أسامة مهران يستعيد شعرية السبعينات في مصر

بعد أربعين عاماً يصدر ديوانه الأول «حد أدنى»

أسامة مهران يستعيد شعرية السبعينات في مصر
TT

أسامة مهران يستعيد شعرية السبعينات في مصر

أسامة مهران يستعيد شعرية السبعينات في مصر

بكلمة اعتذارية للقارئ، يدشن الشاعر أسامة مهران ديوانه الأول «حد أدنى» الذي تأخر صدوره طيلة 40 عاماً، محاولاً استعادة مناخ شعراء جيل السبعينات في مصر الذي ينتمي إليه. ويبرر ذلك بالمراجعة والفرز والتمهل والخوف من الفشل، وسط ظروف ومناكفات متشددة في قضايا الفن والواقع، لم يعد فيها «الحسن العربي» خالصاً لنفسه وزمنه وفطرته. لذلك أراد أن يتقدم إليه بأوراق اعتماد «ليست مصابة بجروح، أو معيبة بطموح، أو معنية فقط بتاريخ. كان لزاماً عليّ أن أفرز كل ما يخرج ليعيش». وبتواضع جم، يطلب من القارئ العفو عن التقصير في حقه على مدار كل هذه السنين، ويهيئه لمصالحة يرى أنها «ضرورية بين كل ما كتبت، وكل ما قررت أن أقدمه إلى المتلقي».
نعم، اعتذر الشاعر للقارئ، ولم يعتذر للشعر، قارئه الأول الاستثنائي، الشعر ابن الحياة والجمال، ينتفض الزمن ويلهو فيه كطفل، ويتسابقان على من يلمس الحقيقة أولاً. ثم ماذا لو لم يوجد القارئ، هل يكف الشاعر عن كتابة الشعر، تماماً مثل الفنان لو لم يوجد المشاهد للوحته، وماذا أيضاً لو اعتذر الشاعر للشجرة أو البحر أو الصمت، بصفتها قراءه، وكراسه المفتوح على براح الطبيعة والجمال، يخط فيه ويمحو ما يشاء من دلالات ورموز، ومعاني وأفكار؛ هل نحسبه مختلاً أو مجنوناً. الشعر لا ينتظر أحداً، لا يحمل حقائب أو جوازات سفر إلى أمكنة محددة، الشعر ينتظر نفسه دائماً.
ورغم ذلك، يبدو هذا الاعتذار وعياً هارباً من الشاعر على مدار كل تلك السنوات، مشكلاً ما يشبه المرثية الخاصة، ليس فقط باعتبار ما كان، وإنما باعتبار ما سيكون، هذه المنطقة المراوغة في حفرة الزمن التي تناور وتلعب فوق سطحها الذات الشاعرة، كأنها تريد أن تستعيد بئرها الأولى، بعد ما لحق بها من عطش وجفاف.
الديوان صدر منذ بضعة أشهر عند دار «الأدهم» للتوزيع والنشر بالقاهرة، ويشكل عنوانه «حد أدنى» عتبة أساسية للوقوف على عالمه الفني... نعم، ثمة حد أدني لكل شيء، بل للوجود نفسه، هناك سقف يجب المحافظة عليه حتى لا نعرى، ونصبح نهباً للفراغ. لكن، ما أقسي الحد الأدنى في الشعر، ابن المغامرة والتجريب المفتوح على كل شيء، بلا فواصل وعقد زمنية سميكة في العناصر والأشياء، هناك قواعد وقوانين وركائز لا حد أدني لها، فجدلها صيرورة دائماً بين الحركة والثبات، بين الوجود في هشاشته وضعفه الإنساني وقوته التي تنهض من بين ركام هذا الضعف، وتحيله إلى نقطة مضيئة كاشفة في مثلث الذاكرة والحلم والواقع، ناهيك من أن معيار الحد الأدنى يشي بأن ماهية الأشياء فيما ينتسب إليها، وليس في كيفية العلاقة بينها وبين هذا الانتساب.
ربما لذلك، يحرص الشاعر دائماً على أن يوفر حداً أدنى من الوضوح لقصيدته ذات البنية التفعيلية الراسخة، فهي مسكونة دائماً بالهم العام، بدلالته السياسية والاجتماعية والتاريخية؛ يحكم هذه الهم مدار القصيدة، ويشكل فاعليتها حتى في علاقة الذات العاطفية بالمرأة والحب والحياة. يلوح هذه الهم في الديوان، ويراوح بين الوضوح، ابن المباشرة الممسوسة بما يمكن تسميته «واقعية اللحظة»، وبينه حين يتخفى في غلالة الرمز والدلالة. يطالعنا ذلك في قصيدة «مشربية من زمن المعز» التي يستهل بها الديوان، ويقول فيها:
«منذ سلامة مقصدنا
دمدمتُ
هل ما يفعله نخيلُ الرغبة
في أنفسنا يشفع للمتشفَّي
فينا أن يرتاحْ
أن يصفح عنَّا
أو يمنحنا سر المفتاحْ؟
هل ما ترقبه أيدينا
أو ما تنثره سوءاتُ مشاربنا
أو ما ينقصنا في حَلق معانينا
يسمح ببكاء آخر
أو فَرحْ؟
قد تنغمس اللذة في الأوجاع
وفي الجرح.
قد يندمل الإسهابُ
وقد يكتمل الشرح».
