنية وملتوية إلى حد ما».
استهلت العرض بتايور أسود ضيق يتتبع تضاريس الجسم ويبرزها بشكل لا تتقنه سوى فرساتشي، خصوصا أنه كشف عن أجزاء استراتيجية من الجسم، مثل فتحة في بنطلون أو ياقة صدر مفتوحة بشكل كبير، لتبقى المجموعة الموجهة للمساء والسهرة أكثر جمالا، لأنها عادت بنا إلى أمجاد الدار، وما رسخته في الذهن منذ الثمانينات: فساتين بألوان متوهجة مثل الأحمر والأصفر والأزرق، تلتف حول الجسم وتتماوج مع كل حركة لتؤكد ما قالته دوناتيلا بأنها كانت تريد تصاميم بانحناءات تتبع الجسد وتعانق تضاريسه وتعرجاته. والنتيجة أن بعض هذه التصاميم ظهرت وكأنها وشم أو لوحات فنية تخاطب شريحة جديدة من زبونات الهوت كوتير، ربما يكن استعراضيات لكنهن حتما يتمتعن بإمكانات عالية وثقة أعلى بالنفس. مثل الكثير من المصممين تعرف دوناتيلا أن الأنوثة تبيع لأنها عملة من ذهب، وما يفرقها عن غيرها أنها أكثر جرأة في الاعتماد على هذه الأنوثة وتوظيفها بشكل صريح وواضح من دون أي تمويه أو التفاف، ربما لأنها تشعر بأن كونها امرأة يعطيها الحق في اللعب على هذا العنصر أكثر من غيرها.
في دار ديور، كان الإيقاع مختلفا، حيث عاد مصممها راف سيمونز الماضي إلى الماضي ليكتب الحاضر والمستقبل من خلال أزياء عصرية تخاطب شريحة مختلفة من زبونات الهوت كوتير عن تلك التي خاطبتها دوناتيلا فرساتشي. زبونات صغيرات السن وسيدات أعمال شابات يرغبن في أزياء يستعملنها في كل الأوقات وليس فقط في المساء والسهرة. وهذا ما فهمه المصمم البلجيكي الأصل وقدمه لهن في هذا العرض، مؤكدا أنه بدأ يمسك بزمام الأمور وبتلك الخيوط الرفيعة التي تفصل الماضي بالمستقبل. منذ اللحظة التي تدخل فيها القاعة المنصوبة بداخل متحف رودان، الذي يخضع حاليا لترميمات، تطالعك غابة من الأعمدة الملتوية المصنوعة من الصلب، تتشعب وتتعالى لتشكل طابقا ثانيا قادرا على استيعاب الحضور، وتشعر بأن القديم والمستقبلي سيتزاوجان في هذا العرض. فالمصمم، ورغم الديكور شبه المستقبلي، لا يمكن أن يتجاهل ماضي الدار ورومانسيته، التي تُبنى عليها. وهذا ما كان، فقد ترجمه راف سيمونز بأسلوب حداثي تظهر فيه لمسات الأنامل الناعمة التي سهرت على تنفيذ كل تفاصيله، سواء من خلال التطريزات الدقيقة، أو الإضافات الأخرى على الأكمام أو الصدر وحتى على الأحذية العالية. بعض القطع تُذكر بتقنية الـ«باتشوورك» القديمة، من حيث استعمال أقمشة مختلفة وألوان متنوعة في القطعة الواحدة، لكن شتان بين باتشوورك أيام زمان، وما قدمه راف سيمونز سواء في فساتين قصيرة تستحضر حقبة الستينات، أو في تنورات «ميدي» مستديرة تذكرنا بأسلوب الراحل كريستيان ديور، وغيرها، فهذه تتكلم بلغة عصرية محضة، وليس أدل على هذا من المعاطف البلاستيكية الشفافة، التي أعطت الصورة بعدا غنيا عندما غطت فساتين تبرق بالخرز والأحجار أو من الدانتيل. في السابق، لم نكن نشعر بأن عودة سيمونز إلى رومانسية الماضي نابعة من قلبه بقدر ما كانت مفتعلة بإرضاء الغير، وهو ما لم نشعر به في هذه التشكيلة، وربما هذا ما يجعلها أحسن ما قدمه لحد الآن في مجال الـ«هوت كوتير» على الأقل. فقد نجح في جعل الماضي يبدو معاصرا والرومانسية حيوية، خصوصا في فساتين غطتها بليسيهات وطيات بألوان هادئة تبدو وكأنها حلوى «ميل فوي» تشعرك بالجوع والرغبة فيها حتى إذا لم تكن تحتاجها. إجمالا، بقي الإحساس برومانسية زمان خفيفا طوال العرض، يظهر حينا في تنورة رومانسية ومنفوخة من الخمسينات، وحينا في فساتين مستقيمة وقصيرة تعكس تحرر المرأة في الستينات أو في ألوان متوهجة من السبعينات