القطاع المنكوب

الغزاويون ودعوا الحرب على وعود وردية.. ووجدوا أنفسهم من حصار إلى حصار

القطاع المنكوب
TT

القطاع المنكوب

القطاع المنكوب

لا إخوة لك يا أخي..
لا أصدقاء يا صديقي..
لا الماء عندك.. لا الدواء.. ولا السماء..
ولا الدماء.. ولا الشراع..
ولا الأمام ولا الوراء..
من قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش.. تعبر عن حال الغزيين في القطاع «المنكوب» بالأزمات المتتالية، والذين عبر كثير منهم عن الواقع بقوله «حياة من قلة الموت». ويمكن وصف حياة الغزيين في هذه الأيام بالحياة «البدائية» وهم يجربون كل أنواع الحرمان، من الكهرباء والماء والوقود والغاز والرواتب وأشياء كثيرة أخرى.
كان صباح باسل سالم 29 عاما من سكان بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، يوم الثلاثاء، مثل غيره من الصباحات. لكنه أفاق على خبر أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) أوقفت المساعدات للمتضررين.
لم يملك باسل سوى أن يضحك وهو لا يجد أيضا في منزله كهرباء أو ماء أو غازا ووقودا كافيا. ربما كان يضحك من فرط الخيبات المتتالية، ولأنه لا يجد أي أفق لحل كل هذه المشكلات.
وقال باسل لـ«الشرق الأوسط»، «ما أستطيع أن أقوله إن الحياة في غزة جهنمية ومأساوية وأزماتها تزيد مع كل يوم يطل علينا». وأضاف «حقيقة لا نعرف كيف وإلى متى سنتحمل كل هذا الأذى الذي يشل حياتنا». وتابع: «الأزمات كبيرة وتزداد، من جهة الكهرباء ومن جهة المياه وليس بأقل من ذلك أزمات الصحة والتعليم والمعابر والغاز وغيرها».
ويقول باسل «منذ أكثر من 7 أعوام ونحن نعيش بلا كهرباء فلا نراها في منازلنا سوى 6 ساعات وفي أحسن الأحوال 8 وفي أغلب الأحوال تصل إلى 4 ساعات فقط وكل ذلك يؤثر على وصول المياه لمنازلنا ما يضطرنا لشراء وقود لاستخدامه لتشغيل مولدات الكهرباء.. إنها معاناة مركبة».
ويعمل باسل في إحدى الدوائر الحكومية، وطبعا مثل غيره كثيرين لم يتلق راتبه منذ أشهر طويلة، وهو ما يجعل من حياته مأساوية بامتياز إذ لا يجد في معظم الوقت ما يسد به رمق عائلته. وقال باسل إنه «يشعر بأنه يسير في نفق مظلم كبير لا يرى نهايته». وأردف «حياتنا هنا تسير بالتصبير».
يحتاج قطاع غزة يوميا إلى أكثر من 600 كيلو وات من الكهرباء ولا يتم توفير أكثر من 250 كيلو فقط نتيجة نقص الوقود وقدرات الإنتاج، كما يحتاج إلى 500 طن من الغاز ويدخله من 200 طن أقصى حد، ويحتاج إلى 700 ألف لتر وقود، وتتأثر الكميات التي تدخله بالوضع السياسي والأمني إذ تتحكم إسرائيل بعمل المعابر.
وطبعا ليس هناك من يملك عصا سحرية أو عادية أو حتى يضع خطة قصيرة الأمد أو بعيدة لحل كل هذه الإشكاليات الحياتية والتي يضاف إليها مشكلات سيادية وأمنية.
تقول حكومة التوافق التي يفترض أنها تحكم قطاع غزة بعد اتفاق المصالحة بين فتح وحماس، إن «الحلول تكمن في تمكينها من الحكم وإن حماس لا تسمح لها بذلك»، وتقول حماس إن «حكومة الوفاق تبتز القطاع ولا تعيره أي اهتمام».
وأعلنت حكومة الوفاق، بصراحة، أنها لن تكون قادرة على حل مشكلات قطاع غزة من دون تسلم مهامها وبسط سيطرتها عليه، فيما ردت حركة حماس باتهامها بـ«الانقلاب» على اتفاق المصالحة الفلسطينية.
