محمد البحيري... من صيدلاني إلى منسق طعام

رحلة عشقه للطعام غيرت حياته

TT

محمد البحيري... من صيدلاني إلى منسق طعام

«العين تأكل قبل الفم» مقولة أثبتت صحتها بعد أن احتلت الأطباق أهمية خاصة على موقع الصور العملاق «إنستغرام»؛ فكما تتسابق مدونات الموضة في نشر صور الإطلالات الأنيقة، نجح طُهاة في المنافسة وجذب المتابعين بأطباق تثير الشهية.
فوراء هذه الصور الجذابة التي تشاهدها في الإعلانات وعبر مدونات الطعام، شخص ربما لا يمتلك أنامل الطاهي المحترف؛ لكن له عيناً عاشقة للأكل؛ إنه منسق الطعام أو ما يُعرف بالإنجليزية «فوود ستايليست».
من هنا كان الشغف بالطعام ووصفاته وأسراره الدافع لتحول المصري محمد البحيري، من صيدلي إلى «منسق طعام» محترف يقف وراء آلاف الصور والوصفات الجذابة.
ويروي البحيري رحلة عشقه للطعام التي غيرت مسار حياته، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «قبل احترافي تنسيق الطعام، بدأت الرحلة بدراسة الصيدلة وتكنولوجيا المعلومات، ثم التصميم، وكأنها كانت رحلة بحث عن الذات، استقرت فقط حين وجدت مهنة تجمع بين جزء من دراستي وشغفي معاً، فأنا عاشق للطهي»، ويمضي قائلاً: «لا أحب الطهي فحسب، ولكن المطبخ هو أيضاً مكاني المفضل في المنزل، يستهويني ضجيج الأدوات، واحتكاك الأواني، أحياناً أشعر بالصداع فأقرر أن أذهب للمطبخ كي أحضر أكلة، ولا أُفاجأ بأن الألم قد زال وحل محله شغف انتظار تناول ما صنعته بيدي».
علاقة البحيري بالأكل يمكن أن نطلق عليها «ولعاً» كما يفضل هو أن يصفها، ويقول: «أول هدية حصلت عليها في طفولتي كانت خلاطاً، وأتذكر أنني في سن العاشرة كنت أجهز أكلة كاملة بمفردي». في البداية ذهب البحيري إلى مهنة «الكاترينج» أو تقديم الطعام، بعد دراسة فنون الطهي بشكل أكاديمي، ولكنه وجد ضالته بعد مشاركته في دورة تدريبية في تنسيق الطعام أقيمت في القاهرة، ويقول عنها: «هنا تغيرت حياتي».
مهنة «منسق الطعام» تتطلب مهارات عديدة، يقول عنها البحيري: «صحيح أن المنسق لا يجهز الوصفة بنفسه، فهو يعتمد على طاهٍ محترف أحياناً؛ لكن عليه أن يكون مُلماً بفنون الطهي وخصائص مكونات الأكلة، ويمتلك حس التذوق، حتى ينجح في إخراج الطبق بشكل جذاب يثير شهية العملاء». وبالإضافة إلى الطهي، تتطلب هذه المهنة حساً فنياً في التصوير والتصميم والإضاءة، جميعها مهارات أساسية حتى تصبح منسق طعام بارعاً في مهنتك.
ويشاركنا البحيري بجزء من أسرار عرض الأطباق قائلاً: «بعض الأطباق نقدمها غير مكتملة النضج بغرض التصوير فقط، وذلك للحفاظ على ألوان وقوام بعض المكونات، هذا لا يعني أنها بعد اكتمال النضج لن تصبح جذابة كما تظهر في الصور؛ لكن هناك معايير تتعلق بعين الكاميرا التي تختلف عن العين البشرية».
ويلخص البحيري مهنة «منسق الطعام» في ثلاث مهارات أساسية تأتي بعد حب المطبخ، وهي: «شخص يهتم بالتفاصيل، له حس فني، يتميز بالدقة»، ويضيف: «أي شخص لا يمتلك هذه الصفات أعتقد أنه لن ينجح كمنسق طعام، فكل مكون داخل الطبق هو بطل قصتك».
جزء من تاريخ الشعوب يُكتب داخل أطباقهم الشعبية، فكرة يؤمن بها البحيري بشدة؛ بل ويعتبر أن مهنته تساهم في تأريخ الثقافات، ما يدفعه أحياناً للقراءة والمذاكرة قبل تنسيق طبق من ثقافة ربما لا يعرفها من قبل. ويقول: «دور منسق الطعام هو أن يروي قصة الطبق من خلال لقطة واحدة تختصر المذاق وتدون تفاصيل الحكاية. عند تقديم طبق مكسيكي مثلاً، أفكر في الطريقة التي تثير شهية المواطن الأصلي في المكسيك عندما يشاهد الصورة، وإلا لن يتحقق الهدف».
بيد أن حب الطهي عامل مشترك بين منسقي الطعام، حتى أن المصرية علياء الصاوي (منسقة طعام ومطورة وصفات مُقيمة في دبي) وضعته شرطاً لأي شخص يسعى لامتهان تنسيق الطعام. وتقول في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «العلاقة بين منسق الطعام والطهي تشبه علاقة الرسام بلوحاته. لا يمكن أن يقدم فناً حقيقياً إلا إذا كان لديه شغف بما يقدمه. على الأقل حتى يشعر بقيمة رسالته».
وتروي حكايتها مع تنسيق الطعام، المهنة التي ربما لا يعرفها كثيرون في الشرق الأوسط، وتقول: «علاقتي بالطهي قديمة، فهو من البداية هوايتي التي أواجه بها القلق، وتساعدني في الخروج من الأزمات؛ لكن مهنياً بدأت تقديم الوصفات في عام 2000. قدمت 5 كتب في فنون الطهي والوصفات، بالتعاون مع (دار الشروق للطباعة)»؛ فمنذ خمسة عشر عاماً بدأت علياء الصاوي تقوم بمهمة تنسيق الطعام، بجانب عملها كمطورة وصفات ومستشارة لمطاعم دولية في دبي.
وراء الكواليس أسرار لا يعرفها إلا صُناع المهنة، فمهمة منسق الطعام لا تقتصر على تحضير الطبق بأسلوب يجذب العين فحسب. تقول الصاوي إن المهمة تبدأ من التسوق، وتضيف: «الطبق الجذاب يبدأ بمكونات طازجة، لذلك أفضل أن أقوم بالمهمة من الألف للياء، أتسوق لتحضير المكونات، وفي أغلب الظروف أحضر الوصفة بنفسي لأن تحضير طبق للتصوير له معايير مختلفة، ربما لا يهتم بها الطاهي العادي»؛ وهنا تؤكد أنه لا يوجد منسق طعام محترف لا يعرف على الأقل أساسيات الطهي، فهو شرط أساسي.
عندما يشاهد المستهلك صورة تثير خياله، تنطق بمذاق طيب وتفوح منها رائحة ذكية، يتبادر إلى ذهنه أن وراءها مصوراً محترفاً فحسب، بينما ما كان للعمل أن يخرج هكذا إلا بفضل منسق طعام محترف. وتصف الصاوي العلاقة بين المصور ومنسق الطعام بأنها علاقة تكاملية لا يمكن لأي منهما أن يحل محل الآخر. وتقول «نحن فريق عمل ضخم، هدفنا في النهاية أن نسجل لحظة تنطق بمذاق ورائحة الطبق».
وعن اهتمام الجيل الصاعد بفنون الطهي ومهاراته المختلفة، تقول الصاوي إن فنون الطهي بشتى تخصصاتها أصبحت محل اهتمام كثير من الشباب العربي، ليس فقط من خلال التدوين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن هناك أيضاً كيانات أكاديمية في مصر والعالم العربي تقدم دورات تدريبية يشرف عليها متخصصون. وتقول: «شرفت بالتعاون مع أكاديمية مصرية كبرى لفنون الطهي، وأشارك في تدريس دورات تنسيق الطعام مرتين في العام الواحد، لذلك أتوقع خروج جيل جديد من الطهاة ومنسقي الطعام على قدر من الاحترافية».