تتمرد على المتعارف عليه، لكن دائما بلغة تعانق الحاضر وتشرئب إلى المستقبل وتذكرنا بأن راف سيمونز يفكر ويحسب بعقله أكثر ما يفكر بعاطفته. على العكس من تشكيلة فرساتشي التي لعبت على الحسية واستغلت الجسد إلى أقصى حد، كانت تشكيلته لديور تتمتع بجرأة مختلفة تماما، تكمن في أنها جديدة، لا تستكين للمضمون بقدر ما تستهدف جيل الشابات، قد لا تعرف الكثيرات منهن المغني ديفيد بوي، الذي صرح أنه كان مصدر إلهام له هنا، لكنهن لا يمانعن معانقة أسلوب الـ«ريترو» ما دام يخدمهن ويعبر عن طموحاتهن. وهذا ما قدمه لهن راف سيمونز بسخاء كيفا وعددا من خلال 55 قطعة بالتمام والكمال. في النهاية، تخرج من متحف رودان، بنفس الإحساس الذي دخلته به، وهو أن ديور تريد أن تمسك بمستقبل الـ«هوت كوتير» بكلتا يديها كما كانت منذ بدايتها. في الماضي مسكته بأمتار وأمتار من الأقمشة المترفة، والآن تمسكه بالبلاستيك والإكسسوارات الشهية.
يوم الثلاثاء صباحا، لم تتغير أحوال الطقس ولا الحراسة المشددة، لكن تغيرت الأجواء في «لوغران باليه» حيث تفتحت حديقة «شانيل» بالورود والأزهار، سواء في الأزياء أو في الديكور اللافت، الذي كان أول إشارة لما سيقترحه كارل لاغرفيلد لربيع وصيف 2015: باقة من الورود كمضاد لكآبة الحاضر وتأثيرات الأحداث الأخيرة. توسطت الساحة حديقة تفنن فيها مهندس أوريغامي ماهر، ويشرف على رعايتها 4 عمال، يسقيها أحدهم بطريقة تمثيلية - وما إن ينتهي من مهمته ويتوارى عن الأنظار وتتعالى الموسيقى، حتى تبدأ الأزهار والأشجار بالتفتح. يتشرنق بعضها إلى أعلى، ويتدلى بعضها الآخر إلى أسفل في حركات وكأنها رقصة باليه. لكن هذه الدراما لم تكن سوى المقدمة لقصة أكثر تشويقا حكى لنا فيها المصمم المخضرم كيف أن الهوت كوتير فن يولد من خيال خصب وتنفذه أنامل ناعمة تسهر ليالي طويلة على كل غرزة فيه، وعلى كل وردة تزين فستانا أو قبعة رأس. الصورة كانت قوية رغم أن الخطوط جاءت ناعمة وبسيطة، لأنها تعبق بنوع من الشاعرية والحيوية في الوقت ذاته، مما لا يدع أدنى شك في أن المصمم يخاطب بدوره، شريحة شابة من الزبونات العاشقات للهوت كوتير، ويقبلن عليها أيا كان الثمن، ما دامت مميزة وتحمل بصمات مصمم مبدع.
توالت الأزياء، على شكل مجموعات كل واحدة منها تحكي فصلا مختلفا، لكن دائما في نفس الإطار والمضمون. من الطبيعي أن تتمتع بعض هذه المجموعات بالأناقة أكثر من أخرى، ولعل أجملها هي تلك التي تتسم بالبساطة، أو ما يمكن وصفه بالسهل الممتنع الذي يتقنه كارل لاغرفيلد، إضافة إلى تلك التي طوع فيه الأقمشة القاسية، مثل تول الكرينولين، ليكسبها مرونة تجعلها تتحرك مع كل خطوة وكأنها حرير أو موسلين. إلى جانب القطع المفصلة بخطوط واضحة تذكرنا بأننا في حضرة قيصر الموضة، كانت هناك أيضا مجموعة منسابة تتمثل في قمصان طويلة من الموسلين تكاد تلامس الكاحل، استعمل معها تنورات بفتحات وأحزمة تركها مرتخية على الخصر وتتدلى منه بعض الشيء ليخلق إطلالة لامبالية أقرب إلى البوهيمية، يمكن أن تكون بديلا للتايورات المفصلة المكونة من جاكيتات قصيرة تكشف جزءا لا بأس به من البطن. طبعا يمكن ارتداؤها أيضا مع قمصان خفيفة بألوان باستيلية هادئة. في موسم يتبارى فيه كل المصممون على ترك بصمتهم وضمان مكانتهم،
ليس هناك أكثر من لاغرفيلد قادر على أن يجعل الهوت كوتير تبدو عصرية وشابة، وليس أدل على هذا من تايور التويد الذي ولد منذ عقود وعانقته سيدات قصر الإليزيه وجاكلين كينيدي وغيرهن من الأيقونات الكلاسيكيات، واقترحه هذه المرة بأطوال مختلفة وتصاميم ستروق لمثيلات ريهانا وبنات جيلها، وهنا تكمن عبقرية لاغرفيلد الذي لا يتوقف على إدهاشنا بطريقته في تجديد كل قطعة، مهما كان عمرها، وجعلها تبدو وكأنها ولدت للتو رغم أن الأساسيات لا تتغير أبدا.
