عن مبدأ التجانس في الأدب

نوفيلا «بارتبلي النسَّاخ» لهرمان ميلفل مثالاً

عن مبدأ التجانس في الأدب
TT

عن مبدأ التجانس في الأدب

عن مبدأ التجانس في الأدب

في «ألف ليلة»، يقوم السندباد البحري بأولى رحلاته، وتغرق سفينته، لكنه ينجو بأعجوبة، ويعود رابحاً إلى بغداد، بعد أن يمر بسلسلة من الأهوال. يقيم بين أهله آمناً لفترة، ثم تناديه المغامرة، فيعود إلى السفر مرة أخرى، ويستمر هذا التتابع حتى سبع رحلات، أي سبع دورات من فقدان الأمان والعودة إليه. بعد ذلك، اكتفى من السفر، وتفرغ للسهر، مستعيداً حكايات أسفاره السبعة، في كل ليلة يهز سلام مستمعيه بإعادة تصوير المغامرات الخطرة، ثم يعيد إليهم سلامهم بخروجه سالماً من كل مغامرة. وهذه إحدى وظائف الأدب الأساسية التي لا يستطيع النص أن يؤديها إلا إذا كان مقنعاً.
تحتاج فنتازيا السندباد البحري، والفنتازيا عموماً، جهداً مضاعفاً للإقناع، لأنها وهم بشكل شبه مطلق، لكن كل الروايات وهم من حيث المبدأ. بين الرواية والواقع مسافة تطول أو تقصر، وعلى الروائي أن يوهم القارئ بأن عمله يشبه الواقع، وشخصياته تشبه بشراً حقيقيين. ويتحمل مبدأ الانسجام بين عناصر العمل العبء الأكبر في مسؤولية إقناع القارئ. وهذا هو المبدأ الذي أراد إيتالو كالفينو أن يناقشه، دون أن يمهله القدر.
ترجم محمد الأسعد مبادئ كالفينو الشهيرة تحت عنوان «ست وصايا للألفية القادمة»، ضمن سلسلة «إبداعات عالمية - الكويت 1999»، وترجمها محمد مخطاري «ستة مقترحات للألفية الجديدة»، ضمن «منشورات جامعة محمد الخامس أكدال 2008»، وهي في الحقيقة ست من فضائل الكتابة الرشيقة في كل زمان، أضاء عليها كالفينو عندما ربطها بالمستقبل. وفي مقدمة الكتاب، تقول إيستر (أرملته) إنه كان قد أخبرها بأن لديه أفكاراً لثماني محاضرات على الأقل ليلقيها في جامعة هارفارد، ضمن برنامج «المحاضرات الشعرية لشارلز إليوت نورتن» في الموسم الجامعي (1985-1986)، لكن أفكاره كانت واضحة بصدد ستة مقترحات أساسية، كتب خمسة منها قبل السفر: الخفة، والسرعة، والدقة، والرؤية، والتعدد. وترك المقترح السادس «الاتساق» مجرد عنوان، وكان ينوي أن يكتبه في أثناء وجوده في هارفارد، لكنه مات دون أن يكتبه. وكل ما تعرفه أنه كان ينوي اتخاذ نوفيلا هرمان ميلفل «بارتبلي النسَّاخ» (Bartleby the Scrivener) مثالاً رئيسياً في تلك المحاضرة.
خلقت مقدمة إيستر الفضول لمحاولة استكشاف الانسجام الذي رآه كالفينو في «بارتبلي»، تلك النوفيلا المتدفقة بانسياب ووضوح نقطة ماء تمضي على سطح بللور مائل (ترجمتها إلى العربية زوينة آل تويّه). ويتولى السرد محام يدير مكتب توثيق عقود، يروي عن نفسه وعن الآخرين. مبدئياً، المحامي منسجم مع المهنة التي اختارها؛ لم يطمح للترافع في قضية أمام المحاكم تجعل منه بطلاً شعبياً، مفضلاً مهنة تدر دخلاً منتظماً معقولاً.
يعمل لديه ناسخان، يُلقبهما بلقبين منسجمين مع شخصيتهما: تريكي (لأن وجهه يصطبغ بالأحمر عندما يغضب مثل الديك التركي) ونيبرز (لأنه يصر على أسنانه كالكماشة عندما يغضب)، وكلاهما يتغير مزاجه في توقيت مختلف. تريكي يغضب بعد الغداء بسبب الأفراط في الشراب، ونيبرز يصل إلى المكتب غاضباً في الصباح لأنه يعاني عسر الهضم، ومع تقدم الوقت ترتاح أمعاؤه فيهدأ. وهناك عامل خدمات في المكتب اسمه «جنجر نت» حاز لقبه من كعك الزنجبيل والبندق الذي يشتريه يومياً للعاملين في المكتب.
تمضي الحياة متناغمة: عامل الخدمة ماهر مطيع، والموظفان يغضبان ويهدآن بالتناوب، وهكذا يجد المحامي دائماً من ينجز الأعمال المهمة بحرص في أي وقت. الموظفون يقدرون رب العمل، ويخاطبونه بالتبجيل اللائق، فيعوضونه عن خمول ذكره في المدينة.
وفي يوم من الأيام، يظهر «بارتبلي»، شاب نحيل جاء يطلب عملاً. تعاطف معه المحامي، وأفسح له زاوية من غرفته. بدأ الشاب يعمل بدأب، لا يخرج للغداء في مطعم أبداً، ولا يدخل في نقاش مطلقاً، لكنه عنيد لا يعترف بقواعد. يطلب منه المحامي أن يجلس أمامه ليراجع معه ما نسخه، فيجيبه: «أُفضِّل ألا»؛ ينطق بجملته الناقصة قاطعة الرفض، ويعود إلى ركنه بثبات.
مع الوقت، زادت الأشياء التي يُفضِّل بارتبلي «ألا يفعلها»، واستمرت انسحابات صاحب المكتب من أمامه، مرة بدافع الشفقة عليه لأنه حزين، ومرة ترفعاً عن استخدام سلطته ضد شخص ضعيف، لكن اختلال التوازن بينهما أصبح مثيراً للشبهة أمام الموظفين وعملاء المكتب.
وذات يوم عطلة، قرر المحامي المرور على المكتب، حاول أن يضع مفتاحه في الباب فلم يستطع، وتأكد أن هناك مفتاحاً في الجهة الأخرى. طرق الباب، ففتح بارتبلي في ملابسه الداخلية، وطلب بثقة من صاحب المكتب أن يتمشى قليلاً حول المبنى إلى أن يرتدي ملابس ملائمة ويسمح له بالدخول.
لم يعرف المحامي متى بدأ بارتبلي استخدام المكتب سكناً خاصاً له بعد انصراف العاملين، ولا كيف يفعل ذلك دون أن يظهر أثر لممتلكاته الشخصية في أثناء النهار. طلب منه أن يبحث عن سكن خاص ينتقل إليه، فلم يستجب بارتبلي، بل بدأ «يُفضِّل ألا» يعمل شيئاً بالمطلق!
بدا في وقاحة قوة احتلال صامتة، واستمر هذا الوضع طويلاً بفضل انسجام برود بارتبلي مع السمات النفسية للمحامي: الهادئة العطوفة الجبانة، وكذلك بفضل التوازن المزاجي بين تريكي ونيبرز. ففي أي وقت يستشيرهما المحامي في أمر بارتبلي، يكون هناك واحد رائق المزاج يطلب منح الشاب المسكين فرصة أخرى!
وعندما أصبح وجوده فوق الاحتمال، قرر المحامي أن ينقل المكتب إلى مبنى آخر، وأحس بالسعادة لأن بارتبلي فضَّل ألا ينتقل، وبقي في مكانه ينغص بوجوده الصامت حياة المستأجرين الجدد الذين طردوه، فاستوطن سلم العمارة، فتكاتف السكان وأودعوه السجن بتهمة التشرد.
