حادثة طرابلس.. أسئلة الداخل القلقة

نجاحات «الاستخبارات» اللبنانية تبقى غير كافية في غياب سياسة فعالة تمنع تفشي الآيديولوجيات الراديكالية

حادثة طرابلس.. أسئلة الداخل القلقة
TT

حادثة طرابلس.. أسئلة الداخل القلقة

حادثة طرابلس.. أسئلة الداخل القلقة

سيطرت أجواء من القلق والخوف بعد التفجير الانتحاري المزدوج الذي هز منطقة جبل محسن في طرابلس، أولا بسبب نوعية العملية التي شارك فيها انتحاريان يتحدران من المدينة نفسها، وثانيا بسبب اختفاء عشرات الشباب من المدينة يشتبه في إمكانية ارتكابهم هجمات إرهابية. فمنذ بدء تنفيذ الخطة الأمنية في طرابلس التي تلت الاشتباكات بين الجيش اللبناني ورجال شادي المولوي وأسامة منصور، اللذين يرتبطان بعلاقة مباشرة مع جبهة النصرة و«داعش»، سُجِّل فرار نحو 200 شاب من لبنان.

أكد مصدر سلفي، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، هذه المعلومات، مرجحا «هروب ما يقارب المائة شاب إلى سوريا والعراق، مع ثمانين شخصا تقريبا متوارين عن الأنظار داخل لبنان». إلا أن مصدرا عسكريا لبنانيا، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، اعتبر أن العدد الفعلي للذين يشتبه في إمكانية ارتكابهم هجمات إرهابية لا يتجاوز أربعة أو خمسة أشخاص حتى الآن.
إلى ذلك، انضم بعض النشطاء اللبنانيين في العراق وسوريا إلى «جبهة النصرة» في حلب أو «داعش» في الرقة، كما انخرط عمر ميقاتي، أحد رفاق المولوي ومنصور، المعروف باسم «أبو هريرة»، في صفوف جبهة النصرة في القلمون.. «فـ(داعش) لديها جيوب عميقة وتدفع المال الوفير لأسر المجندين الشباب»، وفق المصدر السلفي. وعلى الرغم من الانعكاسات العديدة التي قد يخلفها فرار هؤلاء على الساحة اللبنانية، يبقى الخطر الأكبر متأتيا من أولئك الذين ما زالوا في لبنان والذين قد يُستغلون لتنفيذ تفجيرات انتحارية جديدة.
ويعتبر الهجوم الإرهابي الذي استهدف مقهى في جبل محسن، وأسفر عن مقتل تسعة أشخاص وإصابة 37 آخرين، هو الأول من نوعه في طرابلس، وقد نفذه شابان من محلة «المنكوبين» في طرابلس، التي يسيطر عليها الفقر والبطالة وتعتبر واحدة من أكثر المناطق المحرومة في المدينة الشمالية. «أما اختيار طرابلس، المدينة التي نشأ فيها الانتحاريان لتنفيذ العملية، فيشكل سابقة لم نشهدها من قبل على الرغم من مقتل ما يزيد على عشرة شبان من طرابلس في عمليات انتحارية في العراق وسوريا»، وفق المصدر السلفي.
وكان منفذا الهجوم الانتحاري، بلال محمد مرعيان وسمير الخيال، قد تواريا عن الأنظار بعد أن شاركا في الاشتباكات الأخيرة التي وقعت بين الجيش اللبناني وجماعة شادي المولوي وأسامة منصور، بحسب مصادر طرابلسية تحدثت إلى «الشرق الأوسط». وقد رجح وزير الداخلية اللبنانية نهاد المشنوق انتماء الانتحاريين إلى تنظيم داعش، بناء على تقارير أمنية ربطتهما بالمتشدد منذر الحسن، المشتبه فيه بتأمين الأحزمة الناسفة والمتفجرات لأعضاء خلية إرهابية في فندق «دي روي»، والذي قتل لاحقا خلال مداهمة منزل أحد أقربائه في طرابلس حيث كان يختبئ، علما بأن منذر الحسن هو أيضا من منطقة «المنكوبين».
غير أن هذه النظرية لم تلق إجماعا في الأوساط الرسمية، حيث أشار مسؤول عسكري في طرابلس إلى أن العملية الإرهابية الأخيرة هي من تنفيذ جبهة النصرة، التي تشكل في الوقت الراهن الفصيل المهيمن على الساحة الطرابلسية. كما أنه وفقا لمواقع إخبارية، أعلنت جبهة النصرة في تغريدة على حسابها على «تويتر» مسؤوليتها عن الهجوم ضد المقهى في جبل محسن، المنطقة العلوية في طرابلس «للانتقام من الهجوم على مسجد السلام والتقوى». وجاء في بيان جبهة النصرة أن «بلال محمد مرعيان قد نفذ التفجير الأول مستهدفا الحشود النصيرية الحاضرة (العلويين)». وقام الخيال بالانفجار الثاني بعد انتشار قوات الأمن التي احتشدت في موقع الانفجار الأول.
وفي سياق متصل، أشارت صحف لبنانية إلى علاقة بين الانتحاريَين والموقوفين المتشددين في سجن رومية الموجودين خاصة في المبنى B، الذي بات منذ بداية الحرب في سوريا والعمليات الانتحارية التي لحقت بها مقرا لعمليات المتطرفين الذين قاموا بالتنسيق مع خلايا إرهابية وتواصلوا مع مجموعات متطرفة وتولوا إدارة تحركات إرهابية من داخل السجن.