ستيفان رولان، من جهته، قدم عرضا مميزا ومنعشا في مقر الإذاعة بالجادة الـ16 «ميزون دو لا راديو».. مميزا ومنعشا لأنه كان مختلفا يسلط الضوء عليه كمفكر وكفنان مثقف. في الموسم الماضي، قدم عرضه على شكل فيلم سينمائي مصور، وهذه المرة، استغنى عن الموسيقى وكل المؤثرات التي تصاحب عروض الأزياء وتضفي عليها الإبهار، واكتفى بأن تكون الخلفية حوارا إذاعيا يشرح فيه أسلوبه ونظرته إلى المرأة والتصميم. ولم لا ما دام مكان العرض هو مبنى إذاعة بالكامل؟. صرح ستيفان في السابق أنه يطمح إلى أن يتوسع إلى مجالات إبداعية أخرى، لأنه يؤمن بأن المصمم فنان، قد تختلف أدواته أو طريقته في استعمال هذه الأدوات للتعبير عن نفسه وخياله، لكن النتيجة دائما واحدة وهي أن يحترم موضوعه ويبرز جمالياته. طبعا موضوعه هو المرأة وأدواته هي الأقمشة، التي أعطى كل نوع منها معاني شاعرية عميقة.
فالكريب مثلا يعني الجمال اللامتناهي الذي ينسدل عن الجسم «لأنه ناعم مثل الزجاج» حسب قوله، لكن هذا الزجاج بكل نعومته وشفافيته تبلور في أشكال هندسية تُذكرنا بأن المصمم يعشق فن العمارة ويستقي منها الكثير في تصاميمه. كانت هناك أشكال هندسية تجريبية ظهرت في تنورات مستديرة تبدو وكأنها قبب، إلى جانب أخرى، كان الجديد فيها تلك الأشكال الضخمة والمستديرة التي تتميز بخفة غير معهودة ظهرت في فساتين بجوانب شفافة تكشف أكثر مما تخفي وأخرى بألوان الأبيض والبيج. كل هذه سيضيفها إلى أرشيفه الذي يتزايد موسم بعد موسم. اللافت أن اللون الأسود أيضا اكتسب خفة بفضل تصاميمه المنسابة، التي جاء بعضها تحية للمرأة الشرقية، بالنظر إلى أنها تستوحي خطوطها من العباءة. استهل عرضه بقطعة باللون الأبيض بياقة عالية وأكمام طويلة، تلتها أخرى بلون البيج المائل إلى الرمل ثم أخرى بلون الكمون وهكذا غاب الأحمر والألوان المتوهجة، وحلت محلها درجات هادئة قد يكون الهدف منها إبراز التصاميم، أو بالأحرى الأفكار التي يريد المصمم أن يشرحها ويوصلها إلى زبونته. السؤال الذي يطرح نفسه هو هل زبونته مستعدة لهضم هذا الطبق الفكري، لا سيما أن باقي المصممين يقدمون لها أطباقا أسهل لا تحتاج إلى تفكير من الماكياج إلى الحذاء؟. نفكر قليلا، ونتذكر تصريحات المصمم أن مهمته في الحياة هي أن يبرز جمال المرأة، وأن يحترم جسمها وعقلها، وبما أنه برهن أنه صادق فيما يقوله ولم يخذلها لحد الآن، فإنها ستظل تثق به سواء جنح إلى فن العمارة أو إلى فن الأوريغامي، وسواء قدم لها فستانا مطرزا بالمعادن أو تنورة مقببة شفافة أول لوحة فنية من قماش.
الحديث عن الأوريغامي يحملنا دائما إلى الشرق الأقصى، وهذا تحديدا ما قام به المخضرم جيورجيو أرماني في تشكيلته «بريفيه» لربيع وصيف 2015. كان عرضه درسا في التفصيل الذي لا يعلى عليه والتفاصيل التي يمكن أن تغير زيا بسيطا وترفعه إلى مستوى راق، حتى وإن كانت مجرد حزام يُربط على الخصر أو على الصدر. كان أيضا لوحة طبيعية تنافست فيها الأشجار مع النباتات والورود للحصول على مساحة غطت الكثير من القطع التي جاءت بألوان هادئة، تبلورت فيما بعد إلى تطريزات غنية تجسد نباتات وأوراق أغصان.