ظل المحامي مشدوداً إلى لغز بارتبلي، يشعر بالأسى تجاهه، فزاره في السجن واتفق مع متعهد الأغذية الذي يتولى تحسين وجبات السجناء على أن يعتني ببارتبلي، ودفع له النقود اللازمة، لكن بارتبلي فضَّل «ألا يأكل» حتى مات. بعد ذلك، سنكتشف أن بارتبلي الذي أخل بانسجام المكتب، وبانسجام المحامي مع حياته، كان يعمل قبل ذلك بالبريد، كاتباً في مكتب «الرسائل الميتة»، وهي الرسائل التي لا يُستدل على العنوان المرسلة إليه، وتقبع في تلك المقبرة. هكذا، نعرف من أين أتى بارتبلي بيأسه وعدميته.
الانسجام مبدأ عام في الحياة من أتفه الأشياء لأعظمها؛ ثلاثة أرباع الثرثرة في حفل زفاف تنطلق من مبدأ الانسجام أو عدمه: انسجام العروس مع العريس، انسجام الموسيقى مع طبقة المدعوين، انسجام الطعام، انسجام كل شخص مع ما يرتديه، انسجام امرأة مع مرافقها.
هز بارتبلي انسجام طاقم المكتب عندما ظهر، وهز الانسجام النفسي للمحامي عندما أصرَّ على الموت، وهز انسجامنا نحن القراء في نهاية النوفيلا. وقد كانت متابعة عدم الانسجام في مكتب صغير أهون علينا من اكتشاف هوة العدم المؤسفة. تختلف السينما قليلاً عن الأدب؛ لا تغامر بإيذاء المتلقي إلا نادراً، لأنها فن يدفع الجمهور تكلفته مباشرة، لذلك تُفضِّل في الغالب إعادة الانسجام.
من حسن الحظ أن كل عنصر في الكتابة يعزز نقيضه، ويتعزز به. ينشأ تماسك العمل الفني وانسجامه النهائي من الاختلاف. الناعم بحاجة إلى الخشن، والصلب بحاجة إلى الليِّن. هذا هو القانون الموحد للبناء في كل الفنون. في رحلة السندباد الثالثة يواجه المسافرون الذين تحطمت سفينتهم خطر الأقزام على الجزيرة في الصباح، ويجدون قصراً يحتمون به في الليل، فينزل لهم من سقفه وحش عملاق.
ويمكن لعدم الانسجام الواضح جداً أن يصنع عظمة رواية، وأن يرسم ملامح شخص لا يُنسى. كل شخصيات دوستويفسكي تعاني عرضاً أو أكثر من أعراض عدم الانسجام في داخلها، ومع المجتمع.
وفي كثير من الثقافات، نجد نكتة بطلها نموذج السكير غير المتناغم مع السكر الذي يمعن في الشرب كي ينسى عار أنه سكِّير. وقد صنع دوستويفسكي من هذه النكتة أبطالاً ميلودراميين، مثل مارميلادوف في «الجريمة والعقاب». ومثله، صنع أنطوان دو سانت إكزوبري سكِّيره في «الأمير الصغير»، وجعل الصبي يتعجب منه ومن غرابات الراشدين! لكن راسكولنيكوف وإيفان كارامازوف هما أكثر شخصيات دوستويفسكي ألماً ولمعاناً بسبب عدم انسجامها.
لنفكر لماذا يعيش «السيد أحمد عبد الجواد»، بطل ثلاثية محفوظ، في وجداننا، ولماذا ارتفع ليصبح واحداً من النماذج الأصلية في تاريخ الرواية، رغم أنه لم يرتكب جريمة بشعة مثل راسكولنيكوف، ولم يصل مجونه إلى مستوى مجون زوربا اليوناني؟ سره في عدم الانسجام بين حياته العلنية وحياته السرية، وقد تكفل حزنه على استشهاد ابنه في ثورة 1919 بتحقيق انسجامه لسنوات، ثم حققت أمراض الشيخوخة انسجامه النهائي.
وهل كانت إيما بوفاري تشكو من شيء سوى عدم الانسجام مع شارل، الزوج المتفاني، الذي أثبت أنه أكثر الرجال قدرة على الحب والغفران؟



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.