مقالات ذات صلة

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

مذاقات «عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

عندما يأتي الكلام عن تقييم مطعم لبناني بالنسبة لي يختلف الأمر بحكم نشأتي وأصولي. المطابخ الغربية مبنية على الابتكار والتحريف، وتقييمها يعتمد على ذائقة الشخص

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات الشيف البريطاني هيستون بلومنتال (الشرق الأوسط)

نصائح من هيستون بلومنتال لوجبة الكريسماس المثالية

تعد الخضراوات غير المطبوخة بشكل جيد والديك الرومي المحروق من أكثر كوارث عيد الميلاد المحتملة للطهاة في وقت يقومون فيه بتحضير الوجبة الأكثر أهمية في العام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك 6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

6 نقاط قد تعيد تفكيرك في الطهي بأواني الحديد الزهر

لا يزال كبار الطهاة العالميين، إضافة إلى ربات البيوت الماهرات في الطهي، يستخدمون أواني الطهي المصنوعة من الحديد الزهر Cast Iron Cookware.

د. عبير مبارك (الرياض)
مذاقات توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة

نادية عبد الحليم (القاهرة)
مذاقات إم غريل متخصص بالمشاوي (الشرق الاوسط)

دليلك إلى أفضل المطاعم الحلال في كاليفورنيا

تتمتع كاليفورنيا بمشهد ثقافي غني ومتنوع، ويتميز مطبخها بكونه خليطاً فريداً من تقاليد عالمية ومكونات محلية طازجة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن
TT

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

«عناب براسري» منافس قوي على ساحة الأكل اللبناني بلندن

عندما يأتي الكلام عن تقييم مطعم لبناني بالنسبة لي يختلف الأمر بحكم نشأتي وأصولي. المطابخ الغربية مبنية على الابتكار والتحريف، وتقييمها يعتمد على ذائقة الشخص، أما أطباق بلاد الشام فلا تعتمد على الابتكار على قدر الالتزام بقواعد متَّبعة، وإنني لست ضد الابتكار من ناحية طريقة التقديم وإضافة اللمسات الخاصة تارة، وإضافة مكون مختلف تارة أخرى شرط احترام تاريخ الطبق وأصله.

التبولة على أصولها (الشرق الاوسط)

زيارتي هذه المرة كانت لمطعم لبناني جديد في لندن اسمه «عناب براسري (Annab Brasserie)» فتح أبوابه في شارع فولهام بلندن متحدياً الغلاء والظروف الاقتصادية العاصفة بالمدينة، ومعتمداً على التوفيق من الله والخبرة والطاهي الجيد والخبرة الطويلة.

استقبلنا بشير بعقليني الذي يتشارك ملكية المشروع مع جلنارة نصرالدين، وبدا متحمساً لزيارتي. ألقيت نظرة على لائحة الطعام، ولكن بشير تولى المهمة، وسهَّلها عليَّ قائلاً: «خلّي الطلبية عليّ»، وأدركت حينها أنني على موعد مع مائدة غنية لا تقتصر على طبقين أو ثلاثة فقط. كان ظني في محله، الرائحة سبقت منظر الأطباق وهي تتراص على الطاولة مكوِّنة لوحة فنية ملونة مؤلَّفة من مازة لبنانية حقيقية من حيث الألوان والرائحة.

مازة لبنانية غنية بالنكهة (الشرق الاوسط)

برأيي بوصفي لبنانية، التبولة في المطعم اللبناني تكون بين العلامات التي تساعدك على معرفة ما إذا كان المطعم جيداً وسخياً أم لا، لأن هذا الطبق على الرغم من بساطته فإنه يجب أن يعتمد على كمية غنية من الطماطم واللون المائل إلى الأحمر؛ لأن بعض المطاعم تتقشف، وتقلل من كمية الطماطم بهدف التوفير، فتكون التبولة خضراء باهتة اللون؛ لأنها فقيرة من حيث الليمون وزيت الزيتون جيد النوعية.

بقلاوة بالآيس كريم (الشرق الاوسط)

جربنا الفتوش والمقبلات الأخرى مثل الحمص والباباغنوج والباذنجان المشوي مع الطماطم ورقاقات الجبن والشنكليش والنقانق مع دبس الرمان والمحمرة وورق العنب والروبيان «الجمبري» المشوي مع الكزبرة والثوم والليمون، ويمكنني الجزم بأن النكهة تشعرك كأنك في أحد مطاعم لبنان الشهيرة، ولا ينقص أي منها أي شيء مثل الليمون أو الملح، وهذا ما يعلل النسبة الإيجابية العالية (4.9) من أصل (5) على محرك البحث غوغل بحسب الزبائن الذين زاروا المطعم.

الروبيان المشوي مع الارز (الشرق الاوسط)

الطاهي الرئيسي في «عناب براسري» هو الطاهي المعروف بديع الأسمر الذي يملك في جعبته خبرة تزيد على 40 عاماً، حيث عمل في كثير من المطاعم الشهيرة، وتولى منصب الطاهي الرئيسي في مطعم «برج الحمام» بلبنان.

يشتهر المطعم أيضاً بطبق المشاوي، وكان لا بد من تجربته. الميزة كانت في نوعية اللحم المستخدم وتتبيلة الدجاج، أما اللحم الأحمر فهو من نوع «فيليه الظهر»، وهذا ما يجعل القطع المربعة الصغيرة تذوب في الفم، وتعطيها نكهة إضافية خالية من الدهن.

المطعم مقسَّم إلى 3 أقسام؛ لأنه طولي الشكل، وجميع الأثاث تم استيراده من لبنان، فهو بسيط ومريح وأنيق في الوقت نفسه، وهو يضم كلمة «براسري»، والديكور يوحي بديكورات البراسري الفرنسية التي يغلب عليها استخدام الخشب والأرائك المريحة.

زبائن المطعم خليط من العرب والأجانب الذين يقطنون في منطقة فولهام والمناطق القريبة منها مثل شارع كينغز رود الراقي ومنطقة تشيلسي.

حمص باللحمة (الشرق الاوسط)

في نهاية العشاء كان لا بد من ترك مساحة ليكون «ختامه حلوى»، فاخترنا الكنافة على الطريقة اللبنانية، والبقلاوة المحشوة بالآيس كريم، والمهلبية بالفستق الحلبي مع كأس من النعناع الطازج.

المطاعم اللبنانية في لندن متنوعة وكثيرة، بعضها دخيل على مشهد الطعام بشكل عام، والبعض الآخر يستحق الوجود والظهور والمنافسة على ساحة الطعام، وأعتقد أن «عناب» هو واحد من الفائزين؛ لأنه بالفعل من بين النخبة التي قل نظيرها من حيث المذاق والسخاء والنكهة وروعة المكان، ويستحق الزيارة.