ميليشيا «بدر» الطائفية.. كيف تبني إيران دولة جديدة في العراق المعاصر؟

طهران تعيد محيطها إلى ما قبل الدولة الحديثة

ميليشيا «بدر» الطائفية.. كيف تبني إيران دولة جديدة في العراق المعاصر؟
TT

ميليشيا «بدر» الطائفية.. كيف تبني إيران دولة جديدة في العراق المعاصر؟

ميليشيا «بدر» الطائفية.. كيف تبني إيران دولة جديدة في العراق المعاصر؟

نوان البارز للدولة العراقية العاجزة والمضطربة، فهي علامة بارزة على الرجوع لما قبل الدولة الموحدة، والشعب الواحد والمصير المشترك. وهي التجسيد الفعلي لضراوة الحرب الأهلية وفتنها الطائفية، وهي كذلك فاعل رئيسي في مسار تفكيك الدولة العراقية، وربطها بالمصالح الاستراتيجية الإيرانية التي ابتدأ مفعولها العملي منذ الغزو الأميركي سنة 2003.
هذه المنظمة لم تعد مجرد كيان عسكري عادي يخضع لقانون الدولة ومندرج ضمن مؤسساتها، بل يمكن القول إنها «جيش» طائفي منظم، إداريا وآيديولوجيا. وهو يستعمل القوة المسلحة المصحوبة بالحشد والتعبئة الدينية لتحقيق التفكيك المطلوب للعراق، وإعادة تركيب المفكك ضمن الدائرة المذهبية والاستراتيجية الشيعية الإقليمية ونظرتها للشرق الأوسط الجديد.