افتتح العرض بمجموعة من القطع المنفصلة شملت جاكيتات مفتوحة من دون أزرار من الحرير، تميل إلى الاتساع، بعضها مستوحى من الكيمونو، وبنطلونات أيضا واسعة وبأطوال قصيرة. بعدها قدم مجموعة خاصة بالكوكتيل والمساء والسهرة زادت بريقا وتفصيلا على الجسم، لكن مع ذلك ظلت تخاطب امرأة ناضجة إلى حد كبير، وكأن المصمم يرفض اللعب مع صغيرات السن ويفضل المرأة الثلاثينية وما فوق. لكن هذا لا يعني أن الفتاة الصغيرة لن تتفق معه أو تحترم رأيه، بل سنراها تقبل على الكثير من القطع في هذه التشكيلة، ستروضها وتجعلها تناسبها لا سيما تلك الموجهة لمناسبات المساء، والجاكيتات المطرزة والبنطلونات القصيرة، من دون أن ننسى الحزام العريض.
ليست من المبالغ فيه القول إن عرض أرماني «بريفيه»، مثل عرض شانيل، كان من أجمل العروض وربما أكثرها تسويقا أيضا، لأن المصمم يعرف زبونته جيدا ولا يخجل من أن يقدم لها ما تطمح له موسما بعد موسم من دون أن يخضها بالجديد فقط لأنه من المفترض أن يقدم جديدا. هذه الوصفة هي التي أوصلته إلى ما هو عليه اليوم، وستجعله يحتفل قريبا بمرور 40 عاما على تأسيس داره، أو على الأصح إمبراطوريته. لا يمكن الاستهانة بأهمية الموسيقى وتأثيراتها على النفس والمزاج، ناهيك بالتعبير عن الهوية الوطنية، وغني عن القول أن هذه الأهمية تزيد في عروض الأزياء، لأنها بهار ووسيلة ضرورية لا تزيد من حركة الأزياء فحسب، بل تزيد في تسريع دقات القلوب أيضا. هذا تماما ما أكده عرض إيلي صعب يوم أمس الأربعاء، عندما استعمل، ولأول مرة، إن لم تخطئ التقديرات، موسيقى عربية كخلفية لأزياء حالمة تعبق بالرقي والجمال.
في السابق كان المصمم اللبناني يحاول أن لا يربط نفسه بثقافة معينة، حتى يفرض نفسه في الساحة كمصمم عالمي، والآن بعد أن حقق هذه الغاية ولم تعد هناك حاجة تستدعي أن ينأى بنفسه عن ثقافته، ها هو يستعملها كوسيلة للمزيد من التميز عن غيره، خصوصا وأنه اختارها رحبانية بصوت فيروز.
هذه الأخيرة لم تكن العنصر اللبناني الوحيد الذي استعمله إيلي صعب بفخر في تشكيلته لربيع وصيف 2015، إذ عاد بذاكرته إلى بيروت عندما كان طفلا ثم صبيا وشابا، يحلم ويحلق بخياله إلى بعيد، لكن دائما يعود إلى بيروت الطفولة والشباب ليشحذ طاقته ويستعيد قوته. هذا ما أكده قائلا: «أعود إلى بيروت، ملهمتي، بمزيج من الحب والأمل والامتنان، إنها تمثل الحلم الذي يتوارى حينا خلف ضباب الخوف، ثم يعود بزخم أكبر ليفرض حضوره القوي الآسر، لتحتفل بالجمال والحب والحياة». يتذكر إيلي أمجاد هذه المدينة في الستينات والتسعينات «وتحضرني صور من ذاكرة المدينة عن الحفلات الاجتماعية الراقية، والاستعراضات العالمية والمهرجانات الفنية وطيف أمي بفستان حريري أسود مطبع بالخزامى مع تنورة واسعة».
وهذا ما ترجمه يوم أمس، في «باليه دو شايو» بحديقة غناء تحيطها أشجار وارفة وغنية بألوان الزيتون والسنديان، ولا يكسر سكينتها سوى زقزقات طيور لا هم لها سوى أن تعيش في سلام وطمأنينة. أما الأزياء فحدث ولا حرج، فقد جاءت في منتهى الفخامة والأناقة تتخللها لمسات عصرية واضحة. النظرة الأولى تقول إن المصمم لعب على مكمن قوته في فساتين سهرة طويلة وأخرى قصيرة مطرزة بسخاء، لكن سرعان ما تتغير هذه النظرة بعد توالي الفساتين، حيث تتضح فكرة إيلي صعب الاحتفالية ببيروت وتلك الرغبة المحمومة في الحياة والاستمتاع بكل ما تقدمه من مفاجآت، سواء ببريق الخرز والترتر، أو بالورود التي زرعها على مجموعة من الفساتين بأطوال مختلفة، يتهيأ لك أنها تحتضن أيضا فراشات تتطاير أجنحتها يمينا ويسارا مع كل حركة. رغم عودة المصمم إلى أمجاد ماضي بيروت، لم تكن هناك أي تصاميم «ريترو» بل العكس، كان لافتا أنه ضخها بجرعة عصرية قوية، حملت الحضور إلى عوالم بعيدة وسعيدة، وجعلتهم ينسون، ولو للحظات، الأخبار السياسية.



الأقمشة تبرز لاعباً أساسياً في أزياء المساء والسهرة هذا الموسم

الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
TT

الأقمشة تبرز لاعباً أساسياً في أزياء المساء والسهرة هذا الموسم

الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)

في عالم الموضة هناك حقائق ثابتة، واحدة منها أن حلول عام جديد يتطلب أزياء تعكس الأمنيات والآمال وتحتضن الجديد، وهذا يعني التخلص من أي شيء قديم لم يعد له مكان في حياتك أو في خزانتك، واستبدال كل ما يعكس الرغبة في التغيير به، وترقب ما هو آتٍ بإيجابية وتفاؤل.

جولة سريعة في أسواق الموضة والمحال الكبيرة تؤكد أن المسألة ليست تجارية فحسب. هي أيضاً متنفس لامرأة تأمل أن تطوي صفحة عام لم يكن على هواها.

اقترح المصمم رامي علي لربيع وصيف 2025 قطعاً متنوعة كان فيها التول أساسياً (رامي علي)

بالنسبة للبعض الآخر، فإن هذه المناسبة فرصتهن للتخفف من بعض القيود وتبني أسلوب مختلف عما تعودن عليه. المتحفظة التي تخاف من لفت الانتباه –مثلاً- يمكن أن تُدخِل بعض الترتر وأحجار الكريستال أو الألوان المتوهجة على أزيائها أو إكسسواراتها، بينما تستكشف الجريئة جانبها الهادئ، حتى تخلق توازناً يشمل مظهرها الخارجي وحياتها في الوقت ذاته.

كل شيء جائز ومقبول. المهم بالنسبة لخبراء الموضة أن تختار قطعاً تتعدى المناسبة نفسها. ففي وقت يعاني فيه كثير من الناس من وطأة الغلاء المعيشي، فإن الأزياء التي تميل إلى الجرأة والحداثة اللافتة لا تدوم لأكثر من موسم. إن لم تُصب بالملل، يصعب تكرارها إلا إذا كانت صاحبتها تتقن فنون التنسيق. من هذا المنظور، يُفضَّل الاستثمار في تصاميم عصرية من دون مبالغات، حتى يبقى ثمنها فيها.

