شهدت منطقة الخليج العربي كثيراً من التطورات التي كان لها تأثير جسيم على أمن المنطقة واستقرارها. وقد سلطت أحداث عام 2020 الضوء مرة أخرى على الحاجة الملحة للنظر في نهج مختلف نحو الأمن الإقليمي وإدارة الصراعات في المنطقة، في ظل عدم فاعلية النماذج الحالية.
كانت المنطقة على شفا حرب شاملة بسبب التوترات الحادة على مدار العام الماضي، مثل الهجمات على الملاحة في مضيقي «هرمز» و«باب المندب»، والصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة التي استهدفت مناطق مدنية ومنشآت نفطية وحيوية سعودية، وكذلك اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني والقائد العراقي أبو مهدي المهندس. علاوة على ذلك، فإن جائحة «كوفيد-19» مثلت تحدياً صحياً واقتصادياً كبيراً لكل دول المنطقة، بما فيها السعودية، التي واجهت أيضاً تداعيات انخفاض أسعار النفط الحادة.
هذه التعقيدات والتحديات المختلفة تأتي أيضاً مع انتخاب جوزيف بايدن رئيساً للولايات المتحدة، وهو الذي يعد بنهج مختلف تجاه المنطقة. فما مدى تأثر السياسة السعودية بهذه العوامل؟ وكيف تدوزن الرياض تحوطها وسياساتها أمام تحديات المنطقة ومتغيراتها؟
الصورة الأكبر
هنالك مصالح استراتيجية رئيسية للمملكة في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وشبه الجزيرة العربية خصوصاً. هذه المصالح والأهداف والرغبات لن تتغير على المدى المنظور، وهي بالتحديد: الحد من نفوذ إيران في المنطقة، وتوسيع وتعميق العلاقات أفقياً ورأسياً مع الدول المتوافقة مع نظرة السعودية لشكل وترتيبات المنطقة الأمنية -ليس دول الخليج العربي وحسب، بل دول إقليمية أخرى أيضاً- والسعي إلى بنية أمنية موحدة، مع تنسيق وثقة متبادلة بين دول هذا المحور الذي تكون فيه الرياض عضواً أساسياً ورافعاً للخلاف بين المختلفين، بالإضافة إلى استمرار الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة.
تبقى إيران بموقعها بأعلى سلم مصادر التهديدات التي تتعرض لها المنطقة. ومن الجدير بالذكر أنه في حين أن سياسات إدارة ترمب نحو إيران كانت مرحباً بها إلى حد كبير في السعودية، فإن الشكوك كانت قائمة بشأن مدى قدرة هذه السياسات على تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة. علاوة على ذلك، كان هناك بعض الضبابية بشأن شكل العلاقة المستقبلية للولايات المتحدة مع دول الخليج العربي بشكل عام.
ومن المؤكد أن الاستقرار في الخليج والإقليم هو أهم أهداف السعودية الاستراتيجية. هذا الاستقرار له معالم مهمة، فهو ينطوي على أن يكون هناك مجلس تعاون خليجي موحد منسجم، وعراق مستقر، والأهم يمن يعمه السلام والازدهار.
هنالك أيضاً قناعة سعودية راسخة مبدئية مصلحية بالسببية والارتباط بين الازدهار والحصانة الأمنية. فإقليم أكثر استقراراً وازدهاراً من شأنه أيضاً كبح وتقليل التهديد الذي تشكله إيران. إلى جانب ذلك، فإن الهم والشغل الشاغل لقيادة المملكة يتمثل في إنجاح التحول الاقتصادي، المتمثل برؤية «2030»، وتقوية الجبهة الداخلية في منطقة هشة تعج بالدول الفاشلة.
مساحات التفاوض
هناك أمور قابلة للتفاوض، وأخرى يظهر أنها لن تكون كذلك؛ هذا كله يستلزم تشخيصاً للمصالح الأمنية السعودية في الحقبة المقبلة، خاصة مع قدوم إدارة أميركية جديدة، وضغوطات اقتصادية وصحية عالمية غير مسبوقة.
باعتقادي، يأتي على رأس المصالح غير القابلة للتفاوض صد إيران وميليشياتها عن الجوار السعودي. كما أنه من الأهمية بمكان ألا يكون هناك حوار ولا تقارب مع القيادة الإيرانية الحالية، لانعدام فائدته، وللرسالة الخاطئة التي سيبعثها للعالم.
ومن أجل تحقيق السلام في اليمن، يمكن للحوثيين أن يكونوا جزءاً من حكومة اليمن المستقبلية، لكن لن يسمح لهم بالهيمنة على اليمن وإقصاء البقية، علاوة على أنه لا دور لإيران في أي عملية لإعادة إعمار اليمن.
وسيستمر التنسيق وزخم تحالفات السعودية الاستراتيجية مع حلفائها الإقليميين، مثل الإمارات. وفي المقابل، ستكون هناك سيولة أكبر ومساحة أوسع للتفاوض مع الأطراف ذات العلاقة بمصالح سعودية أخرى، منها حجم الدور الأمني للولايات المتحدة في المنطقة، في مقابل فواعل دولية مهمة أخرى، مثل الصين وروسيا ودول أوروبا الأساسية، وإن كانت هذه الدول ليست بالمستوى نفسه، فالصين قوة صاعدة وروسيا إلى أفول. كما أن هذه الدول تعلم أنها لا تستطيع أن تلعب دور الضامن الذي تجيده الولايات المتحدة، من دون وجود عسكري في المنطقة، وهذا منطبق بشكل كبير على روسيا التي لم تفلح بتحقيق هذا النفوذ على مدار عقود.