وفي الأشهر الأخيرة، نجحت الأجهزة الأمنية في اعتقال العديد من الأشخاص الذين كانت قد جندتهم منظمات متطرفة لتنفيذ أعمال إرهابية، بمن فيهم «أسامة عنتر» الذي كان يعمل بالنيابة عن «داعش»، وفق المصدر السلفي. وقد ورد اسم الشيخ طارق الخياط في نفس الاشتباه، فضلا عن الشيخ أبو آدم الذي ينتمي بحسب المسؤول العسكري إلى عائلة إبراهيم، والذي عمد إلى تلقين الفكر المتشدد للخيال ومرعيان، وهي معلومة نفتها مصادر عائلة إبراهيم.
من ناحية ثانية، أكدت العديد من المراجع الأمنية أن الخيال ومرعيان لم يكونا متعمقين في الدين الإسلامي.. «فخيال يتحدر من أسرة طيبة كما كان والده مخبرا لدى الأجهزة الأمنية اللبنانية»، وفق المسؤول العسكري. وقد أعربت والدة الانتحاري الشاب غادة في حديث إلى «الشرق الأوسط» عن صدمتها بعد اكتشاف تورط ابنها في تفجير جبل محسن، قائلة «كان ابني لطيفا، وكان سلوكه طبيعيا تماما قبل وفاته، إلا أنه بدأ بالصلاة ولكن لم يعتنق أيا من الأفكار المتطرفة». وفي السياق نفسه، أوردت مصادر في منطقة المنكوبين أن مرعيان لم يكن متشددا، وكان يشرب الكحول، وهي عادة مستهجنة ومحرمة في مجتمع مسلم محافظ.
وبعد تفجير جبل محسن ضربت القوى الأمنية طوقا مشددا على منطقة المنكوبين، وقامت بعدد من المداهمات والاعتقالات، مما قد يهدد باندلاع موجة جديدة من العنف في مدينة طرابلس. كما طالت حملات الاعتقال في الآونة الأخيرة عشرات من الشبان السوريين الذين يشتبه في تورطهم بهجمات إرهابية في لبنان، بحسب المسؤول العسكري. إضافة إلى ذلك، تمكنت قوى الجيش من توقيف المواطن بسام حسام نابوش في محلة «المنكوبين» للاشتباه به في محاولة تفجير نفسه، فضلا عن شخصين آخرين أوقفا على حاجز وادي حميد في عرسال. غير أن مصادر من منطقة المنكوبين نفت الاتهامات بحق نابوش، وأكدت أنه عمره لا يتعدى 17 عاما ولم يكن يحمل أي نوع من الأسلحة.
وعمد الجيش اللبناني أيضا إلى تفكيك عبوة ناسفة زنة 30 كغم على طريق قبة مجدليا في طرابلس. وتأتي هذه العبوة في إطار «التهديدات اليومية» التي تتلقاها القوى الأمنية والتي لا يمكن تجنبها بالكامل، وفق المصدر العسكري. والجدير ذكره أن هيكلية الجماعات المتطرفة الموجودة في لبنان تختلف عن غيرها من الجماعات، فهي تعتمد خلايا متعددة وتعمل في بعض الأحيان بشكل مستقل أو تتقاسم أحيانا أعضاء مشتركين «على غرار خلايا الشيخ خالد حبلص وعمر ميقاتي»، وفق المسؤول العسكري. كما لا يتم تدريب الانتحاريين بالضرورة في سوريا وفق المصدر العسكري الذي يستبعد أن يكون خيال ومرعيان خضعا للتدريب مع الحركات الراديكالية في القلمون.. «فبضعة أسابيع تكفي أحيانا للتدريب تحت إشراف خبراء في المتفجرات»، على حد قوله.
إن الامتعاض الذي يبديه سكان طرابلس تجاه مراكز القرار السني، وهروب الشخصيات السلفية التقليدية كالشيخ داعي الإسلام الشهال والشيخ بلال دقماق الملاحقين لحيازتهما أسلحة، أضف إلى ذلك قضية الشيخ نبيل رحيم، الشخصية السلفية المعتدلة التي تحظى بتقدير كبير في الأوساط الطرابلسية والذي أمضى ثلاث سنوات في السجن، تؤدي كلها إلى تفاقم الفراغ في الساحة الإسلامية المتشنجة أصلا.. وهو فراغ تحاول الحركات الراديكالية السورية أن تستغله، ومن هنا جاء تبني جبهة النصرة للعملية الانتحارية في جبل محسن، التي «هدفت إلى الانتقام» من الهجمات على جامع التقوى والسلام عام 2013. ومن الواضح أن مصالح جبهة النصرة وتنظيم داعش تتلاقى في طرابلس، مما قد يؤدي إلى محاولات جديدة لزعزعة الوضع الأمني.
وعليه، لا بد من رد أمني حازم لدرء هذا الخطر. فالنجاحات المتلاحقة التي تحققها أجهزة الاستخبارات، وعلى الرغم من أنها تستحق الإشادة والثناء، فإنها تبقى وحدها غير كافية في غياب سياسة فعالة لإنماء الأحياء الفقيرة وتسريع محاكمات العديد من الموقوفين، منعا لزيادة تفشي الآيديولوجيات الراديكالية.