يتوجه الخطاب بشكل ضمني إلى المعز لدين الله الفاطمي، مؤسس مدينة القاهرة، في شكل رسالة مسكونة بالسؤال والحنين إلى لحظة غابرة لا تزال روائحها تفوح في غبار التاريخ والأيام. وبنظرة انتقائية، تتخذ القصيدة من رمزية «المشربية - الشرفة» دلالة على ذلك الزمن، لكن البون يتسع فنياً بين الرمز والدلالة، بين المشربية بنسقها «الأرابيسك» الفني المعشق، وجماليات تكرار العناصر والوحدات ودقة وبراعة التكوين، وبين القصيدة التي اعتورها أحياناً تعسف القافية ولي عنق اللغة من أجل الوصول إليها. وفي مقابل زمن المشربية بصفتها مرثية شعرية، يتراءى الحاضر المسفوك بالدم والذبح الذي لا يعرف كيف يرثي نفسه في «فوضي الأشياء الصغيرة» وفي «رمية قرص».
وتتكشف مأساوية الحاضر في قصيدة أخرى أكثر تماسكاً وانسجاماً، على مستويي الرؤية والتشكيل، بعنوان «أجراس معلقة على مآذن المعز»، حيث تبدو القاهرة صوتاً آخر، ومدينة أخرى، ابنة لحظتها الخاصة، ويتماهى سؤال الذات بالبحث عن الأنثى الخلاص، المستحيلة، وسط مشاهد من أجواء ثورة 25 يناير (كانون الثاني) تطل كوميض خافت، بزخمها في الشوارع والحناجر والميادين، بينما تتحول مآذن المعز وأجراسها وسط الغبار إلى رمز لصلاة منسية محرمة مجروحة على أرواح ضحايا وشهداء اغتالتهم يد الغدر والخيانة:
«لا أعرف من أين أتيتِ؟
وإلى أين ذهبت؟
ولماذا تنتصرين الآن على نفسكِ؟
هل كانت كل مقاومتكِ إفكاً
يتحكم في مشروع حياتي؟
هل أنفض عن جسدي
حِملَ كراماتك
وأطارد روحاً شريرة بفتات الصدقات؟
لا ينفع أن أتسامح أو أتصافحَ
في عز الثورات
فجميع القتلة مشغولون بوأد الفتنة
واستقبال العام القادم
كُفِّي عن غضبك سيدتي
وكفاكِ ظهوراً في المرآة».
يحتشد الديوان برموز الفيضان والنهر والخصب والرذاذ، والمطر والميدان، كما تتناثر بقع من الحزن والبكاء والفقد والرحيل والهديل، وأحياناً يضع نفسه في المفارقات الثنائية المتعارضة، محاولاً كسر المسافة وتضييق الفجوة بينها، والبحث عن مشترك إنساني يلم شتاتها، ولو في شكل بوح خاطف ومناجاة شجية لا تجد سوى حرقة المقارنة سبيلاً للوصول إلى الوطن، أو الأنثى، أو الحرية، أو إلى اللاشيء، فليس ثمة ما يوحد بين «أنتِ وأنا» سوي حرف «الواو» المضطرب الملول الذي يقبع مجرد أداة وعلامة عابرة للعطف والشفقة بين كيانين يفتشان عن ظل آخر يوحد بينهما في متاهة الحياة.
ربما لذلك، دائماً يطل الحاضر بدواله ورموزه في الديوان مشوباً بالخوف والقلق والتوتر، كما أنه لا يطل على ذاته من نافذة تخصه، إنما من نافذة بلاغة تقليدية وماض لا يعرف كيف يفارقه، ليلتصق به بإرادة حرة وعين أكثر اتساعاً وحيوية على المستقبل والوجود:
«كان الماضي الأجمل
يتوارى في الأذهان
يطل علينا من وادٍ
ينتحل النسيان
وعيونُ الصُّبح المرهقة الرؤيا
تتجلى في نظرة عشقٍ
في لفتة فنانْ
لبلادٍ جاءتْ
وبلاد رحلت
من دون مكان».
ويتناثر جدل الصدى والصوت، الصورة والأصل، في كثير من قصائد الديوان، في محاولة لإبراز حسية الصوت واللغة، وكسر أحادية المشهد واللقطة والرؤية، بحثاً عن مرثية خاصة للذات، والحلم والوطن والأشياء، مرثية تشبه النغم والأغنية، والمغفرة أحياناً. هنا، يرتفع إيقاع الغنائية في الديوان، وتصبح المرثية بمثابة صدى للحن قديم يتسلق أسوار الذاكرة والحلم، ويكمل دورته حضوراً وغياباً في ظلالهما... هكذا، يبدو المعنى في قصيدة بعنوان «وطني وصباي وأحلامي» تتناص مع أغنية عاطفية شهيرة بالاسم نفسه، توحد بين معنى الوطن والأنثى:
«أسميتكِ
تاريخ ميلادي
وحصوة ملحٍ
من طينة أجدادي
لن أسألكِ
عن لون طباعك
عن قفاز ذراعك
عن شكلكِ حين تلمين
الضوءَ الخافت
من جوف الأبعاد
لا أغزو صفحتك الرسمية
كي أعرف عنك
ما لا أعرفه بحرية
لم أفرض نفسي
أو أرمي حملي الأثقل
في حيرة عينيك
أو رعشة كفيك».
وبعد... لم يستطع أسامة مهران أن ينتظر وصول قطار السبعينات الشعري في موعده، فحمل حقيبة شعره الغض ورحل عن البلاد، وها هو يعود بعد كل هذه السنوات، بعدما وصل القطار وغادر المحطة إلى محطات كثيرة، لكن لا بأس من أن يفرغ حقيبته، ويتأمل في هذا الديوان وأعمال أخرى لاحقة، صورة أخرى لقطار آخر أرجو أن يصل إليه بحب وشعر.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.