الصراعات شكلت المجتمعات والمجتمعات أنتجت صراعات في دورة لا تتوقف

البروفسورة ماكميلان ترى في كتابها الجديد أن السلام ليس الحالة الطبيعية للبشر

مارغريت ماكميلان
مارغريت ماكميلان
TT

الصراعات شكلت المجتمعات والمجتمعات أنتجت صراعات في دورة لا تتوقف

مارغريت ماكميلان
مارغريت ماكميلان

نسي الجيل المعاصر من الغربيين الحروب وويلاتها بعدما انتهت «عالميتهم الثانية» منذ خمسة وسبعين عاماً، وعمّ السلام (الباكسأميركانا على نسق الباكسرومانا - فترة السلام الطويل في عصر الإمبراطوريّة الرومانيّة) الهادئ مثل ربوع دول الشمال في أوروبا واليابان والعالم الأنغلوفوني، فيما انتقلت الصراعات بعيداً إلى الأطراف القصيّة وشاشات التلفزة، وأصبحت تمس أنواعاً مختلفة عنهم من البشر. ويكاد يسود -كما تقول البروفسورة مارغريت ماكميلان مؤلفة كتاب «الحرب: كيف شكلتنا الصراعات»- إحساس عام موهوم بأن السلام هو الحالة الطبيعيّة للبشر، في حين أن الحقيقة «أن تاريخهم بأغلب مفاصله شكّلته الحروب: ستجدها دائماً في كواليس مؤسساتهم الاجتماعيّة والسياسيّة، ومنطلقاً رئيساً لقيمهم وأفكارهم». ولذلك فإن أي محاولة لفهم ماضي أي مجتمع -وحاضره- تتطلب بالضرورة العبور من الأدوار التي كانت للحروب، سواء كنا نتحدّث عن العصور القديمة أو الوسطى أو عصر النهضة أو العصر الرأسمالي الحديث منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم.
ليس الأمر مسألة مرتبطة بالتأريخ كمنهج نظري فحسب، بل إن كثيرين من علماء الإنسانيات (الأنثروبولوجيا) المعاصرين يزعمون أن فكرة انتظام البشر في مجتمعات إنما كانت مرتبطة منذ اليوم الأوّل بالتأهب لخوض الصراعات المسلّحة: إذ تتطلّب الإدارة الفاعلة لأعمال القتل الجماعي ضد آخرين هيكليّة تحدد من يعطي الأوامر ومن يتلقاها، كما ترتيبات لوجيستيّة أشد تعقيداً من الأنشطة الإنسانيّة السلميّة الطابع؛ ارتباط تراه ماكميلان جدليّاً: الصراعات شكلّت المجتمعات، والمجتمعات أنتجت صراعات، وهكذا في دورة لا تتوقف.
ورغم أنّ «الحرب» من ناحية المفهوم اللغوي تبدو قريبة للأذهان، فإنّها ما تلبث تناور عند محاولة القبض على تعريف محدد لها، بالنظر إلى أنّها اتخذت أشكالاً متفاوتة كثيرة عبر الحقب، وهو أمر اشتكت منه ماكميلان ذاتها، الخبيرة بالحروب، لتنتهي إلى توصيفها بأنها «عمل منظّم من أعمال العنف ضد منظومة أخرى بهدف نهائي متمثل في إجبار الجانب الآخر على الخضوع». ويعني هذا التوصيف عندها أن جزئيّة «التنظيم» هي المفتاح، فصراع أفراد في الشارع -بغض النظر عمّا يمكن أن نسميه- ليس حرباً، إذ لا بدّ أن ينطوي الصراع على هيئات منظمة توقع العنف على هيئات منظمة أخرى كي يتأهل لتسمية الحرب، سواء كان ذلك صراعاً بين طوائف دينية متنافسة أو اقتتال أهلي بين قوميّات أو إثنيّات أو تيّارات سياسيّة، أو نزاع مسلّح بين دولتين، أو عدة دول.
