نقل عن ألبرت آينشتاين مقولة جاء فيها: «في قلب كل أزمة هناك فرصة عظيمة»، والمعنى الضمني للمقولة يشير إلى التوقعات بوجود فرصة سانحة للتقدم لما هو أفضل.
لم نشهد منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة أزمة بعينها مثل جائحة «كورونا» كان لها نفس قدر التأثير على البشرية جمعاء وعلى كل بلد من بلدانه، بصرف النظر عن حجم الدولة، أو قوتها العسكرية، أو قدرتها الاقتصادية. لقد أثرت تلك الجائحة ليس فقط على العلاقات بين الأفراد، وبين الأفراد والحكومات، وإنما كذلك على العلاقات بين الحكومات بعضها ببعض. كما كانت إحدى نتائج تلك الجائحة وأد الفكرة القائلة إنه يمكن حصر الأمن داخل النطاق العسكري فحسب. وفي الوقت ذاته تأكدت أهمية التضامن والتعاون الدوليين في مواجهة تلك الجائحة ومثلها من الأخطار عبر الوطنية التي تهدد البشرية. وربما الأهم بات هناك اقتناع بأننا نعاني أزمة في الحوكمة على الأصعدة الدولية، والإقليمية، والوطنية.
لذلك السؤال الذي يجب طرحه هو: أين مسألة إصلاح الأمم المتحدة من كل هذه التطورات؟ فالتحدي الذي يواجه إصلاح الأمم المتحدة يكمن في معضلة: ففي آن واحد، تعد المنظمة انعكاساً لتوازن القوى في النظام الدولي وفي الوقت نفسه إحدى أهم أدوات التغيير في النظام.
ظلت قضية إصلاح الأمم المتحدة مطلباً مستمراً على مر العقود الماضية، لا سيما منذ ستينات القرن الماضي، عندما شهدت عضوية المنظمة الدولية توسعاً كبيراً. وللأسف انحصرت نتائجها في مجرد زيادة عدد الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن دون تغيير أسلوب عمله. ومع ذلك يمكن اعتبارها حالة الإصلاح الجوهرية الوحيدة - وإن كانت غير مكتملة - التي شهدتها الأمم المتحدة حتى الآن. وهنا يجب التنويه بابتكار مفهوم «حفظ السلام» في خمسينات القرن الماضي، بعدما ثبت أن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أخفقوا في الاتفاق على إنشاء القوة العسكرية الخاصة بالأمم المتحدة. ويعد هذا المفهوم أهم الاستحداثات التي قامت بها المنظمة في مجال صيانة السلم والأمن الدوليين.
كانت الدول النامية دائماً في الطليعة في جهود الإصلاح بالأمم المتحدة، وذلك بسبب شعورها بالإحباط من جهة نتيجة عدم قدرة الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن على السماح للمجلس بالاضطلاع بمسؤولياته بشكل كامل في صيانة السلم والأمن الدوليين، ومن جهة أخرى بسبب شعورها المتزايد من محدودية تأثيرها في صياغة النظام الاقتصادي الدولي.
في عام 1973، تولدت الحاجة الماسة إلى إصلاح النظام الاقتصادي الدولي الذي تضمن المطالبة بإعادة النظر في عملية صنع القرار لدى كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي عام 1974، أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة خاصة لمراجعة الميثاق التي تركز عملها بصفة أساسية على التمثيل المنصف في مجلس الأمن، والحد من استخدام حق النقض (فيتو). ومرة أخرى في عام 1992، بدأ مجلس الأمن الانخراط بشكل مباشر في عملية الإصلاح.
وللأسف لم تسفر أي من تلك المبادرات عن الإصلاح الجوهري المنشود، أي التمثيل العادل في عملية صنع القرار في كل من مجلس الأمن، والبنك وصندوق النقد الدوليين. في ذلك الوقت، كانت الإصلاحات الوحيدة التي كان لها قدر من النجاح، كانت تلك التي تتعلق بالمسائل غير الجوهرية، التي لا أريد أن أقلل من أهميتها فقد كان لها تأثير إيجابي على تحديد أولويات الأمم المتحدة، وإلى درجة ما في أساليب عمل المنظمة، خصوصاً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
أما سبب تعثر الإصلاح الجوهري فيمكن إرجاعه إلى عاملين أساسيين: أولاً، رفض الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وضع أي قيود على استخدام حق النقض المقتصر عليهم. وثانياً، المحاولات المستمرة للدول كبار ممولي منظومة الأمم المتحدة - سواء في الميزانية العادية أو المساهمات الاختيارية - في تعزيز نفوذها بتحديد أولويات الأنشطة الإنمائية والإنسانية للأمم المتحدة، وهو ما يتجلى في حالتي الدول التي تمر بنزاع والتي خرجت من نزاع.
إضافة إلى ذلك، هناك عوامل أخرى، بعضها ظهر مؤخراً، أضافت إلى تعقيد عملية الإصلاح، وهي:
الأول، أنه في حين أن كل الدول الأعضاء على الرغم من أنها تتفق ظاهرياً على الحاجة إلى الإصلاحات، فإنها في الواقع لها مقاصد مختلفة. في الوقت الذي تسعى فيه غالبية الدول ذات النفوذ القوي في المنظمة والتي تمثل المصدر الرئيسي لتمويل المنظمة كانت تهدف فيه إلى ترشيد الإنفاق ورفع كفاءة أداء الأمم المتحدة، كانت تسعى كذلك إلى تعزيز نفوذها بما يستبعد تحقيق الإصلاح الجوهري المنشود، فإن غالبية الدول تسعى إلى تعظيم دورها في عملية اتخاذ القرار.