مع أن المخمل لا يحتاج إلى إضافات فإن إيلي صعب تفنن في تطريزه لخريف وشتاء 2024 (إيلي صعب)

المصممون وبيوت الأزياء يبدأون بمغازلتها بكل البهارات المغرية، منذ بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول) تقريباً، تمهيداً لشهري نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول). فهم يعرفون أن قابليتها للتسوق تزيد في هذا التوقيت. ما يشفع لهم في سخائهم المبالغ فيه أحياناً، من ناحية الإغراق في كل ما يبرُق، أن اقتراحاتهم متنوعة وكثيرة، تتباين بين الفساتين المنسدلة أو الهندسية وبين القطع المنفصلة التي يمكن تنسيقها حسب الذوق الخاص، بما فيها التايورات المفصلة بسترات مستوحاة من التوكسيدو أو كنزات صوفية مطرزة.

بالنسبة للألوان، فإن الأسود يبقى سيد الألوان مهما تغيرت المواسم والفصول، يليه الأحمر العنابي، أحد أهم الألوان هذا الموسم، إضافة إلى ألوان المعادن، مثل الذهبي أو الفضي.

المخمل كان قوياً في عرض إيلي صعب لخريف وشتاء 2024... قدمه في فساتين وكابات للرجل والمرأة (إيلي صعب)

ضمن هذه الخلطة المثيرة من الألوان والتصاميم، تبرز الأقمشة عنصراً أساسياً. فكما الفصول والمناسبات تتغير، كذلك الأقمشة التي تتباين بين الصوف والجلد اللذين دخلا مناسبات السهرة والمساء، بعد أن خضعا لتقنيات متطورة جعلتهما بملمس الحرير وخفته، وبين أقمشة أخرى أكثر التصاقاً بالأفراح والاحتفالات المسائية تاريخياً، مثل التول والموسلين والحرير والمخمل والبروكار. التول والمخمل تحديداً يُسجِّلان في المواسم الأخيرة حضوراً لافتاً، سواء استُعمل كل واحد منهما وحده، أو مُزجا بعضهما ببعض. الفكرة هنا هي اللعب على السميك والشفاف، وإن أتقن المصممون فنون التمويه على شفافية التول، باستعماله في كشاكش كثيرة، أو كأرضية يطرزون عليها وروداً وفراشات.

التول:

التول كما ظهر في تشكيلة المصمم رامي علي لربيع وصيف 2025 (رامي علي)

لا يختلف اثنان على أنه من الأقمشة التي تصرخ بالأنوثة، والأكثر ارتباطاً بالأفراح والليالي الملاح. ظل طويلاً لصيقاً بفساتين الزفاف والطرحات وبأزياء راقصات الباليه، إلا أنه الآن يرتبط بكل ما هو رومانسي وأثيري.

شهد هذا القماش قوته في عروض الأزياء في عام 2018، على يد مصممين من أمثال: إيلي صعب، وجيامباتيستا فالي، وسيمون روشا، وهلم جرا، من أسماء بيوت الأزياء الكبيرة. لكن قبل هذا التاريخ، اكتسب التول شعبية لا يستهان بها في القرنين التاسع عشر والعشرين، لعدد من الأسباب مهَّدت اختراقه عالم الموضة المعاصرة، على رأسها ظهور النجمة الراحلة غرايس كيلي بفستان بتنورة مستديرة من التول، في فيلم «النافذة الخلفية» الصادر في عام 1954، شد الانتباه ونال الإعجاب. طبقاته المتعددة موَّهت على شفافيته وأخفت الكثير، وفي الوقت ذاته سلَّطت الضوء على نعومته وأنوثته.

التول حاضر دائماً في تشكيلات المصمم إيلي صعب خصوصاً في خط الـ«هوت كوتور» (إيلي صعب)

منذ ذلك الحين تفتحت عيون صناع الموضة عليه أكثر، لتزيد بعد صدور السلسلة التلفزيونية الناجحة «سيكس أند ذي سيتي» بعد ظهور «كاري برادشو»، الشخصية التي أدتها الممثلة سارة جيسيكا باركر، بتنورة بكشاكش وهي تتجول بها في شوارع نيويورك في عز النهار. كان هذا هو أول خروج مهم لها من المناسبات المسائية المهمة. كانت إطلالة مثيرة وأيقونية شجعت المصممين على إدخاله في تصاميمهم بجرأة أكبر. حتى المصمم جيامباتيستا فالي الذي يمكن وصفه بملك التول، أدخله في أزياء النهار في تشكيلته من خط الـ«هوت كوتور» لعام 2015.