تمثل منظمة بدر الشيعية العوتعود أصول هذه المنظمة إلى بداية الثمانينات من القرن العشرين، حيث أسسها محمد باقر الحكيم، وساعده في بناء وتسيير التنظيم أحد رجالات النظام الإيراني المعتبرين وهو «محمود الهاشمي»، الذي يشغل حاليا عضوية مجلس القضاء بإيران. وتضم «بدر» في صفوفها ضباطا سابقين من الجيش العراقي، كما تتكون من سياسيين معارضين للنظام البعثي الصدامي، وشباب مسيس ويتبنى الآيديولوجية الطائفية؛ وهذا المنطلق جعل منها تنظيما مزدوج التكوين والولاء العقدي. فهي من جهة إيرانية الولادة وعراقية العناصر؛ ومن جهة ثانية تعتبر منظمة عسكرية ممارسة للسياسة، مما يجعل من العنف السياسي سلوكا ملازما للبدريين قبل وبعد احتلال الولاية المتحدة الأميركية للعراق.
كانت الرهانات والحسابات الإقليمية وراء إنشاء «بدر» باعتبارها فيلقا عسكريا، لذلك سهَّل عليها البلد المحتضن إيجاد إمكانيات مهمة على مستويي التنظيم الإداري السياسي والتدريب العسكري؛ فقد كان التنظيم يدور ضمن رؤية الحرس الثوري الإيراني التي تتطور بتطور الوضع الإقليمي والدولي. لذا انتقلت الاستراتيجية الإيرانية، منذ حرب الخليج الثانية، من تحدي الصدام المباشر مع العراق، ومحاصرة منظمة «مجاهدين خلق»، إلى بناء نفوذ سياسي وعسكري داخل العراق نفسه.
ومن داخل هذه الرؤية تحركت «بدر» باعتبارها ميليشيا مسلحة، للعب دورها الطلائعي الحساس في غزو العراق، سواء بتحركاتها ذات الصلة بالولاية المتحدة وبريطانيا، عبر عقد مؤتمرات دولية تدعو للغزو والاحتلال؛ أو بالداخل العراقي، بتعزيز وتنظيم صفوفها، وتعبئتهم على المواجهة المسلحة للنظام العراقي البعثي.
فقد كانت هذه الميليشيا الشيعية تعتبر الاحتلال الأميركي للعراق «فرصة ذهبية» من الناحية العسكرية والسياسية لإعادة ترتيب الدولة، وربط العراق مذهبيا بالجمهورية الإيرانية. ورغم بعض الخلافات الموجودة بين بعض مؤسسيها السياسيين حول درجة الاستقلالية وكيفية تحقيقها في ظل الارتباط بولاية الفقيه؛ فإن التكوين العسكري لقيادة «بدر» جعل ولاءها تاريخيا وإلى اليوم مرتبطا بالحرس الثوري والمرشد الأعلى علي خامنئي. وعلى هذا الأساس تجهر المنظمة بأنها «تجاهد» في العراق وسوريا بمبررات دينية محضة، مرجعها المرشد الأعلى بإيران، والمرجع الدين الشيعي علي السيستاني صاحب فتوى «الجهاد الكفائي» لسنة 2014.
وتشير أغلب التقارير إلى أن عدد مقاتلي ميليشيا «بدر» يبلغ حاليا 100 ألف عسكري، يزاولون مهمهم القتالية بقيادة رئيسها هادي العامري وزير النقل السابق. وقد استطاع العامري المتزوج من إيرانية، والمجنس بجنسيتها، الرجوع إلى الأضواء بعد صراع مع آل الحكيم ومناصريهم.
وكان محمد باقر الحكيم قد قرر عقب احتلال العراق تحويل «بدر» إلى منظمة سياسية وحل جناحها العسكري، إلا أن اغتياله في أغسطس (آب) 2003 حال دون ذلك. كما أن خضوع المنظمة لقانون الحاكم الأميركي بول بريمر الخاص بدمج الميليشيات، حجم مؤقتا من دور العامري والدور الاستراتيجي الإقليمي لميليشيا «بدر».
فرغم التحفظات التي عبر عنها كل من قائد الميليشيا الحالي هادي العامري، والمستشار السياسي لمحمد باقر الحكيم الشيخ همام حمودي، وعالم الدين جلال الدين الصغير (صاحب نظرية القطار الشيعي الصاعد)، فقد لعبت ثقافة العوائل الدينية والسياسية دورا بارزا في تولية عبد العزيز الحكيم وراثة أبيه على رأس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، بينما عادت رئاسة منظمة «بدر» وهي الجناح العسكري للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي لهادي العامري.
اختار المجلس منذ بداية احتلال العراق 2003 الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية، وكان عبد العزيز الحكيم عضوا بمجلس بول بريمر الحاكم الذي عينته الولايات المتحدة للعراق. كما دخل في تحالفات سياسية تفيد برغبة ظاهرة للحكيم في إيجاد نوع من الاستقلالية عن كل من أميركا وإيران في الوقت نفسه؛ لذلك سعى منذ 2009 لتحالف سياسي مع كتلة شيعية تضم التيار الصدري، والدخول في منافسة مع رئيس الوزراء آنذاك نور المالكي وحلفائه، وفي الآن نفسه، إبداء حسنة نية بإمكانية التعاون مع كتلة «العراقية» التي تزعمها إياد علاوي لتنافس على منصب رئاسة الوزراء في الانتخابات التشريعية لسنة 2010.
وفي الوقت الذي أبدى فيه الحكيم هذا التوجه الانتخابي والسياسي المرن، عمل هادي العامري زعيم «بدر» على خلق تحالف يؤكد طبيعة عقيدة تنظيمه السياسية، ودوره الاستراتيجية، المرتبط بإيران، فدعم المالكي في ترشحه لولاية ثانية. فنشب صراع جديد بين المجلس والجناح العسكري، أدى لتوسيع رقعة الخلافات والخيارات الاستراتيجية بينهما، الشيء الذي انعكس على طبيعة التعبئة والتحريض التي أدت لإبعاد المجلس الأعلى الإسلامي العراقي من الاستوزار، بينما أسندت وزارة النقل لغريم الحكيم الجديد هادي العماري. ومع استمرار الخلافات بين الجناحين السياسي والعسكري، أعلن الطرفان الفراق التام في مارس (آذار) 2012.
