كيف أدى اختفاء «الأخبار المتجردة» إلى خسارة الإعلام الأميركي الحياد والثقة؟

في عام انتخابي غير مسبوق

ترمب مع ليزلي ستال
ترمب مع ليزلي ستال
TT

كيف أدى اختفاء «الأخبار المتجردة» إلى خسارة الإعلام الأميركي الحياد والثقة؟

ترمب مع ليزلي ستال
ترمب مع ليزلي ستال

مع بدء العد التنازلي لمغادرة الرئيس دونالد ترمب البيت الأبيض، يتساءل البعض عما إذا كان وحده يتحمل المسؤولية عن تراجع الثقة بالإعلام الأميركي، أم أن ثمة أسباباً أخرى أبعد وأكثر جذرية تتحمّل المسؤولية أيضاً؟
يراهن البعض على أن مغادرة ترمب قد تعيد الهدوء والسكينة إلى قطاع الإعلام برمّته، وتقدم فرصة لهذا الإعلام لإجراء مراجعة ذاتية لتقييم مسؤوليته الخاصة عن تراجع الثقة به، قبل الحديث عن مسؤولية الآخرين.
في مطلق الأحوال، لا شك أن ترمب لعب دوراً كبيراً في تعميق حالة انعدام الثقة هذه. وإذا ما عدنا على الأقل إلى المقابلة الشهيرة التي أجرتها معه الصحافية ليزلي ستال عام 2016. في برنامج «60 دقيقة» على محطة «سي بي إس»، لأمكن لنا تقدير «الضرر» الذي أحدثه.
ستال سألت ترمب عن سبب تركيزه على وسائل الإعلام كثيراً، فأجابها: «كلما أمعنت في ذلك، لن يعود في النهاية أحد يصدّقها». وبالفعل، بعد 4 سنوات لعل هذا ما جرى تماماً. إذ إن الثقة بالأعمال الإخبارية هي الآن في أدنى مستوياتها، بحسب كثير من الدراسات واستطلاعات الرأي الأميركية. بل إن كثيراً من الصحافيين والمراسلين ومقدّمي البرامج يعربون عن مخاوفهم، ويشكون من الصعوبات التي باتت تواجههم أثناء قيامهم بعملهم. كما أن التقرير الدولي عن الحريات الإعلامية أشار هذا العام إلى تزايد حالات تعرّض الصحافيين الأميركيين لمضايقات وتهديدات وقيود لم يعهدوها في السابق.
لكن هل الرئيس ترمب وحده هو الذي يتحمّل المسؤولية... أم أن تغييراً كبيراً طرأ على طريقة بناء الأخبار وتقديمها؟
يقول كثير من الخبراء إن اختلال الدفة لمصلحة «الانحياز» بدلاً من «التوازن»، لعب دوراً مهماً في مراكمة عقود من قلة الثقة بالإعلام. لقد كان الإعلام الأميركي حتى منتصف الثمانينات يعيش وفق قيود ينظمها قانون اتحادي يقوم على «مبدأ الإنصاف» في صناعة الأخبار، إلى أن تراجع الرئيس الراحل رونالد ريغان عنه عام 1987. رافعاً تلك القيود لمصلحة قيام «السوق الحر» بحجة أنه يستطيع تنظيم نفسه بنفسه بشكل أفضل. ولكن بدلاً من أن يتمكّن منطق «السوق الحر» من تطوير الإعلام، رأيناه ساعد في تقسيم المؤسسات الإعلامية وتنشئة جمهور مستقطب وموزّع على تلك المؤسسات بحسب نسبة التحريض التي يتلقاها. ومن ثم، شهدت الفترة التي تلت التخلي عن مبدأ الإنصاف، صعوداً سريعاً للبرامج الحوارية المحافظة، متأثرة بالموقع الذي كان يحتله ريغان، بقيادة مقدّم البرامج اليميني المتشدد الشهير راش ليمبو.