وقالت الحكومة في بيان إنها «لن تتمكن من القيام بدورها كاملا في قطاع غزة بسبب استمرار وجود بعض العوائق أمام عملها»، وأضافت أنها «لن تستطيع القيام بدورها دون تمكينها من أداء مهامها كاملة في غزة، دونما عوائق وعراقيل يضعها أي فصيل».
وذكرت الحكومة أنها ستعمل، حال تمكينها من القيام بدورها ومهامها ومسؤولياتها في غزة، على معالجة كل المشكلات الناجمة عن الانقسام «وفقا لخطط الحكومة وإمكانياتها، بما في ذلك مشكلة الموظفين الذين عينتهم حكومة حماس المقالة بعد 14 يونيو (حزيران) عام 2007». مشيرة إلى أنه في حال تمكين الحكومة من تسلم المعابر دون منازع، فإنها ستتمكن من فرض حضورها وسيطرتها، وتحمل مسؤولياتها تجاه عملية إعادة الإعمار، وهو ما سيشجع الدول المانحة على الوفاء بالتزاماتها في مؤتمر القاهرة الخاص بإعادة الإعمار.
وأكدت الحكومة وجود «عوائق كثيرة» ما زالت تعترض عملها في غزة، وأهمها عدم قدرتها على تنفيذ قراراتها بسبب عدم وجود قوة أمنية مدنية تابعة لها، بالإضافة إلى مشكلات أخرى تخرج عن اختصاصات الحكومة، ومن أهمها قوى الأمن والقضاء والنيابة العامة. كما دعت الحكومة في بيانها إلى إيجاد الحلول الملائمة لها وفقا لاتفاق القاهرة، وحسب ما يتم الاتفاق بشأنه بين الفصائل في إطار استكمال عملية المصالحة وتوحيد المؤسسات غير الحكومية.
وردت حركة حماس على بيان الحكومة باتهامها بـ«الانقلاب» على اتفاق المصالحة الفلسطينية، مهددة بالبحث عن بدائل لهذه الحكومة.
وفيما تقول حماس إن «حكومة الوفاق هي المسؤولة عن القطاع، وإنها ستعطيها فرصة لتصويب الأوضاع فإنها تضع خططا لإدارة القطاع مستقبلا».
وتشكلت حكومة الوفاق مطلع يونيو الماضي بموجب تفاهمات بين حركتي فتح وحماس لإنهاء الانقسام الداخلي المستمر بين الضفة الغربية وقطاع غزة منذ منتصف عام 2007. غير أن الحكومة تواجه انتقادات مستمرة من قبل حركة حماس بدعوى أنها لم تعمل على توحيد المؤسسات مع القطاع، كما أنها لم تصرف موازنات تشغيلية ورواتب للموظفين بشكل منتظم.
وعقب الصحافي محمود أبو عواد قائلا: «بصراحة نحن لا نعرف من الذي يحكمنا الآن».
وأضاف لـ«الشرق الأوسط» «بشكل أدق إحنا مش فاهمين».
وثمة خلافات كبيرة بين حكومة الوفاق وحماس حول عمل رجال الأمن الوزارات وقرارات إدارية وقضائية ومالية.
وكثيرا ما يجد المواطن الغزي نفسه تائها بين تعليمات تصدر من رام الله وأخرى من غزة.
وقال أبو عواد «ما يعيشه الناس هنا أسوأ من الحصار».
وأضاف «لم يختبر الناس حياة أصعب على مدار عشرات السنوات الماضية».
ولا تتذكر ندى أبو شعبان (26 عاما) من سكان حي تل الهوى بمدينة غزة، أنها جربت أوضاعا أكثر قساوة مما تختبره الآن.
وقالت لـ«الشرق الأوسط» «أنا كسيدة بيت لا أستطيع تنفيذ كثير من الأعمال المنزلية بسبب أزمة الكهرباء ونواقص أخرى كثيرة».
وأضاف، «يسمح لنا بـ4 ساعات كهرباء ونصف جرة غاز كل شهر، ونصف راتب.. الحياة أصبحت لا تطاق ولا يمكن تحملها».
وتابعت، «زوجي موظف في السلطة الفلسطينية تقاضى هذا الشهر 60 في المائة من راتبه بمعدل 500 دولار فقط، دفعنا منها 250 دولارا إيجار بيت وبعض الفواتير وديون أخرى ولم يبق لنا إلا القليل ولا نعرف ماذا سيحدث بعد ذلك».
