صورة شاعر... ذكرى قضية

محمود درويش في مصر

المؤتمر الصحافي لدرويش بعد وصوله إلى القاهرة عام 1971
المؤتمر الصحافي لدرويش بعد وصوله إلى القاهرة عام 1971
TT

صورة شاعر... ذكرى قضية

المؤتمر الصحافي لدرويش بعد وصوله إلى القاهرة عام 1971
المؤتمر الصحافي لدرويش بعد وصوله إلى القاهرة عام 1971

ليست القاهرة بالمكان الممتع لنجوم الشِّعر. وأفترض أن العيب ليس في المدينة أو في الشاعر النجم، بل في اجتماعهما!
لا تلبّي القاهرة فكرة الشاعر عن نفسه أو تحقق له صورته التي يراها في المدن الأخرى؛ فبينما يتجمع الآلاف في أمسية لشاعر كبير في مدرج جرش أو استاد اللاذقية الرياضي، لا يتجاوز حضور أمسية شعرية في القاهرة المئات المفردة.
وربما يستريح البعض إلى تفسير ذلك بعلاقة القاهرة بالشِّعر، لكنه يعود في الحقيقة إلى علاقة المدينة بالنجم؛ فهي لا تحب أن تتطلع كثيراً إلى السماء، وتريد من نجومها أن يتعلموا مهارة السير في الشوارع، وتضمن لهم ألا يفقدوا نجوميتهم. نموذجها نجيب محفوظ وعبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل. نجم يحيِّي العابرين ويسأل النادل عن أولاده قبل أن يستريح على كرسيه في مقهى الرصيف.
لهذا سيبقى سوء التفاهم قائماً بين النجوم من شعراء العرب وبين المدينة، لكن علاقة محمود درويش الشاب مع القاهرة تختلف عن علاقة أي نجم أدبي آخر، علاقة أم بابن لم يكمل عدة الرضاع.
وقد كرَّس الكاتب الصحافي سيد محمود كتاباً لاستقصاء هذه العلاقة، صدر أخيراَ عن «منشورات المتوسط» في 335 صفحة، نصفها متنه البحثي والنصف الآخر يضم نصوص مقالات كتبها كبار المثقفين المصريين عن درويش الشاب ومقالاته وحواراته وتغطياته والكثير من الصور.
بحث المؤلف في أرشيفات الدور الصحافية، وأجرى لقاءات مع شهود الوقائع الأحياء عاقداً المقابلات بين الروايات، لتقديم سردية متماسكة ومفصّلة للمرة الأولى عن سنوات احتضان القاهرة للشاعر في بداياته الأدبية. وقد كانت تلك الفترة موضع التباس في الوقائع والتواريخ بالإضافة إلى التباس وضع درويش نفسه بوصفه فلسطينياً يحمل الجنسية الإسرائيلية، والتباس اللحظة السياسية؛ حيث أعدت مصر عبد الناصر خطة استقباله، ووصل إلى مصر السادات!
التباس وضْع درويش، هو التباس وضْع كل الفلسطينيين في الأرض التي صارت إسرائيل بعد النكبة، ووجدوا في الانضمام للحزب الشيوعي الإسرائيلي وسيلة للتعبير عن حقوقهم. ومع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 احتدم النقاش داخل الحزب وكان من نتيجته خروج الأعضاء الفلسطينيين ومعهم نحو 200 إسرائيلي ليشكّلوا القائمة الموحدة «راكاح» وبين أعضائه درويش وزملاؤه من الشعراء الفلسطينيين الذين سيجري تهريب قصائدهم وينحت لهم الروائي غسان كنفاني عام 1966 مصطلح «شعراء المقاومة». ومع النكسة عام 1967 سطع اسم درويش وتوالت دواوينه التي صارت خمسة قبل أن يغادر إسرائيل نهائياً عام 1970.
قبل أن يرى محمود درويش القاهرة كان قد صار نجماً فيها. بدأ الأمر بمقالات الناقد رجاء النقاش الذي نشر في 22 ديسمبر (كانون الأول) 1967، بعنوان «مطلوب محاولة عالمية لإنقاذ هذا الشاعر» واستمر في رهانه على درويش. نشر تالياً قصائد لدرويش في عدد يناير (كانون الثاني) 1968 في مجلة «الهلال»، وقدمها بعنوان «الكلمات أيضاً تقاوم». وقد صنعت «الهلال» برئاسة تحرير كامل زهيري الحدث الأهم في حياة درويش المحاصَر بالعداء، فنشرت ديوانه «آخر الليل» كاملاً في عدد مايو (أيار) من العام ذاته، وتوالت الحفاوة المصرية. محمد إبراهيم أبو سنة ينشر قصيدة بإهداء لمحمود درويش، ويكتب عنه صلاح عبد الصبور مقالاً بعنوان «القديس المقاتل»، وكتب الناقد الفني كمال النجمي مطالباً الملحنين بتلحين قصائده.