وتفرّق ماكميلان بين الدّوافع البشريّة إلى شن الحروب على مستويين، فهناك دوافع تؤدّي بمنظّومة كبيرة -سواء كانت إقطاعية أو دولة أو مملكة أو إمبراطورية- لخوض الحرب، وهذه يمكن أن تتراوح من الغزو لتحقيق المكاسب (أراض، وموارد،... إلخ) أو الدفاع ضد اعتداء آخرين، إلى مسائل معنويّة، كالكرامة الوطنيّة واسترداد الشرّف. ثم هناك الدوافع التي تلهم الأفراد -بصفتهم أفراداً- للذهاب إلى الحرب التي يمكن أن تكون أكثر تعقيداً بما لا يقاس. وقد لعبت ثقافة الشعوب هنا دوراً مهماً -مفاجئاً في كثير من الأحيان- إذ مالت بعض الثقافات القديمة مثلاً إلى تمجيد القتال (النساء أحياناً، ولكن الرجال أساساً)، وترعرعت أجيال من شبانها على أن خوض المعارك أنبل الأشياء التي يمكن للإنسان القيام بها في حياته، ومنهم كثيرون طامحون أرادوا إظهار كفاءتهم في خضّمها، أو هم -كما كان الحال في الجمهوريّة الرّومانيّة وبريطانيا إبّان الحرب العالميّة الأولى- يقعون تحت ضغوط اجتماعيّة لا ترحم تدفعهم للمشاركة في العمل العسكري المنظّم، بينما يتعرّض المستنكفون للعزل والعار وتشويه السمعة، وربّما السجن أحياناً. وهي ترى الثورة الفرنسيّة غيّرت بشكل جذري من نظرة أوروبيي العصور الوسطى تجاه الانخراط في القتال بصفته واجباً دينياً أو ولاءً للملك إلى نوع من المسؤولية الجمعيّة التي يحملها المواطنون بالتساوي لناحية حماية الدّولة التي هي ملكهم بالتضامن. وتخلق الروابط الرّفاقيّة المكثفة بين عناصر فرق القتال -وفق عشرات المذكرات التي تركها جنود في الحربين العالميتين- حافزاً لدى بعضهم لكي يقاتلوا من أجل رفاقهم، وخوفاً من خذلناهم في وقت الشّدائد.
ولعل واحدة من المفارقات الكثيرة للحرب التي يطرحها كتاب «الحرب: كيف تشكلنا الصراعات» أنها دفعت في كثير من الأحيان إلى تحقيق التقدم المادي والتقنيّ. فبعض الأشياء التي تبدو مستحيلة في زمن السلم، تصبح ممكنة زمن الحرب، حين تجد الحكومات نفسها على المحكّ، فتتولى تدبير المصادر لتمويل مشاريع طموحة لم تكن لتجرأ عليها ربّما في أوقات مستقرّة، لا سيما أن السلطات يمكنها بحكم التهديدات الوجوديّة فرض ضرائب استثنائيّة، ويتقبّل جلّ الجمهور الحاجة المستجدة لتعبئة جميع الموارد الوطنية، ولا يجرأ كثيرون عندئذ على الاعتراض. ولعل أهم مثال معاصر لنا هو مشروع «مانهاتن» الأميركي لتطوير أوّل قنبلة نوويّة. لقد استهلك ذلك المشروع من الموارد التي لو وظّفت في قطاعات أخرى لقضت على الفقر تماماً في الولايات المتحدّة، لكن أغلبية الأميركيين خلال الحرب العالميّة الثانيّة كانت تحت وهم الاعتقاد بأنّ إنتاج السلاح أولويّة وطنيّة فوق أي اعتبار آخر. وتقول ماكميلان إن تطوير الأسلحة النوويّة لأغراض الحرب والقتل الجماعي مكن في الوقت ذاته من استكشاف التطبيقات السلميّة الكثيرة للطاقة النووية. والبنسلين قد يكون مثالاً آخر، إذ اكتشفه ألكسندر فليمنغ عام 1928، لكن تكاليف إنتاجه بكميّات كبيرة كانت مرتفعة للغاية، ولم يتم تجاوزها إلا عندما حدث سفك الدّماء المليوني في الحرب العالمية الثانية، لتجد الحكومات طرائق مختلفة لجعل تلك النفقات محتملة، وتوفيره بصفته علاجاً مجانياً للجرحى، وبأسعار ميسّرة للمواطنين.