وأردفت «حقيقة لا نعرف أين نحن ذاهبون في هذه الحياة.. لهذه الأسباب كثير من أقربائنا حاولوا الهجرة وفقدنا بعضا منهم في عرض بحر المتوسط.. نحن هنا نعيش مخنوقين.. صاحب الوظيفة يشتكي وصاحب العمل الخاص يشتكي وصاحب بسطة الخضرة في السوق يشتكي، الكل يشتكي ولا أحد يحكم ويعالج».
وفيما تبدو السلطة من جهة وحماس من جهة ثانية عاجزتين عن حل مشكلات الناس، كان كثيرون من الذين تحولوا إلى لاجئين جدد بفعل الدمار الإسرائيلي في الحرب الأخيرة، يعيشون على مساعدات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا، ولكن يبدو أنهم مقبلون على معاناة أكبر.
وأعلنت الأونروا الثلاثاء أنها مضطرة لوقف تقديم المساعدات المالية للمدمرة بيوتهم أو بدل الإيجارات بسبب نقص التمويل.
وقالت الأونروا في بيان لها تلقت «الشرق الأوسط» نسخة منه «إنها توقف مضطرة تقديم المساعدات المالية للمتضررين من الحرب الأخيرة لإصلاح بيوتهم وأيضا بدل الإيجارات حيث إن أموالها نفدت تماما».
وأكدت الأونروا أنها حصلت على 135 مليون دولار فقط من أصل 724 مليون طلبتها أثناء مؤتمر الأعمار في القاهرة، موضحة أن التعهدات من مؤتمر الإعمار لم تصل حتى الآن في حين بلغ عدد البيوت المدمرة للاجئين الفلسطينيين 96 ألف بيت في غزة وأن الأونروا قدمت 77 مليون دولار لـ66 ألف أسرة حتى الآن لإصلاح منازلهم وكبدل للإيجارات.
وقال مدير عمليات الأونروا روبرت تيرنر: «إن المعاناة في غزة في هذا الشتاء مستمرة والناس لا تزال تنام بين الركام والأطفال يموتون من البرد»، مؤكدا أن تعهدات الدول المانحة في مؤتمر القاهرة لم تصل وهذا غير مقبول ومثير للإحباط.
وأضاف أنه «من غير الواضح لماذا لم تصل أموال الأعمار حتى الآن»، موضحا أن الأونروا التي تعتبر عامل استقرار في المنطقة في هذا الوقت الحرج تحذر من النتائج الخطيرة لهذا النقص الخطير في التمويل.
وتابع «المجتمع الدولي لا يستطيع توفير الحد الأدنى وعلى سبيل المثال إصلاح بيت في الشتاء أو رفع الحصار أو الوصول إلى الأسواق وحرية الحركة لسكان غزة».
وأردف «قلنا مسبقا إن الهدوء الحالي لن يستمر طويلا ونقول اليوم إن الهدوء في خطر».
وأكد تيرنر أن الأونروا بحاجة إلى 100 مليون دولار خلال الربع الحالي من هذا العام لإصلاح المنازل المدمرة ودفع بدل الإيجارات.
وعبر تيرنر عن القلق من أنه في حال عدم تمكنها من دفع تلك الأموال سيعود المهجرون إلى مراكز الإيواء التابعة لها مجددا.
ويفاقم قرار الأونروا من معاناة الغزيين ويزيد الضغط عليهم بشكل كبير.
ويعيش في مراكز الإيواء التابعة للأونرا حاليا عشرات آلاف من الفلسطينيين الذين تهدمت منازلهم بفعل العدوان الإسرائيلي الأخير، فيما تدفع الأونروا بدلات إيجار لعشرات آلاف آخرين فقدوا منازلهم.
وفورا عدت حماس قرار الأونروا بأنه صادم للغاية ومن شأنه مفاقمة معاناة غزة وتكريس لمأساة آلاف الأسر المشردة والمدمرة بيوتهم.
ودعا فوزي برهوم الناطق باسم حركة حماس في بيان، الأونروا أن تعي خطورة هذا القرار، وأن تستخدم كل صلاحياتها كمؤسسة دولية تعنى بشؤون اللاجئين في الضغط على الدول المانحة والمجتمع الدولي من أجل الوفاء بتعهداتهم من أجل إعمار القطاع.
واتهم برهوم «الرئيس محمود عباس أيضا يتحمل مسؤولية كبيرة عن هذه النتائج الخطيرة وعمل على منع وصول المساعدات وأموال الإعمار إلى مستحقيها».