حماسة ثم رفض

في البداية كان وضع شعراء المقاومة مفهوماً ودور فلسطينيي الداخل مقدّراً في الحفاظ على الوجود الفلسطيني داخل الكيان الجديد، لكن سيقع الارتباك وتخفت الحماسة العربية مع ظهور اسم محمود درويش ضمن الوفد الإسرائيلي المشارك في مهرجان الشبيبة العالمي بصوفيا عام 1968.
قوبل درويش بعداء سافر من كل الوفود العربية في المؤتمر، وسيتذكر درويش مع سميح القاسم في مراسلاتهما التي نشرتها مجلة «اليوم السابع» في الثمانينات ذكريات النبذ المؤلمة التي تعرضا لها، لكن المصريين كانوا الأقل تشدداً، الأغلبية قبلت التواصل وإن لم تقبل رغبة درويش بإلقاء شعره أمامهم.
في أثناء وبعد المؤتمر قادت صحف عربية حملة ضد درويش وسميح القاسم اللذين سارا تحت العَلَم الإسرائيلي. وتوالت ردود أفعال تجرّم التعامل مع درويش. وفي دمشق صدر قرار رسمي بمنع دواوينه، وقام حزب البعث بفصل الكاتب الفلسطيني فيصل الحوراني لأنه تجرأ واتصل بشبيبة الحزب الشيوعي الإسرائيلي.

بين أنياب الاحتلال

في صوفيا تشبث درويش بفرصة سفر إلى موسكو حيث قضى فترة قصيرة في مدرسة إعداد الكادر الحزبي، عاد بعدها إلى القدس، ثم حاول السفر إلى فرنسا لحضور ندوة جمعية الصداقة الفرنسية العربية، ولم يُسمح له بالدخول، وتجول في أكثر من مطار، حيث التقى في برلين الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) الذي أجرى حواراً مع درويش نشرته مجلة «المصور» المصرية، ومما جاء فيه على لسان درويش: «سمعت سميح يتحدث عن الخروج من إسرائيل إلى البلاد العربية فطلبت منه ألا يفعل ذلك. وقلت له إن قيمتنا أن نبقى هنا... أن نبقى في فلسطين المحتلة نكافح وندافع عن الوجه العربي لأرضنا».
عاد إلى حيفا، وقبل أن يستعد لزيارة موسكو مجدداً صدر أمر باعتقاله في بيته، وخضع للمراقبة، وكان عليه ألا يغادر حيفا، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1969 صار تحديد الإقامة اعتقالاً، استمر حتى أول فبراير (شباط) 1970، ثم سمحت له السلطات بالمغادرة إلى موسكو في الخامس من مارس (آذار)، بموجب منحة للدراسة بمعهد العلوم الاجتماعية.
وفي موسكو أسهم الشاعر معين بسيسو، في بناء مجال عربي لدرويش؛ فعرف حسين مروة ومحمد دكروب وجيلي عبد الرحمن وسهيل إدريس الذي وضع صورة درويش على غلاف مجلته «الآداب» لكنه سيتعرف -عبر بسيسو كذلك- على شخصية استثنائية وهو الدكتور مراد غالب السفير المصري شديد القرب من عبد الناصر، وهو الذي سيرتب فكرة انتقال درويش للعيش في القاهرة.
ويبدو أن سفور أنياب الاحتلال ضد الشاعر التقت مع الظرف السياسي في مصر لترتيب هذه الخطوة. كان عبد الناصر قد رفض عرضاً بإعادة سيناء عبر صلح منفرد، معتبراً ذلك بيعاً لعروبته وتخلياً عن الشعب الفلسطيني، وبدأ في محاولته إنهاض العروبة الجريحة، ومن بين الجهود توثيق التواصل مع فلسطينيي الأرض المحتلة.

