ذكريات ومواقف... من عصا المعلم إلى قلم الرقيب الجائر

الردادي في سيرته بمحطته الإعلامية والثقافية خلال ثلاثة عقود

ذكريات ومواقف... من عصا المعلم إلى قلم الرقيب الجائر
TT

ذكريات ومواقف... من عصا المعلم إلى قلم الرقيب الجائر

ذكريات ومواقف... من عصا المعلم إلى قلم الرقيب الجائر

برزت في السعودية خلال السنوات القليلة الماضية ظاهرة جديدة خالفت ما كان مألوفاً في موضوع كتابة السير الذاتية بإقدام البعض على كتابة سيرتهم الذاتية بقلم أصحابها، بعد أن كان مألوفاً أن يكتب عنهم آخرون سيرهم: إما في حياتهم أو بعد مماتهم، وهو ما فعله الدكتور عائض بن بنيّه بن سالم الردادي في كتاب حمل اسم «من مدرسة الصحراء... خطوات ومحطات – شيء من سيرة إعلامية وثقافية».
وقع الدكتور الردادي في ذات الإشكالية التي تقلل من أهمية كتابة السير بقلم أصحابها بسبب ممارسة الرقابة الذاتية وهو ما يغيّب أشياء مهمة تفيد القارئ في جوانب مهمة من المحطات التي تتناولها السير. اختصر الردادي كل ما يريده لسيرته التي صدرت مؤخراً بالقول: «لسيرتي ثلاثة جوانب: عائليٌّ وإعلاميٌّ وثقافيٌّ، أما العائلي فخلا منه هذا الكتاب بسبب أني أصدرت كتاباً بعنوان (جدي جمال... سيرة عائلية) كتبت فيه سيرة تاريخية اجتماعية عائلية لعائلتي من القرن العاشر الهجري إلى وقتنا الحاضر، إضافةً إلى أنني كتبت شيئاً منها، تحت عنوان (بوح وذكريات من المهد إلى اللحد)، لذلك لم أتطرق للسيرة العائلية هنا».
يقول عن ذلك : «مدرسة الصحراء هو اسم حقيقي للمدرسة الابتدائية في قرية المسيجيد (غرب المدينة المنورة) التي بدأت منها خطوات التعليم، وليس اسماً مجازياً، فهي بداية حياتي وكتبت تحت العنوان (شيء من سيرة إعلامية وثقافية)، في إشارة إلى أن ما ورد في هذا الكتاب شيء وأنه غابت عنه أشياء».
وذكر الردادي أنه من خلال عمله بالإعلام عرف كثيراً من الرجال ومن أشباه الرجال، وعرف صاحب الموقف الثابت والآخر المتقلب، والمبتسم حقيقة والمبتسم خداعاً أو تزييفاً. وفي الثقافة عرف «مَن يحترق من أجل أمته، ومن لا يرى إلا وجاهة أو كسب قوت، فالتجارب تكشف المعادن، فقد تسمع عن شخصية فإذا لقيتها قلت: ليتها بقيت على صورتها الخيالية». وعرف في الإعلام السهر والقلق الذي يلاحقه حتى في النوم، وعرف فيه المسؤول الذي يقدّر الجد والعمل، والآخر الذي يضيق صدره بكلمة طيبة وقد يضطرم صدره غَيْرة.
وبالمقابل، وجد في الإعلام والثقافة من يحمل على كاهله رسالة فيقلق، معتبراً أن أصعب موقف عاشه في الإعلام -على كثرة ما فيه من قلق- حينما وجهة إليه عقوبة لفت نظر لإلقائه محاضرات عامة ويشارك في المنتديات الثقافية وأنه «لا بد من الاستئذان المسبق، ولا بد من الاطلاع على نص المحاضرة الثقافية قبل موعد المناسبة»، وهو ما اضطره إلى أن يعتذر لنادي الطائف الأدبي بعد إعداد محاضرة «محمد كبريت المدني: أدبه ومؤلفاته» حين طلبوا الإسهام بمحاضرة ثقافية، متعللاً بعذر خارج عن إرادته، ووجد أن هذا أهون عليه من عرض محاضرته على مَن لا علاقة له بها، فالعمل الفكري ليس من واجبات الوظيفة. وفعل الشيء نفسه مع منتديات ثقافية أخرى، ومع دعوات لندوات أو مؤتمرات، حتى وجد نفسه في ضيق أدى إلى طلبه إجازة وأتبعها بطلب التقاعد غير أنه جاء تعيينه في مجلس الشورى حائلاً دون ذلك.
وذكر الردادي في هذه السيرة إلى أنه ألزم نفسه بعد ذكر يذكر موقفاً بعينه أو أشخاصاَ بدءاً من ذلك المعلم الذي كان يحمل عصاه في المدرسة الابتدائية ليضرب طلاباً صغاراً ناعمي الأصابع لم يعرفوا حل مسألة حسابية بدلاً من شرحها لهم، إلى ذلك المسؤول الذي شهر قلمه ضد الإنتاج الفكري والثقافي.



مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
TT

مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)

«زهوري اليانعة في داخل خميلة»... كلمات للشاعر الجاغريو، وهي نفسها الكلمات التي اختارها الفنان التشكيلي السوداني صلاح المر، لوصف السنوات التي قضاها في مصر، والأعمال الإبداعية التي قدّمها خلالها، وضمنها في البيان الخاص بأحدث معارضه بالقاهرة «احتفالية القرد والحمار».

تنقل المر خلال 15 عاماً قضاها في مصر ما بين حواري الحسين، ومقاهي وسط البلد، وحارات السبتية، ودروب الأحياء العتيقة، متأثراً بناسها وفنانيها، ومبدعي الحِرف اليدوية، وراقصي المولوية، وبائعي التحف، ونجوم السينما والمسرح؛ لتأتي لوحاته التي تضمنها المعرض سرداً بصرياً يعبّر عن ولعه بالبلد الذي احتضنه منذ توجهه إليه.

لوحة لرجل مصري مستلهمة من صورة فوتوغرافية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول المر لـ«الشرق الأوسط»: «أعمال هذا المعرض هي تعبير صادق عن امتناني وشكري البالغين لمصر، ويوضح: «جاءت فكرة المعرض عندما وقعت عقد تعاون مع إحدى الغاليريهات المعروفة في الولايات المتحدة، وبموجب هذا العقد لن أتمكن من إقامة أي معارض في أي دول أخرى، ومنها مصر التي عشت فيها أجمل السنوات، أردت قبل بدء الموعد الرسمي لتفعيل هذا الاتفاق أن أقول لها شكراً وأعبّر عن تقديري لأصحاب صالات العرض الذين فتحوا أبوابهم لأعمالي، والنقاد الذين كتبوا عني، والمبدعين الذين تأثرت بهم وما زلت، وحتى للأشخاص العاديين الذين التقيت بهم مصادفة».

اللوحات تقدم مشاهد مصرية (الشرق الأوسط)

استلهم الفنان 25 لوحة بخامة ألوان الأكريلك والأعمال الورقية من مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية والـ«بوستال كارد» المصرية القديمة، التي تعكس بدورها روعة الحياة المصرية اليومية، ودفء المشاعر والترابط المجتمعي فيها وفق المر: «لدي نحو 5 آلاف صورة مصرية، جمعتها من (الاستوديوهات) وتجار الروبابكيا، ومتاجر الأنتيكات، ومنا استلهمت لوحاتي».

ويضيف: «مصر غنية جداً باستوديوهات التصوير منذ عشرات السنين، ولديها قدراً ضخماً من الصور النادرة المُلهمة، التي تحكي الكثير عن تاريخها الاجتماعي».

الفنان صلاح المر (الشرق الأوسط)

يستطيع زائر المعرض أن يتعرف على الصور الأصلية التي ألهمت الفنان في أعماله؛ حيث حرص المر على أن يضع بجوار اللوحات داخل القاعة الصور المرتبطة بها، ولكن لن يعثر المتلقي على التفاصيل نفسها، يقول: «لا أقدم نسخة منها ولا أحاكيها، إنما أرسم الحالة التي تضعني فيها الصورة، مجسداً انفعالي بها، وتأثري بها، عبر أسلوبي الخاص».

لوحة مأخوذة عن صورة لطفل مصري مع لعبة الحصان (الشرق الأوسط)

تأتي هذه الأعمال كجزء من مشروع فني كبير بدأه الفنان منذ سنوات طويلة، وهو المزج ما بين التجريد التصويري والموضوعات ذات الطابع العائلي، مع الاحتفاء بالجماليات الهندسية، والرموز التراثية، والاستلهام من الصور، ويعكس ذلك ولعه بهذا الفن، تأثراً بوالده الذي عشق الفوتوغرافيا في شبابه.

يقول: «بدأ تعلقي بالفوتوغرافيا حين عثرت ذات يوم على كنز من الصور في مجموعة صناديق كانت تحتفظ به الأسرة في مخزن داخل المنزل بالسودان، وكانت هذه الصور بعدسة والدي الذي انضم إلى جماعة التصوير بكلية الهندسة جامعة الخرطوم أثناء دراسته بها».

لوحة مستلهمة من صورة قديمة لعروسين (الشرق الأوسط)

هذا «الكنز» الذي عثر عليه المر شكّل جزءاً مهماً من ذاكرته البصرية ومؤثراً وملهماً حقيقياً في أعماله، والمدهش أنه قرر أن يبوح للمتلقي لأول مرة بذكرياته العزيزة في طفولته بالسودان، وأن يبرز دور والده في مشواره الفني عبر هذا المعرض؛ حيث يحتضن جدران الغاليري مجسماً ضخماً لـ«استوديو كمال»؛ وهو اسم محل التصوير الذي افتتحه والده في الستينات من القرن الماضي.

لوحة تعكس تفاصيل مصرية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول: «أقنع والدي جدي، بإنشاء استوديو تصوير بمحل الحلاقة الخاص به في (سوق السجانة) بالخرطوم، وتم تجهيز الاستوديو مع غرفة مظلمة من الخشب للتحميض، وذلك في الجزء الخلفي من الدكان».

وجوه مصرية (الشرق الأوسط)

وداخل المجسم تدفع المقتنيات الخاصة المتلقي للتفاعل مع ذكريات المر، والمؤثر الفني الذي شكل أعماله؛ ما يجعله أكثر تواصلاً، وتأثراً بلوحات المعرض؛ فالمتلقي هنا يستكشف تفاصيل تجربة الوالد في التصوير، بل يمكنه التقاط صور لنفسه داخل محله القديم!

وأثناء ذلك أيضاً يتعرف على جانب من تاريخ الفوتوغرافيا، حيث المعدات، وهي عبارة عن الكاميرا YASHIKA التي تستخدم أفلام مقاس 621 وEnlarger والستارة التي تعمل كخلفية وأدوات أخرى للتحميض والطباعة، وتجفيف الفيلم والصور بواسطة مروحة طاولة، وقص الصور بمقص يدوي: «استمر العمل لمدة سنة تقريباً، وأغلق الاستوديو قبل أن أولد، لكن امتد تأثير هذه التجربة داخلي حتى اللحظة الراهنة».

مجسم لاستوديو والد الفنان في الغاليري (الشرق الأوسط)

«احتفالية القرد والحمار» هو اسم «بوستال كارد» عثر عليه الفنان لدى تاجر روبابكيا، ويجسد مشهداً كان موجوداً في الشارع المصري قديماً؛ حيث يقدم أحد الفنانين البسطاء عرضاً احتفالياً بطلاه هما القرد والحمار، ومنه استلهم الفنان إحدى لوحات معرضه، ويقول: «تأثرت للغاية بهذا الملصق؛ وجعلت اسمه عنواناً لمعرضي؛ لأنه يجمع ما بين ملامح الجمال الخفي في مصر ما بين الفن الفطري، والسعادة لأكثر الأسباب بساطة، وصخب المدن التي لا تنام».