ويذهب مؤرخون اقتصاديون معاصرون إلى الزّعم بأن الحروب شكلّت دائماً نوعاً من الضغوط الحاسمة لتقليص الفجوة الاقتصاديّة بين طرفي المجتمع -الذين يملكون والذين لا يملكون- ومنحت الشرعيّة لتدّخل واسع للدولة على نحو فرض تقريب القطبين من بعضهما، سواء من خلال فرض ضرائب إضافيّة على المقتدرين، وكذلك منع تدهور أوضاع الطبقة الأقل حظاً. ووفق ماكميلان دوماً، فإن دراسات متقاطعة قالت إن البريطاني (العادي) كان أفضل تغذية خلال الحرب العالمية الثانية منه في أي وقت مضى. وربما شهدت الفترة من عام 1914 إلى الستينيات أكبر قدر من المساواة الاقتصادية في المجتمعات الغربية، وهي الفترة الصعبة ذاتها التي شهدت حربيين عالميتين.
وما عدا التقدّم الاقتصادي، بصفته عَرَضاً جانبياً للحرب، فإن التقدّم الاجتماعي كثيراً ما كان أيضاً مرتبطاً -في الغرب تحديداً- بفترات صراعات دمويّة. وتقدم ماكميلان مثالاً ملهماً من بريطانيا التي كانت النساء فيها حتى الحرب العالميّة الأولى محرومات من التصويت، رغم الحملات البطوليّة التي نفّذتها نساء رائدات دعون للمساواة مع الرّجال، إذ كان الانطباع العام -بما فيه أوساط النساء أنفسهن- أنهن غير مؤهلات لاتخاذ القرارات المهمة، وليست لهن القدرة على القيام بالوظائف الشاقة نفسها التي يقوم بها الرجال. ومع ذلك، فخلال الحرب العالمية الأولى، عندما أُرسل الرجال بعيداً للقتال، ولم يعد منهم كثيرون، فإن كثيراً من الوظائف المخصصة للذكور تقليدياً تولتها نساء. وقضت تجربة الحرب تلك على كل الأوهام المتعلقة بإمكاناتهن، بعد أن اتضح أن البريطانيات قدّن، وربّما بشكل أفضل من رفاقهن الرجال أحياناً، عمليّات الإنتاج والإدارة، من قيادة الجرارات إلى العمل على خطوط تجميع المصانع وإدارة المكاتب، ناهيك من المشاركة الفاعلة في مختلف الأنشطة اللوجيستيّة للمجهود الحربي. وبعد أن توقفت المدافع، تبخّرت كل معارضة لحصول النساء على التصويت كأنها لم تكن.
ولكن هل ستكون الحرب دائماً ممراً للبشريّة لا مفر منه نحو تحقيق تقدم نوعي في الاقتصاد والاجتماع؟ تضرب المؤلفة مثلاً من نهاية الحرب الباردة عندما توارى الاتحاد السوفياتي وراء جدار الماضي، وذهب المحللون قصيرو النظر إلى القول بنهاية التاريخ وانتهاء الصراعات الكبرى، ثم حدث غزو العراق عام 2003، والحرب في أفغانستان، والآن هناك صراعات ما زالت مفتوحة معقدّة في سوريا، وبين أذربيجان وأرمينيا، ولا شكّ ستتطور بالغد صراعات أخرى، وجميعها سيكون لها إسقاطات مختلفة على مجتمعاتها. في المقابل، ترى المؤلفة أن معظم المواجهات لن تكون عبر قتل الناس بعضهم لبعض في المعارك مباشرة، بل قد تأخذ شكل حروب سيبيريّة لشل النّظم التي يعتمد عليها العدو، دون حاجة لإنزال الجنود على أرضه أو رسو السفن قبالة مواقعه. لكن ذلك لا يعني بالضرورة حروباً نظيفة، لأن مجرد النظر إلى مدى اعتماد المجتمعات الآن على عشرات الشبكات المحوسبة في كل عمليّات الإنتاج والبنية التحتية والتشغيل اليومي والأمني والاقتصادي، قد تدفعنا للهلع. ولذلك هي لا تمنحنا أي تأكيدات إيجابيّة بشأن المستقبل، وننتهي من قراءة «الحرب: كيف تشكلنا الصراعات» بقناعة واثقة، مفادها: الحروب لن تنتهي من الحيثيّات الإنسانيّة في أي وقت قريب.
«الحرب»: كيف شكلتنا الصراعات
War: How Conflict Shaped Us, MacMillan, Margaret
المؤلفة: مارغريت ماكميلان
الناشر: «راندوم هاوس» - أكتوبر (تشرين الأول) 2020



قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»
TT

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

قراءات المثقفين في دول الخليج «2024»

مرت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الأصعدة، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة وطالت لبنان، ولا تزال مشاهدها الدامية تراكم الخراب والدمار على أرض الواقع. في غبار هذا الكابوس تستطلع «الشرق الأوسط» أهم قراءات المثقفين والمبدعين العرب خلال 2024.

في دول الخليج تنوّعت قراءات المثقفين والكتاب ما بين القراءات الشعرية والروائية، مع انفتاح على التجارب الأدبية في العالم العربي، ومقاربات للأعمال التي رصدت التجربة الحداثية وتأثيراتها، وكذلك التجارب النسوية في الرواية والسيرة الذاتية، وبينها كتب في الفكر والفلسفة والتاريخ الاجتماعي.

 

باسمة العنزي: ثوب أزرق وقبيلة تضحك ليلاً!

 

من الكويت، تقول الكاتبة والروائية الكويتية باسمة العنزي: سنة عاصفة مليئة بالأحداث المحبطة والأخبار البائسة! القراءة بدت فيها كاستراحة من لهاث متابعة أخبار الحروب وتردي الأوضاع وانحدار البشرية السريع. المفرح وسط كل هذا أن يقع بين يديك أعمال مبهرة هي الأولى لأصحابها!

قرأت للكاتبة السورية الكردية هيفا نبي «ثوب أزرق بمقاس واحد» الصادر عن دار «جدل» عام 2022، وهي رواية كتبت على شكل مذكرات، تناقش موضوع اكتئاب ما بعد الولادة بسرد جميل ونبرة أنثوية تغلغلت لتفاصيل عالم الأمومة الجديد لدى شابة مهجّرة من مدينتها بسبب الحرب. سرد شفاف يحلّق نحو ذات وحيدة تجتاز أزمتها عبر البوح. وهو عمل - للأسف - لم يحظَ بما يستحقه من اهتمام وانتشار رغم تجلي موهبة الكاتبة وتمكنها اللغوي وقدرتها على اقتناص الحالات النفسية ووصفها بكل تدرجاتها.

أما العمل الثاني فهو للكاتب السعودي سالم الصقور «القبيلة التي تضحك ليلاً» الصادر عن دار «مسكيلياني» عام 2024، وهو أيضاً يتناول موضوعاً جديداً في الرواية العربية عن عدم القدرة على الإنجاب في مجتمع قبلي معاصر، العمل مكتوب بلغة شعرية فذة وبنظرة فلسفية عميقة تضع تحت المجهر مفاهيم مثل الأمل والحرمان وخسارات الحياة القسرية. نوفيلا مكتنزة تدور أحداثها في نجران ليوم واحد يتحدد فيه مصير أبوة البطل المنتظرة!

هيفا نبي وسالم الصقور جاء عملاهما كإضاءة مبشّرة بالكثير في عالم يفقد دهشته ويخفت فيه صوت الحكمة، وقرأتهما في عام شحّت فيه الأشياء المدهشة!

 

د. عبد الرزّاق الربيعي: عودة لعبد الوهاب البياتي

ومن سلطنة عُمان، يقول الشاعر الدكتور عبد الرزاق الربيعي: كتب كثيرة قرأتها هذا العام، والبعض أعدت قراءته، وفق نظرة جديدة أكثر نضجاً، وتمحيصاً، وتذوّقاً، كالأعمال الشعرية لعبد الوهاب البياتي، والذي حفّزني للعودة إليها كتاب صدر عن دار «أبجد» هذا العام ضمن فعاليات مهرجان بابل العالمي للثقافات والفنون والإعلام (دورة 2024)، حمل عنوان «عبد الوهّاب البيّاتي... دراسات وشهادات وحوارات»، حرّره وقدّم له د. سعد التميمي. في بادرة ولمسة وفاء تُحسَب لرئيس المهرجان د. علي الشلاه.