وفي تحوّل آخر، إثر ظهور خدمة «الكايبل» في منتصف تسعينات القرن الماضي، ودخول محطات إخبارية رئيسية كمحطتي «فوكس نيوز» اليمينية و«إم إس إن بي سي» الليبرالية إليه، كان لا يزال بالإمكان التحدث عن برامج إخبارية مباشرة ومقاطع من مقابلات، مع مذيعين مشهورين مثل شون هانيتي وآلان كولمز وتوم بروكو وغيرهم.
بيد أن الوضع أخذ يتغير شيئاً فشيئاً مع دخول «نجوم» آخرين، مثل بيل أورايلي، في «فوكس نيوز» في برنامجه الشهير «أورايلي ريبورت» وكيث أولبرمان في «إم إس إن بي سي» وبرنامجه «ذي بيغ نيوز» (أو «الأخبار الكبيرة»،) ولاحقاً في عام 2006 مع برنامجه «العد التنازلي» الذي اعتبر انحرافاً سياسياً مع «تعليقاته الخاصة»، في خطاب بات يستهدف شريحة خاصة من الجمهور.
منذ ذلك الحين، فشلت كل محاولات الاستدراك التي حاولت تلك المحطات القيام بها للعودة إلى «الأخبار الصافية» أو المتجردة والموضوعية، بما فيها محطة «سي إن إن» التي كانت لا تزال تحافظ على بعض الحيادية، وذلك حين شنّ جون ستيوارت عام 2004. مضيف برنامج «ديلي شو»، حملة ضد برنامج «كروس فاير» للقناة نفسها الذي كان يقدم وجهتي نظر؛ واحدة يسارية عبر المذيع بول بيغالا، وأخرى يمينية عبر المذيع تاكر كارلسون.
ستيوارت أصرّ خلال مشاركته شخصياً في هذا البرنامج على القول إنه يضرّ بأميركا، لتلغيه المحطة بعد عام واحد. لكن إلغاء «سي إن إن» البرنامج لم يؤدِّ إلى النتيجة المتوخاة؛ حيث أظهرت الإحصاءات تراجعاً في تصنيفاتها وأرباحها، مقابل ارتفاع أرقام «فوكس نيوز» و«إم إس إن بي سي».
وهكذا، ظهر بوضوح أن الأخبار المباشرة لم تكن جيدة بالنسبة للأعمال. ومن المعروف أن القانون الأميركي يمنع على الحكومة الأميركية أن تكون لديها وزارة للإعلام، أو أي «إعلام رسمي»، بل يسمح لها فقط بتقديم مساعدات متوازنة لمؤسسات إعلامية محلية أو لمحطات وإذاعات تبث فضائياً، وليس على الأراضي الأميركية، عبر هيئة تدعى «الوكالة الأميركية للإعلام الدولي». ليجد الإعلام الأميركي نفسه أمام سندان الحقيقة ومطرقة الربح. وهي ضريبة لا يمكن قول كلمة الفصل فيها، في ظل معادلة «الخوف على حرية التعبير والحفاظ على مصادر التمويل».
وهكذا، تحت ضغط «زيادة عدد المشاهدين» في محطات مموّلة بشكل كامل من القطاع الخاص، واجه المسؤولون التنفيذيون في تلك الوسائل الإعلامية، معضلة كبيرة في الحفاظ على ثقة الجمهور التي كانت تتراجع بشكل كبير.
فالأخبار المتجردة والموضوعية ليست عاملاً جاذباً أو كافياً، في حين أن «التحريض» والإثارة والاستقطاب عناصر تكسب على الأقل شريحة كبيرة ومضمونة من المتابعين، ولو على حساب صدقية وسائل الإعلام الناشط على ضفتي الانقسام السياسي الحاد. وهذا الانقسام عبّرت عنه انتخابات عام 2020 بشكل لا مثيل له.