صناعة دولة

يرى سيد محمود قصة استقبال درويش في مصر نموذجاً لما يمكن أن تحققه دولة تمتلك مشروعاً سياسياً وثقافياً واضحاً. حسب رواية للسيدة ليلى شهيد، فقد قابل عبد الناصر الشاعر في موسكو، وبعد ذلك أرسل له جواز سفر دبلوماسياً مصرياً، وأمر بأن يعامل الشاعر الشاب معاملة كبار الشعراء. لا يجد سيد محمود مصدراً آخر يرجّح أقوال السفيرة التي كانت مقربة من درويش، ويجد نفياً من صديق آخر له هو السوري فاروق مردم بك. لكن عبد الناصر كان قد زار موسكو مراراً للاستشفاء أو طلب التسليح خلال إقامة الشاعر، وإن كان هذا اللقاء قد تم، ففي الغالب سيكون في زيارة يوليو (تموز) 1970، أي قبل وفاته بشهرين، وبعد أربعة أشهر من وجود درويش بموسكو، وربما يكون قد تعرف في المقابلة ذاتها إلى محمد حسنين هيكل.
وسيلتقي درويش في موسكو تالياً مع أحمد بهاء الدين الذي سيصير فيما بعد أباً روحياً له، وهذا هو وصف درويش له في حواره مع صافيناز كاظم فور وصوله. ويصفه سيد محمود بـ«ميدان كبير من الرحابة الإنسانية والكفاءة المهنية»، وعلى أي حال كان بهاء رئيس تحرير «المصور» وهو من أفرد لرجاء النقاش مساحات تقديم شعراء الأرض المحتلة، وعقب لقائه مع درويش عاد ليكتب عنه: «إنني أب لطفلين، لكنني لم أشعر شعوراً حقيقياً بمعنى فلذة الكبد إلا عندما رأيته. هذا قطعة مني».
عندما أنهى درويش منحته في موسكو اجتمع في سهرة وداعية مع الدارسين العرب، وأكد أنه عائد إلى حيفا، لكنه أعلن لاحقاً أنه وصل إلى القاهرة في التاسع من فبراير 1971 بعد رحيل عبد الناصر الفاجع سبتمبر (أيلول) 1970، ويعتقد فيصل حوراني أن درويش تمكن من تغيير وجهته في أحد المطارات بترتيب من السلطات المصرية ليصل إلى مطار بيروت ومنه إلى القاهرة.
كانت عملية وصوله نصراً سياسياً، ووُضعت الخطة لتجعل منه نجماً. استقبلته مصر الرسمية والثقافية، وتبارت المجلات والصحف والإذاعة في تقديمه، وفي السويس سيلتقي رجال المقاومة. في مقابل ذلك سيبدأ هجومٌ عربيٌّ، كان أشرسه في مجلة «الحوادث» اللبنانية. ويدافع عنه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، مقترِحاً عليه أن يعمل في الإذاعة لتعريف الجمهور بواقع شعبه تحت الاحتلال واستغلال معرفته بالعبرية لكشف الواقع الثقافي في إسرائيل، وسيكون هذا بالفعل أول عمل يزاوله درويش في القاهرة قبل أن يقرر هيكل إلحاقه بالعمل بـ«الأهرام».
لم يبقَ بين مثقفي مصر وصحافييها الكبار مَن لم يحتفِ بدرويش، ولاحقت الصحف أخباره، وبينها خبر عن عكوفه على كتابة فيلم عن الأرض المحتلة يُخرجه شادي عبد السلام وتقوم ببطولته سعاد حسني، لكنّ ذلك الفيلم لم يظهر للوجود. وبعد استقباله في شيراتون انتقل إلى شقة في حي جاردن سيتي الراقي يقطنها توفيق الحكيم. وكان لا بد من حاسدين على التدليل الذي يلقاه درويش، نجيب سرور يقول: «نحن أيضاً شعراء الأرض المحتلة». بينما أطلق الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام أغنية ساخرة.
تقول شهادات المحيطين إن درويش كان متحفظاً في علاقاته مع الناس، والأمر المؤكد أنه يتضايق من الحفلات العامة، وربما كانت رغبته في الحفاظ على صورته وراء تجنبه الانخراط في علاقات واسعة، بينما ترى الكاتبة الصحافية منى أنيس أن تشبث درويش بالعزلة يعود إلى طبيعته الخجول.
على أي حال، يغادر درويش القاهرة منتصف عام 1972، حيث نشرت مجلة «الطليعة» خبر مغادرته إلى بيروت، لكن علاقته بـ«الأهرام» ستستمر حتى 1974عندما بدا اختلاف خيارات السادات للقضية عن خيارات عبد الناصر.
لا يجد سيد محمود تفسيراً مقبولاً لمغادرة درويش بعد أكثر قليلاً من عام، فهل يكمن السبب في فرضية عدم الانسجام بين نجم وضعته مصر الرسمية في السماء، ومدينة تريد أن ترى وتلمس نجومها على الأرض؟



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.