وتأتي أهمية الكتاب كون محرّره د. التميمي، أستاذ النقد والبلاغة بالجامعة المستنصرية، وجّه دعوة ضمنيّة لقراءة البياتي، والكشف عن دوره الريادي، وفحص نتاجه من قبل النقاد الذين صرفت غزارة إنتاجه الشعري أنظارهم عنه، فهذه الغزارة بنظر د. حاتم الصكر «لم تدع فسحةً لقراءة نصيّة مناسِبة، فكثير من منتقدي سيرته السياسية اتبعوا ما أشيع عنه دون تمحيص؛ إذ لم يضعه الشيوعيون العراقيون - كما يشاع - محل السياب حين ارتدّ عنهم، لأنهم ليسوا بحاجة لشاعر، ومعهم مثقفوهم وأدباؤهم، كما أن البياتي ينتهج فكراً يسارياً قبل اصطفافه نصيراً للفكر اليساري التقليدي، وقد عزا ذلك - حين كتب (تجربتي الشعرية) - إلى ما كان يرى وهو صبي، من مظالم ومآسٍ تحيق بالمشردين والفقراء والنازحين للمدينة، وهو يراهم حول مزار الصوفي عبد القادر الجيلاني بوسط بغداد، حيث ولد البياتي ونشأ». وقد شارك في الكتاب كل من: د. حاتم الصكر، ود. بشرى موسى صالح، ود. خالد سالم، ود. محمد عبد الرضا شياع، ود. أناهيد الركابي، والشعراء: علي الشلاه، وهادي الحسيني، ومحمد مظلوم، ومحمد تركي النصار، ود. عبد الرزاق الربيعي، واشتمل على دراسات وشهادات وحوارات مسلطاً الضوء «على الإرث الشعري الذي خلّفه البياتي، وإسهاماته في تحديث القصيدة العربية، ورؤية البياتي للشعر، والحداثة وموقف الشاعر من السلطة والحرية، فضلاً عن تقنية كتابة القصيدة، وفاعليته في الوسط الثقافي».

قسّم التميمي الكتاب إلى ثلاثة فصول: تضمن الأول دراسات وقراءات، والثاني شهادات وذكريات، والثالث حوارات. وقد احتل الفصل الأول مساحة واسعة؛ إذ ضم سبع دراسات هي: القصيدة... المنفى... الموت... مفردات في تجربة البياتي الشعرية، للدكتور حاتم الصكر، وهالة الأسطورة في شعر عبد الوهاب البياتي، للدكتورة بشرى موسى صالح، والمتعاليات النّصّيّة في شعر البياتي، للدكتور محمد عبد الرضا شياع، والتجربة الإسبانية لدى البياتي، للدكتور خالد سالم، والبياتي من فلسفة الرفض إلى استشراف الرؤية، للدكتور سعد التميمي، ومركزية الهامش في شعر البياتي، للدكتورة أناهيد الركابي، ومجد الشعلة الخالدة الآخر في مرآة البياتي الشعرية، لمحمد تركي النصار.

أمّا الفصل الثاني، فقد ضمّ ثلاث شهادات حملت العناوين: «رجاءً عدم الجلوس... عبد الوهّاب البيّاتي قادمٌ بعد قليل» لعبد الرزاق الربيعي، و«في ذكرى البياتي» لهادي الحسيني، و«البياتي وسنواتنا في عمّان» للدكتور علي الشلاه.

وخُصّص الفصل الثالث لحوارات أجريت مع البياتي، وقد تناولت الدراسات الأثر الذي تركه البياتي ليس فقط لدى الشعراء العرب، بل تجاوز ذلك إلى الإسبان، خلال إقامته بمدريد في الفترة (1980-1990).

لقد أعاد هذا الكتاب لنفسي شغفي بقصيدة البياتي، التي تأثّرت بها في بداياتي مطلع الثمانينيات، فوفّر لي فرصة العودة للمنابع الشعرية الأولى.

 

عبد العزيز الصقعبي: أيام الغزو وسير النساء الذاتية

ومن السعودية، يقول الروائي والمسرحي السعودي عبد العزيز الصقعبي: أنا متفرغ حالياً للقراءة والكتابة، فالكتاب وجبة يومية، من الصعوبة تركها، والجميل في زمننا هذا هو سهولة الوصول للكتاب، ورقياً أو إلكترونياً، الحصة الأكبر من قراءاتي دائماً الرواية والقصة ثم الشعر والمسرح، إضافة إلى الكتب الفكرية والدراسات المهمة.

ربما - وأنا أتحدث عن نفسي كروائي - يرد في ذهني أمر ما - ربما وليس أكيداً – أتناوله في مشروع روائي؛ لذا أكثف قراءاتي حول ذلك الموضوع، أطرح لكم بعض الأمثلة «أيام الغزو... يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت»، وهي يوميات للفنان التشكيلي إسماعيل شموط؛ حيث كان لدي اهتمام بتلك الفترة التي لم تؤثر على الكويت فقط، بل على كامل المنطقة وبالأخص المملكة، بالطبع قرأت عدداً من الروايات والكتب حول ذلك ومن أهمها السباعية الروائية «إحداثيات زمن العزلة» للروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، على الرغم من كل الكتابات فتلك الفترة تحتاج إلى مزيد من الكتابة.

وحقيقة من الصعوبة سرد بقية أسماء الكتب التي قرأتها، فهنالك مثلاً روايات، تكون مقبولة وأنتهي منها عند آخر صفحة، ولكن لا تبقى في الذاكرة ولا تشجّع على قراءتها مرة أخرى ناهيكم عن كثير من الكتب وبالذات النصوص السردية التي لا أستطيع إكمالها، اللافت في 2024 دخول عدد من السير الذاتية النسائية في دائرة قراءاتي، بدأتها بسيرة «السنوات» الحائزة جائزة نوبل (أني إرنو)، وبعد ذلك أجد نفسي أمام سيرتين متشابهتين وفي الوقت ذاته مختلفتين؛ «حد الذاكرة» لعائشة محمد المانع، و«حياتي كما عشتها... ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» لثريا التركي، وبكل تأكيد هنالك قائمة طويلة أحتفظ بها لنفسي، من الكتب التي قرأتها أو سأقرأها، أو أتصفحها ربما تشدني للقراءة.

 

كاظم الخليفة: الأدب السعودي والعلاقة بين الأدب والفلسفة

ويقول الكاتب والناقد السعودي كاظم الخليفة: كان مشروعي القرائي لعام 2024 هو استكشاف الأفق الإبداعي للكتاب السعوديين، الذي أتاحه المرور على عناوين وتصفح بعض إصدارات مشروع «1000 كتاب» الذي تقوم عليه دار «أدب للنشر والتوزيع» بدعم من الصندوق الثقافي السعودي، وكذلك قراءة «كتاب أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» - الجزء الثاني - ذلك المشروع الرائد الذي قام بجهد شخصي من الأديب والقاص خالد اليوسف؛ لإبراز المشهد السردي السعودي المعاصر ومدى تقدمه من خلال ممارسة التجريب وتنوع الأدوات السردية. والثالث، كان المشروع الآخر للشاعر عبد الله السفر «رمال تركض بالوقت» الذي كان برعاية من مركز الملك عبد العزيز الثقافي «إثراء»، وهو عبارة عن مختارات لنصوص شعرية تختص بقصيدة النثر السعودية بغية ترجمتها للقارئ الفرنسي.

تعرض تلك الكتب جانباً مهماً من حراك الأدب السعودي المعاصر الذي يتطلب الكثير من الدراسة والتأمل، لكن الانطباع العابر يمكن استخلاصه في أن القصيدة الكلاسيكية السعودية تحاول تجديد ثوبها من خلال جعل «ذات» الشاعر بهواجسه وأحلامه أحد مواضيعها المهمة. أي أن الدافع الذاتي للكتابة، واتخاذ القصيدة وسيلة فضلى للتفكير، قد عمل على تقليص المساحة الكبيرة التي كان يحتلها شعر «المناسبات» في دواوين الشعراء.

والانطباع الثاني عن مستوى التقدم في كتابة قصيدة التفعيلة، التي لم تتقدم وتكتسب نسبة وازنة في دواوين الشعراء المعاصرين بشكل ملحوظ. أما ملمح قصيدة النثر الحديثة فنجد بروزاً لموضوع «الميتاشعرية»؛ حيث سؤال القصيدة ومحرضات كتابتها وجدواها. وفي كلا الجنسين الشعريين: الكلاسيكي والنثري، نلحظ فيهما تجاوز الشواعر النساء أزمة «النِّسوية» وبالتالي الكتابة بروح الأنثى المدركة لكينونتها.

في السرد، نلحظ نمواً لجنس القصة القصيرة جداً واقترابها - في بعض التجارب - من شذرات قصيدة النثر. وما يخص جنس القصة القصيرة، فيمكن ملاحظة أنها اتجهت نحو التنوع - بشكل واضح - في مواضيعها، مع تناول أكبر بالتركيز على الجوانب الوجودية والأزمات النفسية لشخوص حكاياتها. أما الرواية، فيمكننا رؤية اجتذابها للكتاب الشباب بإنتاج متلاحق لبعضهم؛ حيث يفصل بين كل عمل روائي وآخر أقل من عام.

مجال القراءة الحرة كان من نصيب كتب مميزة في بابها، وإن لم تبتعد كثيراً عن الأدب. ولعل أبرزها كتاب حديث للناقد الفرنسي كاميل ديموليي «الأدب والفلسفة... بهجة المعرفة في الأدب» الذي يُعتبر من أواخر من دخلوا في حلبة الصراع والجدل - منذ أفلاطون – عمّن هو الأجدر بتمثيل «الحقيقة»؛ الأدب أم الفلسفة، وكذلك عن طبيعة العلاقة الملتبسة بينهما. ففي هذا الكتاب يستعرض ديموليي الجدل القديم/الجديد عن علاقة الفلسفة بالأدب، ويحاور فيه جميع آراء الأدباء والفلاسفة البارزين، ابتداء بأفلاطون وسقراط، وانتهاء بنيتشه وهايدغر، ثم في خاتمة الكتاب يميل إلى الرأي الذي يقول إن «فكرة الفلسفة هي الأدب»، وذلك بمعنيين: أولاً أن الأدب هو فكرة الفلسفة، أي أنها إبداعه أو ابتداعه؛ ثم إنها مدار دراسته. وهكذا صار الأدب في نتيجته هو منبع الأفكار الفلسفية، وأنها تعود فيه وكأنها تعود إلى أصلها المنسي، كما يقول. بل إن نيتشه والتيار الرومانسي حاولا إعادة الفلسفة والأدب إلى أصلهما الشعري، بصفته نشاطاً خلاقاً؛ حيث الفلسفة - من وجهة النظر هذه - يمكن أن تكون ضرباً من الشعر المتحجر؛ أي خطاباً بواسطة الصور والمجازات.

 

حمد الرشيدي: بين البردوني والأفلاج والزلفي

من الرياض، يقول الشاعر والروائي السعودي حمد حميد الرشيدي: كثيرة هي الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، وكتبت بعض انطباعاتي الشخصية لما قرأته منها، وهي كتب تُعنى بالأدب والشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسات النقدية، وقرأت بعض الكتب التي أثارت اهتماماً من قبل القراء أو النقاد... ومن الكتب التي قرأتها هذا العام وأعجبت بها، كتاب «المكان في شعر البردوني» للدكتور خالد اللعبون، وهو دراسة موضوعية تحدث فيها الكاتب عن ظاهرة اكتناز شعر الشاعر العربي اليمني الكبير عبد الله البردوني (رحمه الله) بالمكان وجغرافيته وارتباطه الحسي والمعنوي بالإنسان.

