القطاع المنكوب

الغزاويون ودعوا الحرب على وعود وردية.. ووجدوا أنفسهم من حصار إلى حصار

القطاع المنكوب
TT

القطاع المنكوب

القطاع المنكوب

لا إخوة لك يا أخي..
لا أصدقاء يا صديقي..
لا الماء عندك.. لا الدواء.. ولا السماء..
ولا الدماء.. ولا الشراع..
ولا الأمام ولا الوراء..
من قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش.. تعبر عن حال الغزيين في القطاع «المنكوب» بالأزمات المتتالية، والذين عبر كثير منهم عن الواقع بقوله «حياة من قلة الموت». ويمكن وصف حياة الغزيين في هذه الأيام بالحياة «البدائية» وهم يجربون كل أنواع الحرمان، من الكهرباء والماء والوقود والغاز والرواتب وأشياء كثيرة أخرى.
كان صباح باسل سالم 29 عاما من سكان بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، يوم الثلاثاء، مثل غيره من الصباحات. لكنه أفاق على خبر أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) أوقفت المساعدات للمتضررين.
لم يملك باسل سوى أن يضحك وهو لا يجد أيضا في منزله كهرباء أو ماء أو غازا ووقودا كافيا. ربما كان يضحك من فرط الخيبات المتتالية، ولأنه لا يجد أي أفق لحل كل هذه المشكلات.
وقال باسل لـ«الشرق الأوسط»، «ما أستطيع أن أقوله إن الحياة في غزة جهنمية ومأساوية وأزماتها تزيد مع كل يوم يطل علينا». وأضاف «حقيقة لا نعرف كيف وإلى متى سنتحمل كل هذا الأذى الذي يشل حياتنا». وتابع: «الأزمات كبيرة وتزداد، من جهة الكهرباء ومن جهة المياه وليس بأقل من ذلك أزمات الصحة والتعليم والمعابر والغاز وغيرها».
ويقول باسل «منذ أكثر من 7 أعوام ونحن نعيش بلا كهرباء فلا نراها في منازلنا سوى 6 ساعات وفي أحسن الأحوال 8 وفي أغلب الأحوال تصل إلى 4 ساعات فقط وكل ذلك يؤثر على وصول المياه لمنازلنا ما يضطرنا لشراء وقود لاستخدامه لتشغيل مولدات الكهرباء.. إنها معاناة مركبة».
ويعمل باسل في إحدى الدوائر الحكومية، وطبعا مثل غيره كثيرين لم يتلق راتبه منذ أشهر طويلة، وهو ما يجعل من حياته مأساوية بامتياز إذ لا يجد في معظم الوقت ما يسد به رمق عائلته. وقال باسل إنه «يشعر بأنه يسير في نفق مظلم كبير لا يرى نهايته». وأردف «حياتنا هنا تسير بالتصبير».
يحتاج قطاع غزة يوميا إلى أكثر من 600 كيلو وات من الكهرباء ولا يتم توفير أكثر من 250 كيلو فقط نتيجة نقص الوقود وقدرات الإنتاج، كما يحتاج إلى 500 طن من الغاز ويدخله من 200 طن أقصى حد، ويحتاج إلى 700 ألف لتر وقود، وتتأثر الكميات التي تدخله بالوضع السياسي والأمني إذ تتحكم إسرائيل بعمل المعابر.
وطبعا ليس هناك من يملك عصا سحرية أو عادية أو حتى يضع خطة قصيرة الأمد أو بعيدة لحل كل هذه الإشكاليات الحياتية والتي يضاف إليها مشكلات سيادية وأمنية.
تقول حكومة التوافق التي يفترض أنها تحكم قطاع غزة بعد اتفاق المصالحة بين فتح وحماس، إن «الحلول تكمن في تمكينها من الحكم وإن حماس لا تسمح لها بذلك»، وتقول حماس إن «حكومة الوفاق تبتز القطاع ولا تعيره أي اهتمام».
وأعلنت حكومة الوفاق، بصراحة، أنها لن تكون قادرة على حل مشكلات قطاع غزة من دون تسلم مهامها وبسط سيطرتها عليه، فيما ردت حركة حماس باتهامها بـ«الانقلاب» على اتفاق المصالحة الفلسطينية.