والحقيقة أنه من الناحية العملية، استطاعت ميليشيا «بدر» منذ سنة 2005 استرجاع مكانتها كرأس الحربة في المشهد العنفي الدموي الطائفي بالعراق؛ كما ظهرت باعتبارها قوة لها رصيد عسكري يمكن الاعتماد عليه من جانب كثير من الشيعة الطائفيين من جهة، وكذلك من قبل إيران في سياستها داخل العراق. ولأن هذه الدولة العراقية في حقيقة الأمر تتأثر بالميليشيات و«بدر» واحدة منها، فإن العامري تحول مع الصراع الدموي الطائفي بين السنة والشيعة لبطل قومي شيعي، كما أن المالكي وإيران جددا وكثفا من دعمهما لميليشيا بدر التي تحولت إلى «جيش» يتم تجهيزه لخوض المعارك بدل الدولة، خاصة تلك المتعلقة بتصفية أهل السنة وتهجيرهم، مما أدى لارتكاب «بدر» لجرائم ضد الإنسانية لقيت نوعا من التشجيع داخليا من طرف رئيس الوزراء نوري المالكي، وخارجيا من إيران، بينما نددت واستنكرتها منظمات وهيئات دولية مهتمة بحقوق الإنسان.
ولأدائها ودورها المحوري، ليس من الغريب أن نجد «بدر» ورجالها في كل مناشط الحياة العامة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية للدولة العراقية الحالية. هذا الأمر الواقع ليس صدفة، بل استراتيجية نمت مع التصور الإيراني المصّرف عبر حلفائها العراقيين الشيعة؛ وقد تجلى ذلك واضحا من الناحية السياسية في تعين حكومة العبادي في 8 سبتمبر(أيلول) 2014.
إذ ظهرت «بدر» مرة أخرى كمشروع لا يمكن التفاوض حوله، ولا يمكن تجاوزه، لما يمثله من رهان استراتيجي غايته إعادة بناء العراق المعاصر وفق رؤية إيرانية إلحاقية، تعيد رسم دوائر الصراع إقليميا في الشرق الأوسط.
فقد أعلن تعين حيدر العبادي رئيسا للوزراء الدخول في أخطر مرحلة يعيشها العراق، ورغم التدخلات الدولية المتعددة فقد خرجت ميليشيا العامري منتصرة، وفي «غفلة» أو عن قصد اكتسب مشروع الهيمنة بالقوة على الدولة العراقية، وإعادة تركيبها، شرعية دولية تحت مسمى حكومة توافقية.
ففي غياب الجيش العراقي المنظم، تحتل «بدر» مكانه وتؤدي الأدوار المركزية باسم الدولة، وتحول جزء من قيادتها العسكرية العليا إلى المناصب السيادية الأمنية والعسكرية للعراق اليوم؛ وهكذا أصبحت «بدر» تسيطر على أهم وزارة على الإطلاق بالعراق حاليا، حيث عين رئيس الوزراء حيدر العبادي 5 من «كبار قادة» ميليشيا «بدر» في حكومته، وهم وزير الداخلية العراقي محمد الغبان، الذي يعتبر هو وأبو مهدي المهندس أقرب المقربين للعامري وطهران في الوقت نفسه. وهو ما يفسر توزيع الأدوار يبن الثلاثة خاصة في ما يتعلق بإدارة «بدر» وعلاقاتها ببسط السيطرة، ودمج الحشد الشعبي فيها باعتبار «بدر» نواة الدولة الجديدة المرتقبة. كما عينت شخصية عسكرية «بدرية» أخرى في وزارة حقوق الإنسان متمثلة في محمد مهدي البياتي، وهو قائد سابق «للواء مصطفى» بـ«بدر».
وتدعيما لهذه السيطرة على الأرض، أسندت وزارة البلديات لشخصية عسكرية «بدرية» أخرى وهو عبد الكريم يونس عيلان المعروف بأبو مريم الأنصاري، في حين أسندت وزارة الرياضة والشباب لعبد الحسين عبطان وهو المسؤول السابق في قسم التموين والنقل في فيلق «بدر» ومعروف بعلاقاته المتشابكة مع إيران التي يحمل جنسيتها، ويعتبر المسؤول الأول عن مقتل المئات من القرويين النجفيين في معركة «الزركة». أما حسن كاظم الراشد الملقب بـ«أبو أحمد الراشد» وزير الاتصالات، فهو عضو سابق في فيلق القدس الذي انضم إليه سنة 1991، وهو كذلك عضو فرقة «محمد رسول الله» بـ«بدر».
عموما، يمكن القول إن منظمة «بدر» كانت دائما مشروعا ورهانا إيرانيا يتطور بحسب الظروف الداخلية والإقليمية للعراق، وإن الباحث في الشؤون الإيرانية وطريقة تصريفها لاستراتيجيتها في بناء النفوذ لا بد أن يلحظ تعدد الآليات والوسائل المستعملة لتحقيق الغرض؛ وما ميليشيا «بدر» إلا واحد من الأساليب المنبثقة عن رؤية الحرس الثوري، والتي تمزج فيها إيران بين الوظيفة السياسية والقوة العسكرية.
فإذا كانت قضية الحشد الشعبي (وهذه القضية تحتاج لدراسة مستقلة) هي الصورة الظاهرة إعلاميا، فإن الواقع الحقيقي يخفي وراءه تنظيما يبتلع شيئا فشيئا الدولة العراقية، ويستغل موجة الإرهاب لتكريس هيمنة تنظيم طائفي على المجتمع والدولة يستحيل اقتلاعه، تماما كما يستحيل اليوم اقتلاع «حزب الله» اللبناني، وميليشيا الحوثي اليمنية.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.