وفي متابعة بسيطة لكبريات محطات التلفزيون الأميركية والراديو، حتى الصحف والمجلات اليومية والدورية، بل كذلك وسائل النشر الأخرى، سواء كانت إلكترونية أم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بات من الصعب العثور على ما يسمى «نشرة أخبار يومية».
ما عادت «الأخبار» الصافية تذاع كما هي، وكما حصلت، من دون تدخل رأي المراسل أو المذيع أو معد البرنامج حتى ناشر التعليق. أيضاً اختفت «المواجز» الإخبارية عن بدايات أي برنامج، سواء أكان تلفزيونياً أم إذاعياً. ورأى البعض أن هذا كان تحولاً في «الحمض النووي» لعالم الأخبار، لا بد من الاعتراف به. وهكذا، بحلول عام 2016 ومقابلة ليزلي ستال مع ترمب، كان «الحمض النووي» للأخبار التلفزيونية قد تغيّر بالفعل، واستفاد منه ترمب بلا أدنى شك.
لقد باءت بالفشل كل الجهود لإحياء مبدأ الإنصاف، مع تغير الإعلام، سواء عبر التلفزيون والكايبل والراديو وخدمات البث ومدوّنات الإنترنت والمواقع الإلكترونية ومنافذ وسائل التواصل الاجتماعي. إنها لا شك مهمة شاقة، مع أن هناك من يقول إن وسائل الإعلام الرئيسة لا تحتاج إلى قوانين فيدرالية للعودة إلى مبدأ الإنصاف. لكن بوسع هذه الوسائل العمل على اعتماد تصنيفات تمكن المشاهد والمستمع والقارئ من معرفة ما يعرض عليه.
وقد يكون المدخل نحو تحقيق هذا الهدف هو العودة إلى تقديم مادة إخبارية موضوعية محايدة، تترك للمتابعين اختيار البرنامج الحواري عبر إعادة الاعتبار إلى مبدأ «لكل شخص الحق في رأيه الخاص، ولكن ليس الحقائق الخاصة به».
حسب تقرير لصحيفة «ذي هيل» الإلكترونية، يجب على المؤسسات الإخبارية نشر دليل للمصطلحات المختلفة، يشير بشكل واضح للتصنيفات التحريرية مثل «التحليل» و«تقرير المراسل» و«وجهة النظر» و«المذكرة السياسية». وهي إشارات لا تزال تراها في بعض المطبوعات الأميركية، بينما تواصل بعض الصحف والمطبوعات اليومية العربية الحفاظ على تلك التصنيفات التحريرية.
وهنا تنبغي الإشارة إلى أن محطاتنا العربية ما زالت بصفة عامة تلتزم بتقديم مادة إخبارية، على الرغم من ساعات بث البرامج السياسية المتواصلة، التي لا تزال تُستهل بمواجز إخبارية ولو كانت «منتقاة»، وبنشرات إخبارية دورية يومية.
ويختم تقرير «ذي هيل» بالقول إنه «لاستعادة الثقة بالإعلام لا تفترض الاستفادة فقط من مغادرة ترمب، بل العودة إلى تقاليد العمل الصحافي الموضوعي والمحايد، لأنه بزوال الثقة لن يتبقى شيء سوى الصراخ والشتائم، ليتحول الأمر إلى مجرد ترفيه، وهو بالتأكيد ليس أخباراً».



تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)
TT

تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)

أثارت نتائج دراسة حديثة تساؤلات عدة بشأن دور التلفزيون في استعادة الثقة بالأخبار، وبينما أكد خبراء وجود تراجع للثقة في الإعلام بشكل عام، فإنهم اختلفوا حول الأسباب.

الدراسة، التي نشرها معهد «نيمان لاب» المتخصص في دراسات الإعلام مطلع الشهر الحالي، أشارت إلى أن «الثقة في الأخبار انخفضت بشكل أكبر في البلدان التي انخفضت فيها متابعة الأخبار التلفزيونية، وكذلك في البلدان التي يتجه فيها مزيد من الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار».

لم تتمكَّن الدراسة، التي حلَّلت بيانات في 46 دولة، من تحديد السبب الرئيس في «تراجع الثقة»... وهل كان العزوف عن التلفزيون تحديداً أم الاتجاه إلى منصات التواصل الاجتماعي؟ إلا أنها ذكرت أن «الرابط بين استخدام وسائل الإعلام والثقة واضح، لكن من الصعب استخدام البيانات لتحديد التغييرات التي تحدث أولاً، وهل يؤدي انخفاض الثقة إلى دفع الناس إلى تغيير طريقة استخدامهم لوسائل الإعلام، أم أن تغيير عادات استخدام ومتابعة وسائل الإعلام يؤدي إلى انخفاض الثقة».

ومن ثم، رجّحت الدراسة أن يكون سبب تراجع الثقة «مزيجاً من الاثنين معاً: العزوف عن التلفزيون، والاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي».

مهران كيالي، الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا» في دولة الإمارات العربية المتحدة، يتفق جزئياً مع نتائج الدراسة، إذ أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «التلفزيون أصبح في ذيل مصادر الأخبار؛ بسبب طول عملية إنتاج الأخبار وتدقيقها، مقارنة بسرعة مواقع التواصل الاجتماعي وقدرتها على الوصول إلى شرائح متعددة من المتابعين».

وأضاف أن «عدد المحطات التلفزيونية، مهما ازداد، لا يستطيع منافسة الأعداد الهائلة التي تقوم بصناعة ونشر الأخبار في الفضاء الرقمي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي». إلا أنه شدَّد في الوقت نفسه على أن «الصدقية هي العامل الأساسي الذي يبقي القنوات التلفزيونية على قيد الحياة».

كيالي أعرب عن اعتقاده بأن السبب الرئيس في تراجع الثقة يرجع إلى «زيادة الاعتماد على السوشيال ميديا بشكل أكبر من تراجع متابعة التلفزيون». وقال إن ذلك يرجع لأسباب عدة من بينها «غياب الموثوقية والصدقية عن غالبية الناشرين على السوشيال ميديا الذين يسعون إلى زيادة المتابعين والتفاعل من دون التركيز على التدقيق». وأردف: «كثير من المحطات التلفزيونية أصبحت تأتي بأخبارها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فتقع بدورها في فخ الصدقية والموثوقية، ناهيك عن صعوبة الوصول إلى التلفزيون وإيجاد الوقت لمشاهدته في الوقت الحالي مقارنة بمواقع التواصل التي باتت في متناول كل إنسان».

وحمَّل كيالي، الهيئات التنظيمية للإعلام مسؤولية استعادة الثقة، قائلاً إن «دور الهيئات هو متابعة ورصد كل الجهات الإعلامية وتنظيمها ضمن قوانين وأطر محددة... وثمة ضرورة لأن تُغيِّر وسائل الإعلام من طريقة عملها وخططها بما يتناسب مع الواقع الحالي».

بالتوازي، أشارت دراسات عدة إلى تراجع الثقة بالإعلام، وقال معهد «رويترز لدراسات الصحافة»، التابع لجامعة أكسفورد البريطانية في أحد تقاريره، إن «معدلات الثقة في الأخبار تراجعت خلال العقود الأخيرة في أجزاء متعددة من العالم». وعلّق خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، من جهته بأن نتائج الدراسة «غير مفاجئة»، لكنه في الوقت نفسه أشار إلى السؤال «الشائك»، وهو: هل كان عزوف الجمهور عن التلفزيون، السبب في تراجع الصدقية، أم أن تراجع صدقية الإعلام التلفزيوني دفع الجمهور إلى منصات التواصل الاجتماعي؟

البرماوي رأى في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «تخلّي التلفزيون عن كثير من المعايير المهنية ومعاناته من أزمات اقتصادية، دفعا الجمهور للابتعاد عنه؛ بحثاً عن مصادر بديلة، ووجد الجمهور ضالته في منصات التواصل الاجتماعي». وتابع أن «تراجع الثقة في الإعلام أصبح إشكاليةً واضحةً منذ مدة، وإحدى الأزمات التي تواجه الإعلام... لا سيما مع انتشار الأخبار الزائفة والمضلّلة على منصات التواصل الاجتماعي».