وفي مجال أدب الرحلات، قرأت كتاب «الأفلاج كما رآها فيلبي» وهو من تأليف عبد العزيز المفلح الجذالين. ويتحدث فيه مؤلفه عن أهمية مدينة الأفلاج عبر التاريخ وما ذكره الرحالة الإنجليزي المعروف عبد الله فيلبي عن هذه المدينة عندما زارها زيارة ميدانية سنة 1918م.

وفي مجال علوم التاريخ والاجتماع، قرأت كتاب «الكويت والزلفي» لمؤلفه حمد الحمد، وهو يتحدث عن الصلات التاريخية والاجتماعية بين بعض العوائل والأسر العربية ذات العوامل المشتركة في الاسم والنسب والأرومة في كل من الكويت ومدينة الزلفي.

وفي الفكر والفلسفة، قرأت كتاب «الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها» للدكتور أمين أحمد زين العابدين، وهو كتاب تطرّق فيه المؤلف للحضارة العربية والإسلامية عبر التاريخ وما مرت به من مراحل وتغيرات عبر الزمن وأثرها وتأثيرها في الحضارات الأخرى.

وفي العلوم، قرأت كتاب «في تاريخ العلوم» للدكتور عبد الله محمد العمري، وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم عند العرب القدامى حتى العصر الحديث، وأهم الاكتشافات والاختراعات التي قام بها العرب والمسلمون منذ القدم، ثم تم نقلها عنهم للشعوب الأخرى التي قامت بالاستفادة منها وتطويرها في الوقت الحاضر.

جمانة الطراونة

 

جمانة الطراونة: من «أشجار الكلمات» إلى «غيم على سرير»

الشاعرة الأردنية المقيمة في مسقط (سلطنة عُمان) جمانة الطراونة، تقول: أميل إلى قراءة كتب المختارات الشعرية، كونها تعطي فكرة عن التجارب الشعرية المتحقّقة، وضمن هذا السياق، قرأت كتاب «أشجار الكلمات»؛ وهو مختارات شعرية للشاعر عدنان الصائغ. اختارها وقدم لها: حاتم الصكر، وحسن ناظم، وناظم عودة. وصدر عن دار «صوفيا» للنشر والتوزيع في الكويت، ومما علق في ذهني قوله:

«في الليلِ

أرى شخصاً آخرَ

لا أَعْرِفُـهُ

يَتَعَقَّبُني

فأغذُّ خطايَ،

وأسرعُ

أسمَعُهُ يتوسّلُ خلفي:

– اصحبْني ظلاً

فأنا أخشى أنْ أمشي منفرداً في الطُرُقاتْ».

أما أحدث كتاب قرأته هذا العام من كتب المختارات فهو كتاب «غيم على سرير» وقد ضمّ بين دفتيه مختارات من شعر عبد الرزاق الربيعي، وقد صدر عن دار «شمس» للنشر والإعلام، بالتعاون مع بيت الشعر ببغداد، والنصوص من اختيار الشاعر عماد جبّار، وقدّم لها د. سعد التميمي، الذي قال: «ينفرد الشاعر عبد الرزاق الربيعي من بين شعراء جيل الثمانينات باتّساع تجربته الشعرية وعُمقها وتنوعها، وهو الحاضر باستمرار في الساحة الشعرية والقادر على الانتقال من منطقة إلى أخرى مجدِّداً في القصيدة على مستوى اللغة والأسلوب والمعالجة والمفارقة، كاشفاً ما يحمله من عمق معرفي يتجلى في تناصّاته المتنوعة، (...) فهو القادم من صومعة الشعر حاملاً الوطن المثخن بالجراح والألم وصور الخراب والموت التي يختلط فيها الدم بالدموع»، وعلى الغلاف الأخير للمختارات كتب د. حاتم الصكر شهادة حول تجربة الربيعي، وقد قرأت ديوان الصكر «الهبوط إلى برج القوس» الصادر عن دار «أرومة للدراسات والترجمة والنشر»، وأبحرت مع عوالم الفقد، وأحزان غربته، التي يسرّبها عن طريق الشعر الذي يعتبره ملاذه الأخير ويستثمر الموروث الرافديني حين يرسم «بورتريهات» لعدد من أصدقائه كما في «خُطى جلجامش» التي يهديها إلى الشاعر عبد الرزاق الربيعي.