الثاني، موقف كل من روسيا والصين. ففي حين أن كلا البلدين متفق مع الأعضاء الثلاثة الدائمين الآخرين في مجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بتفادي إصلاح المجلس، فإنهما يسعيان في الوقت نفسه إلى تعزيز نفوذهما في مفاصل أخرى بمنظومة الأمم المتحدة من خلال التحالف مع الدول النامية.
أما الثالث، فهو الوضع المفكك لغالبية أعضاء الأمم المتحدة من الدول النامية الأعضاء في مجموعتي عدم الانحياز والـ77، الأمر الذي يحد من تأثيرهم على جهود الإصلاح.
والرابع، النفوذ المتزايد للمنظمات غير الحكومية في صياغة جدول أعمال النشاط الأممي، لا سيما في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
الخامس والأخير، الدور المتزايد للقطاع الخاص في تمويل أنشطة الأمم المتحدة. فلا شك أن العاملين المستجدين الأخيرين يلعبان دوراً متزايداً على الساحة الدولية، إلا أنهما في الوقت نفسه يتعارضان مع المبدأ الذي حدد عضوية الأمم المتحدة بحكومات الدول ومن ثم قصر عملية اتخاذ القرار عليهم، وهو التناقض الذي ينبغي التعامل معه لتعزيز فرص الإصلاح في الأمم المتحدة.
من الأهمية في هذا الصدد الإشارة إلى إشكالية الاعتماد المفرط للأنشطة التنموية والإنسانية على المساهمات الاختيارية. ففي حين أنه لا يخفى على أحد أن المساهمات الاختيارية هي إحدى أدوات تحقيق مصالح الدول المانحة، فإن ما يزيد من صعوبة التعامل مع هذه المسألة أن الأمر يتعلق بانعدام الثقة بين المانحين - التي تخضع حكوماتها إلى الرقابة البرلمانية الدقيقة - والدول المتلقية للمساعدات بسبب الفساد المنتشر لدى كثير من تلك البلدان. المحصلة النهائية لهذا الوضع أن أنشطة الأمم المتحدة أصبحت تعكس إلى حد كبير أولويات الدول المانحة وليس بالضرورة مصالح الدول النامية.
وحيث إن جائحة «كورونا» - حتى الآن - لم تؤدِ إلى إصلاحات هيكلية في النظام الدولي بل إلى مجرد تعزيز سرعة تيارات موجودة بالفعل في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، فإننا لم نرَ أي محاولة جادة لتنشيط جهود إصلاح جوهري في الأمم المتحدة. فلم يغتنم أحد سواء كانت دولة أو مجموعة دول أو حتى الأمين العام للأمم المتحدة الفرصة لإعطاء دفعة جديدة لعملية الإصلاح، فكل المبادرات التي طرحت مؤخراً تفادت التعامل مع العوائق التي تحول دون تحقيق الإصلاح الجوهري في المنظمة.
وعليه، من المتوقع أن تستمر الأمم المتحدة فى تطوير نفسها، ولكن بتفادي الإصلاحات الجوهرية التي تتطلب استحداث تغييرات هيكلية، لا سيما في مجالين رئيسيين: أولاً، في مجال الحوكمة التشاركية، أو بعبارة أخرى، التمثيل الأكثر إنصافاً في المؤسسات الرئيسية التي يرتكز عليها النظام الدولي: مجلس الأمن الدولي، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وثانياً، تحصين - بالمقدار الممكن والقابل للتطبيق العملي - المساعدات التنموية والإنسانية من الأجندات السياسية للدول المانحة.
لذا سنشهد في المستقبل المنظور منافسة بين الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية، وبين الصين وروسيا من ناحية أخرى من أجل التأثير على تطور النظام الدولي، بما في ذلك على عملية الاصلاح في الأمم المتحدة، الأمر الذي سينطوي على محاولات مستمرة لاستقطاب بقية دول العالم إلى صفهما. وفي إطار هذه المنافسة ستظل منظمة الأمم المتحدة محفلاً لتنسيق المواقف بين الدول، لكنها ستبقى مخيبة للآمال عندما يتصل الأمر بوظائف الأمم المتحدة الأخرى التي تتطلب إصلاحات جوهرية، لا سيما في مجال صيانة السلم والأمن الدوليين.
وعندما يستقر النظام الدولي على توازن أكثر واقعية يعكس توزيع القوى الحقيقي، حينئذ فقط ستكون الأمم المتحدة قادرة على إجراء الإصلاحات الجوهرية الضرورية التي تسمح لها بالقيام بكامل مهامها بشكل أكثر فاعلية.
* دبلوماسي مصري سابق ومسؤول بارز لدى الأمم المتحدة
- خاص بـ«الشرق الأوسط»
الأمم المتحدة بعد زوال جائحة «كوفيد ـ 19»
الأمم المتحدة بعد زوال جائحة «كوفيد ـ 19»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة