قد لا يكون من الصعب التكهن بأن «الترمبية»، نسبة إلى الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب، قد دخلت مرحلة الأفول التي قد تطول نسبياً. ومن بين أسباب الإطالة أنها كانت -ولا تزال- جزءاً من «حالة كونية»، حيث الخطاب الشعبوي لا يزال قادراً على إنجاب قادة يجيدون استخدام مفرداته، آخرهم رئيس قرغيزستان الجديد الذي فاز بأكثر من 80 في المائة من «أصوات الشعب».
وسواء تمت إقالته أو إجباره على الاستقالة، أو بقي حتى الساعة الأخيرة من عهده، فإن ترمب الذي يغادر البيت الأبيض بعد أيام لن يتمكن على الأرجح من أن يبقى زعيم الجمهوريين الوحيد. فقد دخل حزبهم في «انتفاضة» لا تزال في بداياتها، خصوصاً أن المنافسة معه ستدور حول كيفية استعادة الحزب بالجملة أو خسارته بالتقسيط.
وبعيداً عن آراء مؤيديه الذين يؤكدون أن ترمب تحول إلى قوة سياسية أساسية، وسيواصل لعب دور كبير في المستقبل، فهو لا يزال بلا أدنى شك قوة شعبية لا يستهان بها، رغم الجراح المميتة التي أصيب بها جراء الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه، بعد تحريض مناصريه أمام البيت الأبيض على اقتحام الكونغرس.
ليس أمراً شكلياً أن يتعرض ترمب للحظر على شبكات التواصل الاجتماعي، ولا ابتعاد كثير من حلفائه عنه، سواء من داخل الحزب أو خارجه. كما أن تجاهله من قبل كثيرين في مجتمع الأعمال، وتحميل كثير من الجمهوريين له مسؤولية خسارة الأغلبية في مجلس الشيوخ، بعد هزيمتهم المزدوجة الأسبوع الماضي في جورجيا، ناهيك من أغلبيتهم في مجلس النواب قبل عامين، سيحيله إلى قوة هامشية ستذبل يوماً بعد يوم فور خروجه من سدة الرئاسة. وقد شبهه بعضهم بمنطاد شركة «مايسيس» في الاستعراض الذي تقيمه في عيد الشكر في نيويورك، يحلق عالياً قبل أن يتم ثقبه ليهوي في سقوط حر يدور ويلتف مع الريح، بينما الهواء يفرغ منه ليحط في زاوية صغيرة من نقطة نهاية الاستعراض. فالأميركيون بطبعهم «لا يحبون الخاسرين»، على ما كان يردده ترمب نفسه، عندما انتقد السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين.
الانشقاقات عنه لا تقتصر على بعض أعضاء مجلس الشيوخ، أمثال السيناتور النافذ ميت رومني عن ولاية يوتا، والسيناتورة ليزا موركوفسكي عن ولاية ألاسكا، والسيناتور بن ساسي من ولاية نبراسكا. فالموقف الحاد الذي اتخذه كبير الجمهوريين في مجلس الشيوخ، السيناتور ميتش ماكونيل، الذي كانت زوجته إيلين تشاو وزيرة النقل أول من استقال من حكومته، كان بالغ الوضوح. فقد حذر في الخطاب الذي ألقاه يوم الأربعاء، بعد أحداث الكابيتول، من أن «ديمقراطيتنا ستدخل في دوامة الموت (…) إذا انقلبنا على نتيجة انتخابات واضحة نتيجة مزاعم لا أساس لها». وحتى السيناتور ليندسي غراهام، الأكثر ولاء لترمب، وقف في جلسة تثبيت انتخاب الرئيس جو بايدن، قائلاً: «عدوني خرجت؛ لقد طفح الكيل». والجمهوريون الذين باتوا يجاهرون بمسؤولية ترمب عن خساراتهم يدركون أن المعركة معه ستكون متشعبة معقدة، وقد يؤدي تمسكه بقيادة الحزب إلى إحداث انشقاق لا رجعة عنه، وإلى خسارتهم، ليس فقط انتخابات الرئاسة، بل انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب لدورات عدة على حد سواء.