وقالت الحكومة في بيان إنها «لن تتمكن من القيام بدورها كاملا في قطاع غزة بسبب استمرار وجود بعض العوائق أمام عملها»، وأضافت أنها «لن تستطيع القيام بدورها دون تمكينها من أداء مهامها كاملة في غزة، دونما عوائق وعراقيل يضعها أي فصيل».
وذكرت الحكومة أنها ستعمل، حال تمكينها من القيام بدورها ومهامها ومسؤولياتها في غزة، على معالجة كل المشكلات الناجمة عن الانقسام «وفقا لخطط الحكومة وإمكانياتها، بما في ذلك مشكلة الموظفين الذين عينتهم حكومة حماس المقالة بعد 14 يونيو (حزيران) عام 2007». مشيرة إلى أنه في حال تمكين الحكومة من تسلم المعابر دون منازع، فإنها ستتمكن من فرض حضورها وسيطرتها، وتحمل مسؤولياتها تجاه عملية إعادة الإعمار، وهو ما سيشجع الدول المانحة على الوفاء بالتزاماتها في مؤتمر القاهرة الخاص بإعادة الإعمار.
وأكدت الحكومة وجود «عوائق كثيرة» ما زالت تعترض عملها في غزة، وأهمها عدم قدرتها على تنفيذ قراراتها بسبب عدم وجود قوة أمنية مدنية تابعة لها، بالإضافة إلى مشكلات أخرى تخرج عن اختصاصات الحكومة، ومن أهمها قوى الأمن والقضاء والنيابة العامة. كما دعت الحكومة في بيانها إلى إيجاد الحلول الملائمة لها وفقا لاتفاق القاهرة، وحسب ما يتم الاتفاق بشأنه بين الفصائل في إطار استكمال عملية المصالحة وتوحيد المؤسسات غير الحكومية.
وردت حركة حماس على بيان الحكومة باتهامها بـ«الانقلاب» على اتفاق المصالحة الفلسطينية، مهددة بالبحث عن بدائل لهذه الحكومة.
وفيما تقول حماس إن «حكومة الوفاق هي المسؤولة عن القطاع، وإنها ستعطيها فرصة لتصويب الأوضاع فإنها تضع خططا لإدارة القطاع مستقبلا».
وتشكلت حكومة الوفاق مطلع يونيو الماضي بموجب تفاهمات بين حركتي فتح وحماس لإنهاء الانقسام الداخلي المستمر بين الضفة الغربية وقطاع غزة منذ منتصف عام 2007. غير أن الحكومة تواجه انتقادات مستمرة من قبل حركة حماس بدعوى أنها لم تعمل على توحيد المؤسسات مع القطاع، كما أنها لم تصرف موازنات تشغيلية ورواتب للموظفين بشكل منتظم.
وعقب الصحافي محمود أبو عواد قائلا: «بصراحة نحن لا نعرف من الذي يحكمنا الآن».
وأضاف لـ«الشرق الأوسط» «بشكل أدق إحنا مش فاهمين».
وثمة خلافات كبيرة بين حكومة الوفاق وحماس حول عمل رجال الأمن الوزارات وقرارات إدارية وقضائية ومالية.
وكثيرا ما يجد المواطن الغزي نفسه تائها بين تعليمات تصدر من رام الله وأخرى من غزة.
وقال أبو عواد «ما يعيشه الناس هنا أسوأ من الحصار».
وأضاف «لم يختبر الناس حياة أصعب على مدار عشرات السنوات الماضية».
ولا تتذكر ندى أبو شعبان (26 عاما) من سكان حي تل الهوى بمدينة غزة، أنها جربت أوضاعا أكثر قساوة مما تختبره الآن.
وقالت لـ«الشرق الأوسط» «أنا كسيدة بيت لا أستطيع تنفيذ كثير من الأعمال المنزلية بسبب أزمة الكهرباء ونواقص أخرى كثيرة».
وأضاف، «يسمح لنا بـ4 ساعات كهرباء ونصف جرة غاز كل شهر، ونصف راتب.. الحياة أصبحت لا تطاق ولا يمكن تحملها».
وتابعت، «زوجي موظف في السلطة الفلسطينية تقاضى هذا الشهر 60 في المائة من راتبه بمعدل 500 دولار فقط، دفعنا منها 250 دولارا إيجار بيت وبعض الفواتير وديون أخرى ولم يبق لنا إلا القليل ولا نعرف ماذا سيحدث بعد ذلك».
