قبل يومين فقط من موعد الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت بليبيا في فبراير (شباط) عام 2011، كان نظام حكم العقيد الراحل معمر القذافي يبدو واثقا للغاية من أن بإمكانه الصمود والنجاة.
فبين ثورتين تزامنتا في وقت واحد تقريبا، توهم القذافي وكبار مسؤوليه وجهاز مخابراته وأجهزته الأمنية أن لا شيء سيحدث على الإطلاق، وأن تلك الزوبعة مجرد زوبعة في فنجان، ستنقشع لا محالة ليبقى النظام الجماهيري صامدا رغم كل التحديات.
لكن المشهد كان مختلفا على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة فيسبوك، حيث امتلك الليبيون ما يكفي من الشجاعة للمرة الأولى ليعبروا بأسمائهم الحقيقية، ودون تردد، عن معارضتهم له ورفضهم لاستمراره، وبعدها انطلقت شرارة الثورة بالفعل تحت أعين النظام، سرعان ما أصابته في مقتل، وقادته إلى حتفه الأخير ونهايته المحتومة.
بدأ تسارع الأحداث باعتقال المحامي فتحي تربل في 15 من فبراير 2011 في بنغازي بشرق البلاد، باعتباره منسق إحدى المنظمات القليلة المستقلة، التي عرفت باسم «جمعية عائلات ضحايا سجن أبو سليم»، حيث أعدمت قوات الأمن 1200 سجين سياسي في 1996.
كان التوقيت سيئا، لكن أجهزة الأمن راهنت على أن بإمكانها منع إحياء ذكرى مقتل 14 شخصاً في صدامات وقعت في 17 من فبراير 2006 بين قوات الأمن الليبي ومتظاهرين هاجموا قنصلية إيطاليا، احتجاجاً على نشر رسوم كاريكاتورية للنبي محمد عليه الصلاة والسلام. وانطلقت شرارة الانتفاضة بالفعل بعدما تجمعت العائلات أمام مقر الشرطة، قبل أن تتوجه إلى وسط مدينة بنغازي.
وحين حانت لحظة الحقيقة المؤلمة، ورفع الستار الحديدي عن الجيش ومؤسسته العسكرية، اكتشف النظام خطيئته الكبرى، ولم يكن هناك ما يمكنه عسكريا من التصدي للهجمات التي طالت مواقعه وقواته.
فقد تخوف القذافي من الانقلابات العسكرية عليه على امتداد سنوات حكمه، فنزع من الجيش سلاحه، وحرمه من التدريب، واكتفى بقيادات يثق فيها، لكنها لا تتمتع بالكفاءة. وكنتيجة حتمية لذلك، انهارت مؤسسات الدولة تباعا، وسرعان ما انفرط عقد كل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.
انتشار السلاح والحماس، الذي دعمته دول غربية سعت للتخلص من النظام القديم، منح الفرصة لآلاف المسلحين غير المنضبطين بالدخول في تحالفات عسكرية وميليشيات، باتت هي الجيش الوحيد المنظم في هذه الدولة الغنية بالنفط.
في فبراير المقبل، ستحتفل ليبيا بمرور عشر سنوات كاملة على سقوط نظام القذافي، بينما ما زالت تبحث عبر بعثة الأمم المتحدة عن حل سياسي ينهي المأساة دون جدوى. لكن لا يوجد بالنسبة لليبيين ما يمكن الاحتفال به، أو ما يدعو له سوى لافتة تحمل عبارة سقوط نظام، مقابل فوضى عميقة ضربت جذورها في كل أنحاء البلاد، التي تلاحقها لعنة الدولة الفاشلة.
وبين ميليشيات مسلحة لن تتنازل بسهولة عما حققته على مدى السنوات الماضية من ثروة ونفوذ، ووسط عملية فساد تاريخية ممنهجة، فإن الحديث عن حل سياسي قبل تفكيك هذه الميليشيات والقضاء عليها، هو نوع من الخيال السياسي، الذي يستهدف إدارة الأزمة وليس حلها.
وإلى جانب ذلك، تقف تركيا الداعمة لحكومة الوفاق، برئاسة فائز السراج، مصطفة مع آلاف المرتزقة الذين جلبتهم لمنع خليفة حفتر، القائد العام للجيش الوطني، من المضي قدما في حملته العسكرية لفرض سيطرته على كامل أنحاء الأراضي الليبية.
ويبلغ التعقيد مداه، بتزايد التقاطعات الإقليمية والدولية بين الأطراف الداخلية، وانعكاس ذلك على ما يجري على الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية.
وبين نار التدخل الأجنبي، وأطماع السيطرة على النفط، يدفع المواطن العادي فاتورة الأمر كله، بينما ينصاع حفتر مؤقتا لمساعي إحلال السلام والاستقرار، وتدق قوات حكومة الوفاق طبول الحرب من وقت لآخر.
وفي الحالتين، فإن الثورة التي أسقطت النظام، أسقطت في الوقت نفسه الدولة ومؤسساتها، بينما لم يتخل من وصفوا أنفسهم بالثوار عن السلاح بعد.
وفي غضون ذلك ينتظر الليبيون معجزة كبرى بحجم المصالحة الوطنية، لكن في ظل تدخلات خارجية، قد لا يكون أمرا يمكن توقعه بسهولة.
وحين يستعيد الليبيون ذاكرتهم الوطنية، فإنه لا أحد يستطيع توقع ما قد يحدث في اليوم التالي، لأن كل الاحتمالات واردة.
ثورة ليبيا تخلّف فوضى في كل البلاد
بعثة الأمم المتحدة تبحث عن حل سياسي من دون جدوى
ثورة ليبيا تخلّف فوضى في كل البلاد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة