جارتي التي لن تصبح فنّانة أبداً

جارتي التي لن تصبح فنّانة أبداً
TT

جارتي التي لن تصبح فنّانة أبداً

جارتي التي لن تصبح فنّانة أبداً

جارتي محبوبة جدّاً من أمّها ومحبوبة من حماتها كذلك. وهي تبادلهما الحبّ، لكنّ حبّها للرسم يفوق حبّها لهما، أو لأي شيء آخر. هكذا استأجرتْ مرسماً على مقربة من بيتها، وراحت تقضي فيه أربع ساعات يوميّاً أو نحو ذلك. هناك كانت تنجز مشروعاتها الفنّيّة، وبين مشروع وآخر كانت تحلم بالمعارض التي سوف تقيمها وبالنجاح الذي ينتظرها في المستقبل.
شيء واحد كان يعترض طموحها، وكان يعترضه كثيراً. ذاك أنّ أمّها وحماتها، وهما طبّاختان ماهرتان، كانتا تظنّان أنّ جارتي تعاني نقصاً في التغذية، وأنّ زوجها أيضاً، وهو نحيل جدّاً، يعاني نقصاً مشابهاً. مصدر الفكرة أنّ الجارة لا تطبخ، بل تأكل في كانتين يقع في أسفل البناية التي استأجرت مرسمها فيها، فيما زوجها المحامي يتناول في مكتبه سندويتشاً على أن تكون وجبته الأساسيّة مساء في البيت. فحين يحلّ وقت العشاء يحضّر الزوجان معاً بعض السَلَطات، أو يطلبان سَلَطة عبر خدمة الدليفري، لأنّهما لا يحرصان على شيء مثل حرصهما على تجنّب السمنة.
هذا كلّه لم يقنع أمّها وحماتها اللتين تمسّكتا بالفكرة إيّاها: جارتي وزوجها مريضان وفي حاجة إلى التغذية، وهما، لهذا السبب، لن يستطيعا أن ينجبا لهما أحفاداً أصحاء.
«انظري إلى اصفرار وجهها. هذا ما يحرق قلبي»، قالت الأمّ للحماة التي أجابتها: «وماذا تنتظرين ما دام أنّها لا تأكل إلاّ النزر اليسير من اللحم، ومن يدري ما الذي يُطعمونها إيّاه في المطاعم التي ترتادها؟».
هكذا راحت الأمّ والحماة ترسلان في وقت الظهر كميّات ضخمة من الوجبات المطبوخة؛ من بينها الكبّة، وأنواعٌ من المحاشي، فضلاً عن الأرنبيّة والملوخيّة والصيّاديّة والمغربيّة. فالأطباق هذه ليست شهيّة فحسب، بل مغذّية أيضاً، وهي خير ما أنتجه المطبخ اللبناني وما تغنّى به. وهما كانتا تنسّقان معاً، بحيث ترسل إحداهما طبقاً يتماشى مع الطبق الذي ترسله الأخرى، فلا يحصل تكرار ولا ينشأ تنافر.
وبالفعل ازدحمت ثلاّجة جاري وجارتي بالمآكل التي يبقى معظمها بلا تصريف. في مرّات كانا يرسلان لي بعضها أو يرسلانها إلى بعض الجيران، وفي مرّات أخرى تكون من حظّ ناطور بنايتنا الذي يزيد عدد أفراد عائلته على السبعة. إلا أنّهما كانا يشترطان على من يتلقّى طعامهما الحفاظ على أقصى السرّيّة. ذاك أنّ تسرّب الخبر إلى الأمّ أو الحماة قد يسيء إلى علاقة حميمة بين أفراد الأسرة الواحدة.
المشكلة الكبرى كانت في مكان آخر. فالمآكل كانت تصل إلى بيت جيراننا عند الظهيرة، مما يستدعي وجود الجارة في البيت كي تتسلّمها وتوزّعها على الأمكنة والوظائف المناسبة: هذا للبرّاد، وهذا للثلاّجة، وهذا للتسخين السريع، وهذا يُنقل إلى الوعاء الفلانيّ... وهي مهمّة لا تؤتَمن عليها إلاّ «ستّ البيت»، وفق الوصف الذي كانت الأمّ والحماة تستخدمانه، وكان يُضحك جارتي الشابّة التي لم تتخيّل نفسها مرّة «ستّ بيت».
لكنّ وقت الظهيرة، حين تصل المآكل، هو وقت الذروة في المرسم. لهذا بات التوجّه إلى المنزل لتسلّم المآكل يحول دون تركيز الجارة الفنّانة على ما ترسم. فحين تعود إليه بعد ساعة، أو في اليوم التالي، تجد أنّها فقدت المزاج الذي رافق ما كانت ترسمه، وأنّ عليها بالتالي أن ترسم شيئاً آخر مختلفاً تماماً. وعلى هذا النحو كان ينتهي الأمر بها إلى عشرات الرسوم غير المكتملة، وإلى توتّر داخلي كان كثيراً ما يدفعها إلى البكاء.
محاولاتها لردع الأمّ والحماة عن إرسال المآكل لم تنفع، كما لم تنفع الحجج التي كانت تقدّمها لهما. مرّة طالبتهما بمراعاة وقتها الذي تكرّسه للرسم، فراحتا تقهقهان ساخرتين منها ومن الفنّ، وتتبادلان نكاتاً ريفيّة عن أشخاص توهّموا أنّ الفنّ يؤمّن لهم خبزهم فماتوا جوعاً. حماتها قالت لها مرّة بقدر من الحدّة لم تستطع السيطرة عليه: «إذا كنت تريدين الانصراف إلى الفنّ والامتناع عن الأكل، فابني يريد أن يأكل». أمّا أمّها فنبّهتها إلى أنّ الفنّ والكانتين والدليفري أمور طارئة على بيت أهلها، لم تعهده الأمّهات والجَدّات من قبل. هكذا راحت التجارب والمحاولات كلّها تؤكّد لجارتي أنّ معركتها خاسرة لا محالة، بل مستحيلة. وهي حاولت توسيط زوجها في المسألة فاعتذر. ذاك أنّ أمّه حسّاسة جدّاً وهو لا يريد «أن يجرحها». وبعد كلّ حساب، فالأمّ والحماة متقدّمتان في السنّ، والطعام هو الشيء الوحيد الذي تستطيعان تقديمه، وهو ما يعطي حياتهما بعض المعنى.
هكذا أضيفَ إلى محنة جارتي شعور بالذنب قرّرت معه أن تغلق الموضوع نهائيّاً، وأن تعود إلى البيت في الوقت المحدّد كي تتسلّم مآكل الأمّ والحماة. وبالتدريج، وفي يأسها من أن تُنتج شيئاً يمكنها أن تعتدّ به، توقّفت عن زيارة المرسم، وصارت تكتفي برسمات تخرطشها في البيت للكبّة والمحاشي وباقي الوجبات الشهيّة. وعلى مدى أشهر قليلة زاد وزنها نحو عشرة كيلوغرامات، أمّا زوجها المحامي فغدا صاحب كرش يحاول، دون جدوى، أن يحدّ من توسّعه. لكنّ الاستسلام الكبير كان قرارهما إنجاب أطفال أصحاء تسعد بهم الأمّ والحماة.

اللوحة من أعمال سلفادور دالي



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.