كذلك من المتوقع أن يكون هناك هامش واسع ومرونة تجاه نوع وطبيعة التسوية السياسية المستقبلية في اليمن، وشكل إعادة الإعمار في سوريا والعراق، والأطراف المساهمة بها. وسيقترب العراق أكثر من السعودية، وقد يساعد هذا في الحد من التهديد الإيراني، لكن هذا التقارب لا بد أن يأخذ وقته ومداه الزمني.
وستسعى الرياض كذلك إلى إيجاد توافق إقليمي أوسع حول الاستراتيجيات والنهج الأكثر فاعلية لمكافحة الإرهاب. ولا ننسى التغيرات الكبيرة المحيطة بملف الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني وعملية السلام؛ هذه التغيرات مرشحة للاستمرار بعهد الرئيس الأميركي القادم.
اليأس من المنطقة
إحدى العلامات البارزة التي تستحق الإشارة للعام 2021 حالة يأس القوى الكبرى من المنطقة. هذا اليأس أو الإنهاك والملل يمكن أن يدفع واشنطن إلى استعجال عقد صفقة نووية مع إيران لتسريع عملية تخفيف الوجود الأميركي بالإقليم، واستكمال التمحور نحو آسيا.
لكن إيران لا بد أن تكون هي المحرك والمتنازل الأول بسبب خيارات النظام المحدودة مقابل الولايات المتحدة. التنازل الإيراني الذي يبدو منطقياً للخروج من الأزمة الخانقة التي تعيشها إيران لن يكون سهل التمرير، فهناك معركة محتدمة تدور داخل أروقة النظام، ليس بين الإصلاحيين والمتشددين وحسب، بل حتى بين المتشددين والمحافظين، فالتاريخ القريب يخبر الإيرانيين أنهم في كل مرة يختارون التفاوض والتنازل طريقاً للتفاهم مع الغرب والولايات المتحدة يخسرون. إلا أن الحاجة والرغبة الإيرانية الجامحة بعودة الاتفاق النووي قد تتغلب على هذه المخاوف.
وأيضاً فإن تدخل إيران في اليمن سيبقى الفاكهة المتدلية للنظام الإيراني، وأكثر الملفات التي يمكن أن يقدم فيها تنازلاً لتحصيل مكاسب سياسية، لأن اليمن قطعاً ليس جزءاً أساسياً من خريطة أطماع النظام في طهران، كما هو الهلال الخصيب. إلا أنه لا يجب توقع تنازل سعودي تجاه أي دور إيراني في اليمن، حتى لو كان محدوداً، وحتى بوجود ضغط دولي، فهناك فهم مغلوط عن التأثير الغربي على الحرب، وهو بمجمله مقتصر على بعض المساهمات الدفاعية داخل المملكة، لا خارجها، بإطار التزامات واتفاقات ثنائية استراتيجية، وهذا من المستبعد أن يتأثر بأي شكل.
كما أن الضغط الدولي يجب أن يترافق مع دور أممي فاعل في اليمن، وهذه لم تكن الحالة. فالمعادلات المختلفة للوساطة الدولية لم تُنتِج أمراً ملموساً في اليمن، ولا الحوثي يبدي أي استجابة للمساعي الأممية.
اختلاف المرغوب... والممكن
ستتقاسم الدول الرئيسية في المنطقة النفوذ. وسيبقى الهيكل الأمني في المنطقة هشاً متعدد الأقطاب. وبروز الصين لاعباً في المنطقة لن يغير هذه المعادلة على المدى القريب والمتوسط. وسيكون أيضاً من الصعب الخروج بتفاهمات معقولة مرضية بين دول المنطقة الرئيسية والقوى الخارجية المنخرطة في المنطقة، سواء كان هذا متعلقاً بالأعلام الحمراء ومستويات تقسيم الأخطار أو باستراتيجية شاملة لأمن المنطقة، خاصة مع حالة الانقسام الحادة التي تحيق بها.
ومن الحاسم التفريق بين ما هو مفيد ومرغوب وما هو ممكن، فهذان أمران مختلفان، وستظل القوة الصلبة هي المهمة بتأثيرها وتحديدها لشكل التسويات بالإقليم، أما القوة الناعمة فتابعة لها. وإجراءات بناء الثقة لن تكون كافية لتقليل التوترات وفض النزاعات، فالصراع في المنطقة ليس بسبب مجرد أزمة الثقة، رغم أن الأزمة حقيقية، لكن المسألة أيضاً مسألة فيزياء وقدرات صاروخية إيرانية ينبغي التصدي لها والتعامل معها ومعالجتها، فهي ليست مجرد نوايا، وإنما أيضاً قدرة على تنفيذ هذه النوايا التدميرية، وهذا عامل ضاغط على الإدارة الأميركية المقبلة لم يكن بارزاً بهذا الشكل عندما عقد أوباما اتفاقه مع إيران.
ورغم ذلك، فإن تياراً مؤثراً داخل إيران لا يرى أن الأسلحة التقليدية كافية، وأنه لا مناص بنهاية المطاف عن الحصول على النووي لتغيير الموازين والحسبة الاستراتيجية في المنطقة؛ هذا سيؤدي أيضاً إلى أن الكل سيسعى للحصول على القدرات النووية، وهذا الكل لن يستثني دول الخليج العربي بكل تأكيد.
- متخصص في السياسة والعلاقات الدولية كبير الباحثين بمركز الخليج للأبحاث