* في سطور
* يعد الهجوم الإرهابي الذي استهدف مقهى في جبل محسن، وأسفر عن مقتل 9 أشخاص وإصابة 37 آخرين، هو الأول من نوعه في طرابلس، وقد نفذه شابان من محلة «المنكوبين» في طرابلس، التي يسيطر عليها الفقر والبطالة، وتعد واحدة من أكثر المناطق المحرومة في المدينة الشمالية.
* اختيار طرابلس، المدينة التي نشأ فيها الانتحاريان لتنفيذ العملية، يشكل سابقة لم نشهدها من قبل رغم مقتل ما يزيد على 10 شبان من طرابلس في عمليات انتحارية في العراق وسوريا، وفق المصدر السلفي.
* مصادر لبنانية أشارت إلى علاقة بين الانتحاريين والموقوفين المتشددين في سجن رومية الموجودين خاصة في المبنى B، الذي بات منذ بداية الحرب في سوريا والعمليات الانتحارية التي لحقت بها مقرا لعمليات المتطرفين الذين قاموا بالتنسيق مع خلايا إرهابية وتواصلوا مع مجموعات متطرفة وتولوا إدارة تحركات إرهابية من داخل السجن.
* بين مايو (أيار) 2007 ومارس (آذار) 2014 وقعت 20 جولة قتال بين منطقتي باب التبانة ذات الغالبية السنية وجبل محسن في طرابلس، أوقعت مئات القتلى والجرحى.
* شهد الصراع بين المنطقتين تصعيدا على خلفية النزاع السوري وتأييد الغالبية السنية في لبنان للمعارضة السورية مقابل انحياز الأقلية العلوية التي توجد خصوصا في جبل محسن إلى النظام السوري.
* منذ أكتوبر (تشرين الأول) ينتشر الجيش بكثافة في المدينة وقام بمئات التوقيفات ومنع كل ظهور مسلح، ما أثار ارتياحا في المدينة.

* باحثة زائرة في مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.