قادني الحزن المعولم إلى اكتشاف فضائل كتب السخرية المرة

عبدالعزيز كوكاس
عبدالعزيز كوكاس
TT

قادني الحزن المعولم إلى اكتشاف فضائل كتب السخرية المرة

عبدالعزيز كوكاس
عبدالعزيز كوكاس

إذا كان من فضيلة للحجر الصحي هو أنه سمح لي بقراءة الكتب التي كنت دوماً أؤجلها إلى أن يسنح الوقت للاستغراق فيها، كتب ظللت دوماً في شوق لاستكناه خباياها، ثم أتهيب من المرور العابر عليها في ظل الإكراهات المهنية، في مقدمتها «تاريخ الجنون» و«جينيالوجيا المعرفة» لميشال فوكو الذي اشتغل بها في تفكيك السلط حيث كانت، والموسوعة العجيبة «الحيوان» للجاحظ التي لا أدري بأي لغة يمكن الحديث عن العمق الفكري، ولا عن قيمة المعلومات التي تساءلت مع نفسي كيف أمكن لرجل عاش عصراً يبعد عنا بقرون عديدة، وتسنى له أن يكون بحجم هذا الاطلاع الموسوعي. وقادني الحزن المعولم الذي عشنا تحت رهابه في مواجهة فيروس مخاتل، إلى كتب السخرية المرة التي كانت تنتصر للحياة بتشريح الألم، في مقدمتها الديوان الضخم لمحمد الماغوط «البدوي الأحمر»، راعي السلمية الذي يجعلك ترقص طرباً، وتضحك على بكائك من تفاهة العالم، حيث يعلمنا الماغوط حس العصيان، ضد القبيلة والمقدس والسلطة والمؤسسات التي تروض الكائن الحي فينا، ثم ديوان المتنبي بشرح البرقوقي، الذي جعل الكل محتقراً لديه... ما خلق الله وما لم يخلق، لأنه كان كبيراً بشاعريته بأناه التي اختزلت وجع أمة برغم طابعها النرجسي، وأعدت قراءة روايات هذا الكائن المنفلت، كونديرا، أعجبني فيه أسلوبه التصويري وجمالية انتقائه للتفاصيل الصغيرة بشاعرية رقيقة وعمق تأملي لا يُضاهى. كانت السخرية أعز ما يطلب في لحظة التهديد المستمر والشلل التام بسبب حالة الطوارئ زمن الحجر الصحي. بالضحك هزمت الحزن المعمم علينا بالتقسيط، واستخلصت من كتب السخرية طاقة لا تقاوم، لتظل نوافذي مشرعة على هواء نقي وشمس مشرقة رغم انتشار رائحة الموت من حولي.
وفي السياسة، أرشدني صديق إلى كتاب أبو بكر الطرطوشي «سراج الملوك» الذي يتكون من 64 باباً في مواعظ الملوك ومعرفة منزلة السلطان وفي مقامات العلماء لدى الأمراء وفي منافع السلطان ومضاره، والفرق بين السلطان العادل والجائر، وما يجب على الراعي وعلى الرعية. إنه بمثابة كتاب «الأمير» لماكيافيلي. وأعدت قراءة كتابي حنة أراندت الألمانية «أسس التوليتارية» الذي يعتبر من المراجع الكبرى في العلم السياسي يتناول طبيعة المؤسسات والتنظيمات التي تخلقها الأنظمة الكليانية أو الشمولية وفي ذهنها نازية هتلر وشيوعية ستالين، حيث يتم تحويل الطبقات الاجتماعية إلى قطيع يدعى جمهوراَ وشعباً، وكيف يشتغل العنف والإرهاب للترويض والضبط، وأشكال الدعاية باسم الحزب أو الطبقة أو العرق. ثم كتابها «في العنف» الذي يحلل بعمق أشكال العنف وتاريخه وآلياته الجحيمية من الخطاب إلى المؤسسات.
على مستوى الرواية، شدتني رواية الكاتب العراقي فاتح عبد السلام «الطوفان الثاني» ذات البعد التصويري الباذخ واللغة الشاعرية، حيث يتناوب البطلان سالي وكمال العاشقان العراقيان اللذان قذفت بهما حرب الخليج إلى قلب لندن تيهاً وبحثاً عن الذات والوطن الذي يظل شبحه يطاردهما، يتناوبان الحكي كل بمساره وأحلامه وآلامه، الطوفان الثاني الذي تولد مع حرب الخليج الثانية والغزو الأميركي للعراق، يحيل على الطوفان الأول كما تؤرخ له الأساطير البابلية والكتب الدينية، الغمر الذي يولد حياة جديدة بعد الخراب والدمار.
ولأن جائحة «كورونا» جاءت في زمن فورة التواصل الاجتماعي التي أعطتها «جمالية» خاصة، فقد اتجهت إلى كتب ودراسات حديثة معظمها بالإنجليزية حول هيمنة «الغافا» على العالم وطرق توجيه الرأي العام، والإعلان عن ميلاد الإنسان المتصل بعد الإنسان الصانع والإنسان العالم ونهاية العهد «الجوتنبرغي» لفائدة الإنسان الرقمي الذي سيعيش معظم عمره في العالم الافتراضي، ولن يعود العالم الواقعي إلا مجالاً للضرورات المادية للعيش والاستمرار في الحياة.
* كاتب وإعلامي مغربي



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.