Saraband (2004)
برغمن يكمل قصة حب عمرها 30 سنة
تبدأ قصة «ساراباند» لإنغمار برغمن بعد 30 سنة على انتهاء قصة فيلمه «مشاهد من زواج» الذي حققه سنة 1973. في ذلك الفيلم تعرّفنا على ماريان (ليف أولمن) وزوجها يوهان (إرلاند جوزفسون) متزوّجان ولكل منهما، وحسب اهتمامات المخرج الراحل شبه الدائمة، أسراره الخاصة التي تؤدي إلى أزمات نفسية وعاطفية تسهم في تأرجح العلاقة والنظام الزوجي بأسره.
في الفيلم الجديد يتحدّث المخرج عن حياة هذا الثنائي بعد ثلاثة عقود. لكن برغمن كان صرّح بأن بطلاً هذا الفيلم لا علاقة لهما بالثنائي السابق. هذا كان، ولا يزال، مثيراً للغرابة لأنه اختار ذات الممثلين لبطولة هذا الفيلم ليلعبا ذات الشخصيّتين، ماريان ويوهان، ولأن الحكاية تقوم في الأساس على لقائهما وعلاقتهما المتجددة التي كانت توقفت بعد أحداث الفيلم الأول.
بما أن برغمان لا يمكن له أن يكون وقع في الخطأ سهواً، فإنه من المحتمل أن «ساراباند» هو في ظاهره تكملة لـ«مشاهد من زواج» وفي عمقه هو أكثر من مجرد تكملة.
يبدأ الفيلم بماريان تستعرض صوراً فوتوغرافية من الماضي فرشتها على طاولة. المشهد تمهيد تتحدّث فيه للكاميرا عن أشياء حياتها وعن رغبتها في زيارة يوهان الذي تراه لأول مرة منذ الطلاق قبل أن تنتقل الكاميرا بها إلى المشهد الأول مباشرة في زيارة ليوهان.
الطريقة التي تعامل فيها ماريان الكاميرا ليست طريقة برغمن السابقة حين كانت الشخصيات تبوح بما يخامرها من أفكار في لقطات طويلة، من دون أن تعترف بوجود الكاميرا كشريك مباشر. بكلمات أخرى البوح في «مشاهد من زواج» أو «برسونا» أو «ساعة الذئب» وسواها من أفلام تلك الفترة الذهبية لبرغمَن، قام على الاعتراف بوجود الكاميرا كوسيط طبيعي بينها وبين المُشاهد. أما هنا فإن الكاميرا في هذا المشهد تبدو كما لو كانت الحائل بين ماريان وبين الجمهور. تتحدث ماريان إلى الكاميرا أساساً وليس إلينا أوّلاً.
الأغرب هو ما يقع مباشرة بعد ذلك. تنظر ماريان إلى الكاميرا وتقول «هذا كان خطأ»، وبذلك يلغي المخرج المباشرة المذكورة ويدلف ببطلته وبأحداثه إلى السرد المعتاد. من هذه اللحظة ماريان هي الكاميرا بمعنى أنها ستدخل حياة يوهان وعائلته الصغيرة لترصد حياتهم. من هنا أيضاً فإن المشاهد العشرة التالية (ثم خاتمة نعود بها إلى ماريان وطاولتها من الذكريات) هي برغماتية على النحو المألوف بالنسبة إليه، حيث الحديث هو مرتع للذكريات ومفتاح لصدر ينوء بما يحمله من آلام. وحيث المشاهد طويلة أحياناً وغير مبتسرة تُمعن النظر إلى الوجوه والأيدي وتصرفاتها.
بقدر ما تبدو ماريان أقدر على حسم مواقفها وإغلاق ملفاتها السابقة بقدر ما يبدو يوهان تائهاً في عواطفه. يرفضها في مطلع الأمر ثم يقبل بها. هو ما زال يبحث عن الحب الذي لم يجده بين فراقه عنها (وموت زوجته الثانية) وهي الواثقة من نفسها والمدركة أن الحب لا يمكن أن يعود لسابق عهده بينهما.
حين يسألها إذا ما أحبّته يوماً تُجيب «لا أعرف». ربما من غير العجيب إذن أن بحث يوهان لا ينتهي لأن ما بدا حبّاً آنذاك ربما لم يكن. هنا نرى برغمن ما زال على براعته في توظيف اللقطات مثل أعين مصرّة على التقاط الخلجات والإيحاءات. براعته في إدارة ممثليه وبراعة الممثلين في الاندماج جيداً داخل أسلوبه ما زالت مشهودة. وفي نهاية المطاف أنجز المخرج فيلماً مهمّاً آخر وإن لم يكن مساوياً لأعماله السابقة بالضرورة.