الرياض في الدولة السعودية الثانية... ريادة علمية لافتة تجاوزت محيطها المحلي

أنجز باحث ومؤرخ سعودي دراسة تناولت الحياة العلمية في مدينة الرياض في عهد الدولة السعودية الثانية مما تعد إضافة علمية جديدة في تاريخ السعودية؛ إذ إن الدراسات التي عنيت بالتاريخ السياسي للسعودية في مراحلها الثلاث أهملت الجانب العلمي بسبب ندرة المصادر وشح المعلومات حول ذلك، لكن الباحث الدكتور راشد بن محمد العساكر تمكن من نبش التاريخ وتوصل إلى أن سقوط الدولة السعودية الأولى عام 1818 وتدمير عاصمتها الدرعية، وتأسيس الدولة السعودية الثانية على يد الإمام تركي بن عبد الله، واتخاذه مدينة الرياض عاصمة للدولة وقاعدة للحكم، أدى إلى أن تشهد الدولة الثانية وعاصمتها الرياض تحولاً كبيراً، حيث أصبحت العاصمة الجديدة مركز الثقل السياسي والإداري والاقتصادي؛ مما أكسبها مكانة كبيرة في المنطقة وضاعف من أهميتها.
وأشار الباحث إلى ظاهرة سكانية كان لها دور في تشكل المدينة، تمثلت في نزوح أعداد كبيرة من سكان الدرعية عاصمة الدولة الأولى، وبعض المدن والأقاليم النجدية إلى الرياض عاصمة الدولة الثانية والاستقرار فيها. وأسهمت الهجرة في تشكّل هوية جديدة للمدينة وتغيير لافت في نظام حياتها وتفاعلاتها الأمنية والسياسية والعمرانية، وكان لهذا الوضع المستجد آثار مهمة في النهضة العلمية، حيث أصبحت الرياض في عهد الدولة السعودية الثانية مركزاً علمياً مهماً في المنطقة.
وكشف العساكر من خلال بحث مضنٍ مدعوم بوثائق جديدة ومخطوطات نادرة ومقابلات شخصية عن جوانب حضارية تمتعت بها مدينة الرياض، خصوصاً في مجال الحياة العلمية، غطت الفترة الزمنية بداية من عام 1824 الذي شهد قيام الدولة السعودية الثانية وحتى عام 1891، وهو تاريخ سقوطها.
ولفت الباحث إلى الفوارق الواضحة في العملية التعليمية بعد اتخاذ الرياض على يد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، حيث اهتم قسم كبير من أهالي المدينة بالمرحلة الأولى من مراحل التعليم المتمثلة في مرحلة الكتاتيب من خلال تخصيص الأماكن والدور لتكون مقراً لبعض المدارس في مواضع معينة من المدينة، معتبراً أن ظاهرة الأوقاف والسبائل والأحباس شكلت دوراً مهماً في انتشار التعليم، وبروز نشاط المدارس بصورة كبيرة، لعل أشهرها مدرسة ابن مفيريج ومدرسة ابن مصيبيح المجاورتين لمسجد دخنة الكبير، كما أبرز الأثر الكبير لحلقات العلماء في مساجد العلماء في مساجد الرياض الكبيرة في النهضة التعليمية التي شهدتها مدينة الرياض، وذكر في هذا الصدد جامع دخنة الكبير، وجامع الرياض الكبير، ومسجد دخنة الصغير، ومسجد المريقيب.
وكشف العساكر، عن أن العلوم الشرعية استحوذت على النتاج الفكري في المدينة، وخصص طلاب العلم وبعض الموسرين كثيراً من أموالهم لشراء الكتب وإيقافها، كما أبرز اهتمام مجتمع الرياض بتأسيس المكتبات الخاصة في منزلهم والحرص على اقتناء الكتب والحصول عليها مهما كان ثمنها، وتميزت بعض المكتبات العلمية والوقفية بتنوع محتوياتها وخزانتها وندرة بعضها، كما برزت ظاهرة اهتمام السكان بجلب أوائل المطبوعات الحديثة من بعض البلدان كالهند ومصر.
ثم تناول الباحث عن الحوادث السياسية والأمنية التي شهدتها مدينة الرياض في تلك الفترة على الحركة العلمية وأوضاعها التعليمية، وتأثيرها على أركان الدولة ومؤسساتها. وكانت ذروتها خلال فترة الصراع بين الإمامين عبد الله بن فيصل وسعود بن فيصل، مما ترتب عليه من انقطاع التعليم في بعض مراحله، وهجرة قسم من طلاب العلم إلى خارج المدينة، وفقد الكثير من الكتب نتيجة السرقة والنهب، وتأثرت بعض الأوقاف من قلة عوائدها.
ووقف العساكر على أبرز المكتبات الخاصة التي انتشرت في مدينة الرياض في تلك الفترة والتي تنوعت عناوينها وعلومها مورداً في هذا الصدد 43 مكتبة، منها مكتبة الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ التي تعد الأكبر في مدينة الرياض، بل وفي منطقة نجد، وتنوعت محتوياتها ومادتها العلمية التي جمعها في الدرعية ثم في مصر ثم في الرياض.
وأشار الباحث إلى الحضور النسائي في الحركة العلمية بمدينة الرياض خلال الفترة من عام 1824 إلى عام 1891، وأورد في هذا الصدد وقف الأميرة سارة بنت الإمام تركي بن عبد الله آل سعود كتاب فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، على طلاب العلم من أهل الرياض، حيث جاءت صيغة الوقف على النحو التالي: «وقد أوقفتها لوجه الله تعالى على طلبة العلم في بلد الرياض وقفاً صحيحاً لا يباع ولا يوهب ولا يرهن، فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، إن الله سميع عليم، وصلى الله على محمد» (مؤرخ 1286 هـ).
كما تناول من أوقاف النساء وقف طعيمة بن حمدان على كتاب «فتح المجيد»، وجاء في نصه «يعلم من يراه بأن طعيمة بنت عبد العزيز بن حمدان قد أوقفت هذا الكتاب المسمى بفتح المجيد على طلبة العلم الشريف طلبا للثواب من رب الأرباب وعملا بالحديث الصحيح، وجعلت النظر لها مدة حياتها ثم بعد ذلك على يد صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن ثم بعده أخاه عبد الرحمن. شهد على ذلك راشد بن نمران وكتبه شاهداً به الفقير إلى الله محمد بن عبد اللطيف» (مؤرخ 1/ شوال/ 1305 هـ).