إطلالة من خط الـ«كروز» لدار «ديور» استعملت فيها ماريا غراتزيا تشيوري التول كأرضية طرزتها بالورود (ديور)

ما حققه من نجاح جعل بقية المصممين يحذون حذوه، بمن فيهم ماريا غراتزيا تشيوري، مصممة دار «ديور» التي ما إن دخلت الدار بوصفها أول مصممة من الجنس اللطيف في عام 2016، حتى بدأت تنثره يميناً وشمالاً. تارة في فساتين طويلة، وتارة في تنورات شفافة. استعملته بسخاء وهي ترفع شعار النسوية وليس الأنوثة. كان هدفها استقطاب جيل الشابات. منحتهن اقتراحات مبتكرة عن كيفية تنسيقه مع قطع «سبور» ونجحت فعلاً في استقطابهن.

المخمل

إطلالة من خط الـ«كروز» لدار «ديور» اجتمع فيها المخمل والتول معاً (ديور)

كما خرج التول من عباءة الأعراس والمناسبات الكبيرة، كذلك المخمل خرج عن طوع الطبقات المخملية إلى شوارع الموضة وزبائن من كل الفئات.

منذ فترة وهو يغازل الموضة العصرية. في العام الماضي، اقترحه كثير من المصممين في قطع خطفت الأضواء من أقمشة أخرى. بملمسه الناعم وانسداله وألوانه الغنية، أصبح خير رفيق للمرأة في الأوقات التي تحتاج فيها إلى الدفء والأناقة. فهو حتى الآن أفضل ما يناسب الأمسيات الشتوية في أوروبا وأميركا، وحالياً يناسب حتى منطقة الشرق الأوسط، لما اكتسبه من مرونة وخفة. أما من الناحية الجمالية، فهو يخلق تماوجاً وانعكاسات ضوئية رائعة مع كل حركة أو خطوة.

تشرح الدكتورة كيمبرلي كريسمان كامبل، وهي مؤرخة موضة، أنه «كان واحداً من أغلى الأنسجة تاريخياً، إلى حد أن قوانين صارمة نُصَّت لمنع الطبقات الوسطى والمتدنية من استعماله في القرون الوسطى». ظل لقرون حكراً على الطبقات المخملية والأثرياء، ولم يُتخفف من هذه القوانين إلا بعد الثورة الصناعية. ورغم ذلك بقي محافظاً على إيحاءاته النخبوية حتى السبعينات من القرن الماضي. كانت هذه هي الحقبة التي شهدت انتشاره بين الهيبيز والمغنين، ومنهم تسلل إلى ثقافة الشارع.

يأتي المخمل بألوان غنية تعكس الضوء وهذه واحدة من ميزاته الكثيرة (إيلي صعب)

أما نهضته الذهبية الأخيرة فيعيدها الخبراء إلى جائحة «كورونا»، وما ولَّدته من رغبة في كل ما يمنح الراحة. في عام 2020 تفوَّق بمرونته وما يمنحه من إحساس بالفخامة والأناقة على بقية الأنسجة، وكان الأكثر استعمالاً في الأزياء المنزلية التي يمكن استعمالها أيضاً في المشاوير العادية. الآن هو بخفة الريش، وأكثر نعومة وانسدالاً بفضل التقنيات الحديثة، وهو ما جعل كثيراً من المصممين يسهبون فيه في تشكيلاتهم لخريف وشتاء 2024، مثل إيلي صعب الذي طوعه في فساتين و«كابات» فخمة طرَّز بعضها لمزيد من الفخامة.

من اقتراحات «سكاباريللي» (سكاباريللي)

أما «بالمان» وبرابال غورانغ و«موغلر» و«سكاباريللي» وغيرهم كُثر، فبرهنوا على أن تنسيق جاكيت من المخمل مع بنطلون جينز وقميص من الحرير، يضخه بحداثة وديناميكية لا مثيل لها، وبان جاكيت، أو سترة مستوحاة من التوكسيدو، مع بنطلون كلاسيكي بسيط، يمكن أن ترتقي بالإطلالة تماماً وتنقلها إلى أي مناسبة مهمة. الشرط الوحيد أن يكون بنوعية جيدة حتى لا يسقط في خانة الابتذال.