وأردفت «حقيقة لا نعرف أين نحن ذاهبون في هذه الحياة.. لهذه الأسباب كثير من أقربائنا حاولوا الهجرة وفقدنا بعضا منهم في عرض بحر المتوسط.. نحن هنا نعيش مخنوقين.. صاحب الوظيفة يشتكي وصاحب العمل الخاص يشتكي وصاحب بسطة الخضرة في السوق يشتكي، الكل يشتكي ولا أحد يحكم ويعالج».
وفيما تبدو السلطة من جهة وحماس من جهة ثانية عاجزتين عن حل مشكلات الناس، كان كثيرون من الذين تحولوا إلى لاجئين جدد بفعل الدمار الإسرائيلي في الحرب الأخيرة، يعيشون على مساعدات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا، ولكن يبدو أنهم مقبلون على معاناة أكبر.
وأعلنت الأونروا الثلاثاء أنها مضطرة لوقف تقديم المساعدات المالية للمدمرة بيوتهم أو بدل الإيجارات بسبب نقص التمويل.
وقالت الأونروا في بيان لها تلقت «الشرق الأوسط» نسخة منه «إنها توقف مضطرة تقديم المساعدات المالية للمتضررين من الحرب الأخيرة لإصلاح بيوتهم وأيضا بدل الإيجارات حيث إن أموالها نفدت تماما».
وأكدت الأونروا أنها حصلت على 135 مليون دولار فقط من أصل 724 مليون طلبتها أثناء مؤتمر الأعمار في القاهرة، موضحة أن التعهدات من مؤتمر الإعمار لم تصل حتى الآن في حين بلغ عدد البيوت المدمرة للاجئين الفلسطينيين 96 ألف بيت في غزة وأن الأونروا قدمت 77 مليون دولار لـ66 ألف أسرة حتى الآن لإصلاح منازلهم وكبدل للإيجارات.
وقال مدير عمليات الأونروا روبرت تيرنر: «إن المعاناة في غزة في هذا الشتاء مستمرة والناس لا تزال تنام بين الركام والأطفال يموتون من البرد»، مؤكدا أن تعهدات الدول المانحة في مؤتمر القاهرة لم تصل وهذا غير مقبول ومثير للإحباط.
وأضاف أنه «من غير الواضح لماذا لم تصل أموال الأعمار حتى الآن»، موضحا أن الأونروا التي تعتبر عامل استقرار في المنطقة في هذا الوقت الحرج تحذر من النتائج الخطيرة لهذا النقص الخطير في التمويل.
وتابع «المجتمع الدولي لا يستطيع توفير الحد الأدنى وعلى سبيل المثال إصلاح بيت في الشتاء أو رفع الحصار أو الوصول إلى الأسواق وحرية الحركة لسكان غزة».
وأردف «قلنا مسبقا إن الهدوء الحالي لن يستمر طويلا ونقول اليوم إن الهدوء في خطر».
وأكد تيرنر أن الأونروا بحاجة إلى 100 مليون دولار خلال الربع الحالي من هذا العام لإصلاح المنازل المدمرة ودفع بدل الإيجارات.
وعبر تيرنر عن القلق من أنه في حال عدم تمكنها من دفع تلك الأموال سيعود المهجرون إلى مراكز الإيواء التابعة لها مجددا.
ويفاقم قرار الأونروا من معاناة الغزيين ويزيد الضغط عليهم بشكل كبير.
ويعيش في مراكز الإيواء التابعة للأونرا حاليا عشرات آلاف من الفلسطينيين الذين تهدمت منازلهم بفعل العدوان الإسرائيلي الأخير، فيما تدفع الأونروا بدلات إيجار لعشرات آلاف آخرين فقدوا منازلهم.
وفورا عدت حماس قرار الأونروا بأنه صادم للغاية ومن شأنه مفاقمة معاناة غزة وتكريس لمأساة آلاف الأسر المشردة والمدمرة بيوتهم.
ودعا فوزي برهوم الناطق باسم حركة حماس في بيان، الأونروا أن تعي خطورة هذا القرار، وأن تستخدم كل صلاحياتها كمؤسسة دولية تعنى بشؤون اللاجئين في الضغط على الدول المانحة والمجتمع الدولي من أجل الوفاء بتعهداتهم من أجل إعمار القطاع.
واتهم برهوم «الرئيس محمود عباس أيضا يتحمل مسؤولية كبيرة عن هذه النتائج الخطيرة وعمل على منع وصول المساعدات وأموال الإعمار إلى مستحقيها».