ويوم الخميس الماضي، عندما سألت النائبة الجمهورية نانسي ميس التي انتخبت حديثاً في ولاية ساوث كارولينا التي فاز فيها ترمب بنسبة فاقت 12 نقطة مئوية، وكانت من أشد المدافعين عنه، وعملت في حملته الانتخابية عام 2016، عما إذا كانت لا تزال تؤمن به، أجابت دون تردد: «لا، أنا لا أستطيع التغاضي عن خطاب الأمس، حيث مات الناس وكل أعمال العنف. لم تكن هذه احتجاجات؛ كانت فوضى». وأضافت أن أعمال الشغب التي أثارها ترمب قوضت كل ما أنجزه رئيساً، وقالت: «لقد تم القضاء على هذا الإرث الآن... لقد ذهب وعلينا أن نبدأ من الصفر».
والسؤال مطروح أيضاً عن موقف قادة المسيحيين الإنجيليين، وقاعدتهم التي أعطت ترمب سيطرة وازنة على الحزب الجمهوري، ترجمها بتعيين مايك بنس أحد كبار رموز هذا التيار نائباً له. وها هو ينشق عنه، فيما أنصار ترمب دعوا إلى «شنقه على شجرة» يوم اقتحامهم مبنى الكابيتول. فالإنجيليون بطبعهم محافظون، ويعدون أنفسهم حماة القيم والدستور. ورغم عدم صدور مواقف علنية عنهم حتى الساعة، فإن وصف أحد قادة هذا التيار لما جرى يوم الأربعاء، إلى جانب الهزائم الانتخابية في جورجيا، بأنه أشبه بطوربيد ضرب الجانب الأيمن من سفينة حربية، يظهر بداية حركة اعتراض تحاذر حتى الآن من الدخول في مواجهة مع ترمب، ما يعطي فكرة عن حجم السلطة السياسية التي لا يزال يتمتع بها، رغم تراجعها. وحذر بريندان باك، المستشار السابق لرئيسي مجلس النواب السابقين الجمهوريين بول رايان وجون باينر من إعلان «وفاة الرئيس سياسياً»، وقال: «من الحماقة القول إن الجميع سيديرون ظهرهم له». حتى مدير الاتصالات السابق في البيت الأبيض، أنتوني سكارموتشي، الذي انشق عن ترمب مبكراً، حذر من أنه لا يزال قادراً على العودة إلى الحياة سياسياً، ما لم يتم منعه من الترشح مجدداً، وإنهاء دوره السياسي بالكامل. لكن صحيفة «واشنطن بوست» تنقل عن المؤرخ الرئاسي مايكل بيشلوس قوله: «في السياسة الأميركية، يتحول الحب إلى كراهية بسرعة كبيرة».
ويسأل بيشلوس عن مدى جاذبية ترمب خلال شهر أو شهرين؟ هل هذا الشخص الذي ستحاصره لوائح الاتهام، وحتى الدعاوى القضائية والمشكلات المالية، سيبدو جذاباً حتى للأشخاص الذين يحبونه في الوقت الحالي؟». وأضاف بيشلوس: «يميل الأميركيون إلى الإعجاب بالرئيس واحترامه؛ كان نيكسون يتمتع بشعبية كبيرة حتى النهاية، لكنه سرعان ما أصبح تجسيداً للكذب والأخلاق السياسية السيئة، وأصبح مسيئاً لدرجة أنه لم تتم دعوته مرة أخرى إلى مؤتمر جمهوري».
خروج ترمب من المشهد السياسي ليس وشيكاً
خروج ترمب من المشهد السياسي ليس وشيكاً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة