يوم الاثنين الماضي، عندما صوت المجمع الانتخابي على تثبيت فوز الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، مانحا إياه 306 أصوات مقابل 232 صوتا للرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب، نشر أحد مستخدمي موقع «رمبل» الشبيه بموقع «يوتيوب»، مقطع فيديو حمل عنواناً يقول: «ترمب حصل على 316 صوتاً! جو لا يزال يقود الصين! بيل بار (وزير العدل الأميركي) يستقيل من انتخابات 2020».
كان هذا أحدث محاولات التشكيك، وصفها البعض بالتضليل، التي يواصل عدد متنام من وسائل التواصل الاجتماعي «البديلة»، وحتى بعض القنوات التلفزيونية التي كانت حتى بدايات الصيف الماضي مغمورة، الترويج له في عملية نشر ممنهجة «لنظرية المؤامرة» التي «تعرضت» لها انتخابات الولايات المتحدة هذا العام. غير أن الأمر يتجاوز الموقف من الانتخابات وما آلت إليه نتائجها «المخيبة» لأنصاره.
ذلك أن الحرب التي خاضها ترمب وتيار اليمين المحافظ المتطرف ضد وسائل الإعلام الأميركية المصنفة «ليبرالية»، مرشحة للتصاعد لاعتبارات عدة، لا يختصرها تثبيت نفسه كمرشح رئاسي وإغلاق الطريق أمام أي منافس جمهوري له في انتخابات عام 2024، كما يعتقد العديد من المراقبين. بل، ويتعداها عبر تحويل خلافه «الآيديولوجي» معها، إلى أداة لتكريس نفسه ممثلا لتيار اليمين الشعبوي المحافظ، وتغيير هوية الحزب الجمهوري، وإنهاء «مخاطبة 90 في المائة من وسائل الإعلام لـ50 في المائة فقط من الأميركيين» بحسب مايكل كليمنتي، المدير التنفيذي السابق في «إيه بي سي نيوز» و«فوكس نيوز» والرئيس التنفيذي السابق لمحطة «نيوزماكس» اليمينية الصاعدة. ويعتقد أن كليمنتي مرشح لقيادة محطة إعلامية جديدة، يقال إن ترمب يرغب في بنائها من الصفر، إذا لم تلب المحطات والمواقع اليمينية القائمة أهدافه.
الهجوم اليميني على وسائل الإعلام والتطبيقات الاجتماعية الرئيسية لا يتوقف عند هذا الحد، بل ويجري دعوة الأميركيين إلى التوجه نحو تطبيقات نصبت نفسها بديلة عن «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب». وأمام سيل الأخبار المتناقضة والتحريض الذي يمارسه العديد من وجوه ورموز هذا التيار (بمن فيهم سيناتور تكساس تيد كروز)، بدا أن معركة «إسقاط» صدقية وشرعية وسائل الإعلام الليبرالي ومواقع التواصل الاجتماعي «المعادية»، قد بدأت تأخذ منحى جدياً. ومن بين أولئك الذين تحدثوا علانية مارك ليفين، وهو مقدم برنامج إذاعي يميني يتابعه ملايين المستمعين، الذي قال في برنامجه الأسبوع الماضي إن شركات التكنولوجيا والإعلام «لا تنقل وجهة النظر المحافظة». كما أعربت ماريا بارتيرومو، مذيعة «فوكس بيزنس»، عن إحباطها من «تويتر» متهمة الموقع بأنه يمنع تصريحات المحافظين. وهذا الكلام ينضم إلى إشادات ترمب بالمواقع والمحطات اليمينية البديلة، وإعلان بعض الشخصيات المحافظة عن فتح حسابات لها فيها، رغم احتفاظها بحساباتها في المواقع المهيمنة.
جيفري ويرنيك، رئيس العمليات في موقع «بارلر» (أو «بارليه») اليميني المنافس لموقع «تويتر»، يقول إن بعض الإحصاءات تشير إلى «هجرة» غير مسبوقة، نحو مواقع ومحطات «أكثر صدقية وانفتاحاً واحتراماً لحرية التعبير، حيث الهواء النقي لأولئك الذين يشعرون بالضجر والقلق من الطريقة التي عوملوا بها من المواقع المنافسة»، على حد زعمه. ويصف هذا الموقع - الذي أخذ اسمه من الكلمة الفرنسية «بارليه» أي «تكلم» - نفسه بأنه «الشبكة الاجتماعية الأولى لحرية التعبير في العالم»، بينما يرحب موقع «رمبل» ومحطة وتطبيقات «نيوزماكس»، مثله، بهجرة اليمينيين المحافظين نحوهم.
وبالفعل، سجل متجر التطبيقات في «أبل» زيادة غير مسبوقة قدرت بالملايين لتنزيل تطبيق «بارلر»، ارتفاعا من 4.5 مليون مشترك. توقعت شركة «رمبل» الشهر الماضي، أن يشاهد 75 إلى 90 مليون شخص مقاطع الفيديو على موقعها، ارتفاعاً من 60.5 مليون. وقالت «نيوزماكس» إن أكثر من 3 ملايين شخص شاهدوا تغطيتها الليلية للانتخابات، وأن تطبيقها كان أخيراً ضمن أفضل 10 تطبيقات يومية جرى تنزيلها من متجر تطبيقات «آبل». حتى محطة «فوكس نيوز» التي ينظر إليها على أنها الأكثر تمثيلا لوجهة نظر اليمين الجمهوري والمحافظين، تتعرض لقصاص غير مسبوق من ترمب ومن قاعدته الأكثر ولاءً وتطرفاً، بعد تمسكها بفوز بايدن، الأمر الذي أجبرها خلال الأسابيع الأخيرة على التشدد في استضافة المعارضين «المعادين»، والسير على حبل مشدود للحفاظ على جمهورها واستعادة قيادتها لتيار اليمينيين المحافظين عموماً.