وناشد برهوم كل الدول التي اجتمعت في شرم الشيخ بالعمل فورا على دفع جميع المستحقات المالية التي تعهدوا بها حتى يتم إنهاء معاناة سكان القطاع.
وعلميا لم تدفع الدول المانحة أي فلس بسبب عدم التوافق الفلسطيني الداخلي، ولأن الأموال كانت مرهونة باتفاق دائم مع إسرائيل وعودة السلطة إلى حكم القطاع. ولم يتحقق أي من هذين الشرطين. وفي هذا الوقت يستمر إغلاق معبر رفح مع مصر وهو بوابة الغزيين الوحيدة للعالم.
ويجد كثير من العائلات والطلبة والمرضى بأن حياتهم توقفت بسبب إغلاق المعبر.
كما تغلق إسرائيل معظم المعابر الأخرى وتتحكم في كل كبيرة وصغيرة، إضافة إلى سيطرتها على المياه الإقليمية.
ويمكن القول إن الغزيين يعيشون حصارين الآن، أحدهما خارجي والآخر داخلي.
وقال محمد الأطرش 33 عاما من سكان البريج وسط قطاع غزة «غزة من سيئ لأسوء، وفي كل يوم هناك أزمة جديدة».
وأضاف لـ«الشرق الأوسط» «أزمة كهرباء، أزمة معابر أزمة مياه أزمة وقود أزمة غاز أزمة رواتب أزمة سكن أزمة إعادة إعمار وأزمة أكبر بين فتح وحماس».
ووصف الأطرش الحياة في غزة بالصعبة، وقال إنه لا يرى في الأفق المنظور أي حلول ممكنة.
وأردف «الأزمات تتوالى وترتبط كل واحدة بالثانية، الوضع في غزة مثل أحجار الدومينو بالضبط، أي حجر يقع تقع باقي الحجار وهكذا في حلقة متكررة».

لكن ما الخيارات؟
حماس تقول إن على الحكومة تحمل مسؤولياتها وإنها سلمت الإدارة لها. والحكومة تقول إن حماس لم تمكنها من السيطرة على غزة وما زالت تحكم هناك عبر رجالاتها.
وتبدو خيارات الطرفين ضيقة وصعبة ومحدودة. إلا أن حماس تهدد يوميا بانفجار جديد. لكن يعتقد كثير من المراقبين أن خياراتها معدومة، إذ إن عودتها للحكم في غزة يشبه الانتحار وتفجير مواجهة جديدة مع إسرائيل انتحار حقيقي.
اما الناس، فإنهم لا يعرفون وليس لديهم أي أمل حقيقي بالتغيير.
وأغلب الظن أن فقدان الأمل هو الذي قاد يوسف أبو جامع، (50 عاما)، من سكان مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، إلى محاولة إحراق نفسه قبل أيام قليلة.
وحاول أبو جامع إحراق نفسه داخل مركز أحد مراكز الإيواء، التي يعيش فيها منذ هدم الجيش الإسرائيلي منزله، خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة.
وقال شهود عيان إن أبو جامع سكب وقودا على جسده وصعد إلى أحد الأماكن العالية ليهم بإحراق نفسه ومن ثم يلقيها، لكن تدخل أفراد من الشرطة، والدفاع المدني حال دون ذلك إذ سيطروا عليه ونقلوه إلى المستشفى.
وكأن قطاع غزة لم يكتف بكل هذه المآسي حتى يضاف إليها مشكلة الفلتان الأمني.
وخلال الشهور القليلة الماضية شهد القطاع مجموعة من التفجيرات لمنازل ومكاتب وخلافات وتبادل للنار ومظاهرات وقطع رواتب جديدة وإرسال رسائل تهديد لعشرات المسؤولين والقادة والاعتداء على بعضهم، على خلفية خلافات فصائلية وخلافات داخلية.
لم يكن هذا مطلقا ما حلم به الناس بعد حرب دامية استمرت 50 يوما اختبروا خلالها كل أنواع الموت والحرمان والخوف والألم. لقد وعدوهم بالحرية كاملة وميناء بحري ومطار دولي ووحدة وطنية وحكومة واحدة ودولة فلسطينية كاملة عاصمتها القدس على مرمى حجر، لكن ظل كل ذلك بالنسبة للذين صدقوه مجرد أحلام معلقة، فيما الحقيقة أنهم انتقلوا من حصار إلى حصارين.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.