وناشد برهوم كل الدول التي اجتمعت في شرم الشيخ بالعمل فورا على دفع جميع المستحقات المالية التي تعهدوا بها حتى يتم إنهاء معاناة سكان القطاع.
وعلميا لم تدفع الدول المانحة أي فلس بسبب عدم التوافق الفلسطيني الداخلي، ولأن الأموال كانت مرهونة باتفاق دائم مع إسرائيل وعودة السلطة إلى حكم القطاع. ولم يتحقق أي من هذين الشرطين. وفي هذا الوقت يستمر إغلاق معبر رفح مع مصر وهو بوابة الغزيين الوحيدة للعالم.
ويجد كثير من العائلات والطلبة والمرضى بأن حياتهم توقفت بسبب إغلاق المعبر.
كما تغلق إسرائيل معظم المعابر الأخرى وتتحكم في كل كبيرة وصغيرة، إضافة إلى سيطرتها على المياه الإقليمية.
ويمكن القول إن الغزيين يعيشون حصارين الآن، أحدهما خارجي والآخر داخلي.
وقال محمد الأطرش 33 عاما من سكان البريج وسط قطاع غزة «غزة من سيئ لأسوء، وفي كل يوم هناك أزمة جديدة».
وأضاف لـ«الشرق الأوسط» «أزمة كهرباء، أزمة معابر أزمة مياه أزمة وقود أزمة غاز أزمة رواتب أزمة سكن أزمة إعادة إعمار وأزمة أكبر بين فتح وحماس».
ووصف الأطرش الحياة في غزة بالصعبة، وقال إنه لا يرى في الأفق المنظور أي حلول ممكنة.
وأردف «الأزمات تتوالى وترتبط كل واحدة بالثانية، الوضع في غزة مثل أحجار الدومينو بالضبط، أي حجر يقع تقع باقي الحجار وهكذا في حلقة متكررة».

لكن ما الخيارات؟
حماس تقول إن على الحكومة تحمل مسؤولياتها وإنها سلمت الإدارة لها. والحكومة تقول إن حماس لم تمكنها من السيطرة على غزة وما زالت تحكم هناك عبر رجالاتها.
وتبدو خيارات الطرفين ضيقة وصعبة ومحدودة. إلا أن حماس تهدد يوميا بانفجار جديد. لكن يعتقد كثير من المراقبين أن خياراتها معدومة، إذ إن عودتها للحكم في غزة يشبه الانتحار وتفجير مواجهة جديدة مع إسرائيل انتحار حقيقي.
اما الناس، فإنهم لا يعرفون وليس لديهم أي أمل حقيقي بالتغيير.
وأغلب الظن أن فقدان الأمل هو الذي قاد يوسف أبو جامع، (50 عاما)، من سكان مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، إلى محاولة إحراق نفسه قبل أيام قليلة.
وحاول أبو جامع إحراق نفسه داخل مركز أحد مراكز الإيواء، التي يعيش فيها منذ هدم الجيش الإسرائيلي منزله، خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة.
وقال شهود عيان إن أبو جامع سكب وقودا على جسده وصعد إلى أحد الأماكن العالية ليهم بإحراق نفسه ومن ثم يلقيها، لكن تدخل أفراد من الشرطة، والدفاع المدني حال دون ذلك إذ سيطروا عليه ونقلوه إلى المستشفى.
وكأن قطاع غزة لم يكتف بكل هذه المآسي حتى يضاف إليها مشكلة الفلتان الأمني.
وخلال الشهور القليلة الماضية شهد القطاع مجموعة من التفجيرات لمنازل ومكاتب وخلافات وتبادل للنار ومظاهرات وقطع رواتب جديدة وإرسال رسائل تهديد لعشرات المسؤولين والقادة والاعتداء على بعضهم، على خلفية خلافات فصائلية وخلافات داخلية.
لم يكن هذا مطلقا ما حلم به الناس بعد حرب دامية استمرت 50 يوما اختبروا خلالها كل أنواع الموت والحرمان والخوف والألم. لقد وعدوهم بالحرية كاملة وميناء بحري ومطار دولي ووحدة وطنية وحكومة واحدة ودولة فلسطينية كاملة عاصمتها القدس على مرمى حجر، لكن ظل كل ذلك بالنسبة للذين صدقوه مجرد أحلام معلقة، فيما الحقيقة أنهم انتقلوا من حصار إلى حصارين.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».