هذا، ورغم أن تلك المواقع موجودة منذ سنوات، وكانت تكافح من أجل البقاء في سوق منافسة شرسة وهيمنة عمالقة التكنولوجيا عليه، يرى البعض أن أخطاراً حقيقية باتت تهدد بتشظي نظام المعلومات، لا سيما، فيما يتعلق بمسألة نزاهة نظام الانتخابات الأميركية والتشكيك بشرعيته مستقبلاً وبالحياة العامة أيضا. وتنقل صحيفة «نيويورك تايمز» عن شانون ماكغريغور، الأستاذة في جامعة نورث كارولينا والباحثة الرئيسية في مركز المعلومات والتكنولوجيا، تخوفها الشديد من هذا الاحتمال. إلا أن ماكغريغور تشكك في أن تؤدي الهجرة من «فيسبوك» و«تويتر» إلى خروج دائم، وتوضح «إذا لم يكن هناك من تجادله ولا يوجد صحافيون أو كيانات إعلامية منتشرة في كل مكان للرد عليها، فإلى متى سيستمر ذلك؟».
في هذه الأثناء، في ظل المفاوضات التي تدور لتأسيس محطة ثالثة أو محطة جديدة لترمب، تشير الإحصاءات إلى أن عدد المحطات ومواقع التواصل الاجتماعي والصحف والمجلات المصنفة يمينية أو موالية للجمهوريين والمحافظين، والقادرة على الوصول إلى الجمهور، لا تعاني من قصور. لا بل تقول محطة «نيوزماكس» اليمينية إنها تصل إلى 70 مليونا من أصل 90 مليون منزل لديه خدمة الكايبل في أميركا. وتذكر المحطة أن ثمة مفاوضات جارية لشرائها ودمجها مع محطة «أون» أو «شبكة أخبار أميركا الواحدة»، من قبل مجموعة «هيكس إكويتي». وتهدف هذه المجموعة التي يقودها توماس هيكس، أحد كبار أعضاء «اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري» وصديق دونالد ترمب الابن (نجل الرئيس) - إلى تأسيس «استراتيجية ثالثة» تركز على «الثقافة بدلاً من الأخبار» وبناء «برمجة صديقة للأسرة ذات جاذبية واسعة تستند إلى القيم التقليدية»، كما تقول.
تلفزيون ترمب الخاص
هذا، وتشمل الاحتمالات الأخرى أمام ترمب للاستفادة من مكانته، إنشاء شبكة ترمب التلفزيونية الجديدة من الصفر، إما كقناة بث تلفزيوني أو حزمة من مقاطع الفيديو عبر الإنترنت، أو حتى وسيلة لتوجيه الأموال إلى النشاط السياسي لعائلته. ولكن يمكن تخيل الوقت الذي سيستغرقه منح الإذن لشبكته في البث عبر شبكات الكايبل الرئيسية، كشركة «كومكاست» و«إيه. تي. آند. تي». وغيرها. فمحطة «نيوزماكس» التي يتمتع رئيسها التنفيذي كريستوفر رودي بعلاقة جيدة مع كبار شركات الكايبل ومع هاتين الشركتين، خسرت بثها عبرهما عام 2016. ولم تعد إلا بعد وصف السيناتور الجمهوري النافذ تشارلز غراسلي هذه الخطوة بأنها «ظالمة» خلال جلسات الاستماع لمساعي «إيه. تي. آند. تي». للاستحواذ على شبكة «تايم وورنر».
في المقابل، رغم تصوير كثيرين هذا الخلاف على أنه سياسي، ويدور حول مدى سماح وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لهذا الجمهور أو ذاك في التعبير عن رأيه، لا يخفى أنه أيضاً صراع تحكمه قوانين سوق رأسمالية، تقدر قيمة عملياتها في هذا القطاع بعشرات المليارات من الدولارات. ومقابل شكوى الجمهوريين اليمينيين من أن شركات الإعلام والتكنولوجيا تحاول إسكاتهم، يعترض الديمقراطيون ويجهدون لتمرير قوانين تمنع على تلك الشركات احتكار السوق. وفي حين يصر ترمب على خوض معركة تقييد شركات التكنولوجيا عبر تعديل المادة 230 التي تعطيها الحصانة عما ينشر على مواقعها، صوت الجمهوريون مع الديمقراطيين على قانون ميزانية الدفاع، الذي حاول ترمب ربطه بتعديل تلك المادة، وذلك في رسالة واضحة مضمونها أن تصويتهم كان للمستقبل، لأن تقييد تلك الشركات سيشمل الجميع.
في أي حال، تبقى أسئلة كثيرة تقلق الجمهوريين الآن في ظل حالة الانتظار التي يلتزمها كبار مرشحيهم المحتملين للانتخابات المقبلة. من هذه الأسئلة: هل على الحزب الجمهوري طمس تلاوينه الفكرية والعقائدية وتسليم مستقبله السياسي لترمب؟ ثم هل يستطيع ترمب الاحتفاظ بسيطرته على قاعدة الجمهوريين عبر الإعلام لتجديد انتخابه عام 2024؟ أولم تظهر نتائج انتخابات 2020 أن التصويت لم يكن آيديولوجياً فقط، بل كان ضد ترمب شخصياً؟ وألا يشكل ترشحه مرة جديدة حافزاً للناخبين الأميركيين على التصويت مجدداً، وبكثافة، ضده للمرة الثانية بسبب شخصيته الإشكالية؟ ولماذا على الحزب أن يخسر مرة ثانية انتخابات الرئاسة؟