كتب المكتبة... ترياق صغير للرفض المستمر في حياتنا

أسباب كثيرة تدفع بالناس لشراء الكتب
أسباب كثيرة تدفع بالناس لشراء الكتب
TT

كتب المكتبة... ترياق صغير للرفض المستمر في حياتنا

أسباب كثيرة تدفع بالناس لشراء الكتب
أسباب كثيرة تدفع بالناس لشراء الكتب

قبل بضعة أسابيع، علمت بوجود رواية نُشرت منذ نحو 25 عاماً بعنوان «The Debt to Pleasure»، وقرّرت حينها أنني أريد هذه الرواية. فقد أكدت مقالات النقاد والتعليقات المختلفة عليها أنها حقاً رواية رائعة، كما بدا هيكل الرواية عبقريّاً أيضاً؛ فهي رواية كانت بطريقة ما مقالاً وكتاباً للطبخ، وكنت قد قرأت مؤخراً مقالاً صغيراً مضحكاً لمؤلف الرواية، جون لانشيستر. فكانت هناك أسباب كثيرة تدفع بي لشرائها؛ إذ لم يكن لدي خيار آخر.
لكن قبل أن أتمكن من الضغط على زر «يجب الشراء الآن» بداخلي، ظهرت عقبة مألوفة، لكنّها كئيبة، في ذهني: المكتبة، على وجه التحديد مكتبة المحكمة العليا الكبرى التي تقع على بُعد ثلاثة مبان من بيتي، لذا فتحت الموقع الإلكتروني الخاص بها على الكومبيوتر المحمول الخاص بي وبحثت في قائمة محتوياتها وبالتأكيد كانت رواية «The Debt to Pleasure» متاحة. هل أرغب في حجزها؟ تنهدت؛ من ثم اخترت «نعم».
وهكذا هبط البالون اللامع لرغبتي في اقتناء الكتاب وتراجع حتى إنه بحلول الوقت الذي أصبح فيه الكتاب جاهزاً لأذهب وأحضره، كانت رغبتي في اقتنائه تشبه أحد البالونات التي تصرّ ابنتي على الاحتفاظ بها بعد حفلات أعياد الميلاد وهي تصطدم بشكل عشوائي بين أرجل الكراسي في المنزل، فصحيح أنني ما زلت أرغب في قراءة، لكنني لم أعد أشعر بالبهجة نفسها مع اليقين الذي يضخه قلبي بأنني سأحب الرواية، فقد كان هذا الكتاب المتهالك ذو الورق الأصفر عادياً للغاية، بل على العكس تماماً، كان من الكتب الجديدة التي لم تمسسها يد من قبل.
في الواقع؛ فإن المكتبات لا توفر مجرد تكلفة شراء الكتب، بل أكثر من ذلك أيضاً، فهي توفر لي نموذجاً للعوم في بحر الشوق وخيبة الأمل الذي يُمثل الحياة.
أدّت المكتبة للمرة الألف، خدعتها السّحرية: لقد قفزت بي إلى المستقبل، فرغم أنّه اللقاء الأول الذي جمعني بهذا الكتاب، فإنّها أكّدت لي أنّ علاقتنا هذه حتماً ستنتهي على أي حال، فالتدفق الأولي لشهوة قراءة الكتب يعدنا بأن هذا الكتاب سيغيّر كل شيء، وأنّه سيكون الوسيلة التي ستوصلنا أخيراً إلى الشعر الملحمي، وسيعلمنا كيفية التأمل، ولكن كما تقول المكتبة؛ فإن الكتاب يحتوي على إيصال قديم لشخص غريب، وإنّه سيخرج من حياتك في غضون ثلاثة أسابيع. وما تقوله المكتبة، يؤدي لتبديد تخيلاتي عن الديمومة.
وعلينا أن نتخيل وجود مكتبة تضم ملابس باهظة الثمن، حيث يمكنك رؤية كيف سيبدو القميص الذي تفكر في إنفاق 98 دولاراً عليه، بعد ظهور بقعة زيت لا يمكن التّخلص منها على صدره، أو وجود مكتبة للمدن المحتملة التي قد تعيش فيها، حيث تُجبر كل مدينة منها على عرض ليس فقط المباني التي تصطف على جانبيها الأشجار في يوم سبت من أبريل (نيسان)، ولكن أيضاً ساحات الانتظار المزدحمة، ومحطات الحافلات في فبراير (شباط)، حيث يمكن للمكتبة، بالإضافة إلى خدماتها الكثيرة للناس، أن تعمل محركاً كبيراً للوضوح الشّخصي، ومواجهة الحقائق، والاعتراف بأنّ الحياة ليست في الأساس غلافاً أصليّاً ذا حوافٍ جديدة، ولكنّها مجرد شيء رثّ موجود منذ بضعة عقود مضت.
وأرى أن الواقعية الناتجة عن المكتبات تعدّ أمراً عظيماً؛ إذ يمكنها أن تفعل الكثير لزيادة سعادة الناس، لأن العالم الذي تكون فيه دائماً تحت الانطباع بأن شراء الكتاب التالي، والشقة التالية، أو أي شيء آخر، ليس حياة سعيدة، ولكنّها عبارة عن حياة الرفض الدائم، وحياة من الارتفاعات، تليها فترات متدنية طويلة، ولكن تعد المكتبة، بما تقدمه من كتب بالية ومؤقتة، بمثابة تذكير رائع ومؤثر بوضعنا البشري الفعلي مثل المد والجزر أو الغابة في الخريف، ودعوني هنا أقتبس من بينيلوبي فيتزغيرالد (التي تستحق كتبها الشراء): «حياتنا مُعارة لنا فقط».
وربما يجب أن أذكر هنا أنه قد انتهى بي المطاف بحب رواية «The Debt to Pleasure»، لقد أحببتها كثيراً لدرجة أنّني طلبت نسخة خاصة بي للاحتفاظ بها، والآن أنتظرها بهدوء راضٍ مثل ذلك الذي يشعر به راعي غنم يجمع قطيعه عند غروب الشمس، ولكن يمكن للمكتبة (في الواقع أنها تفعل ذلك في كثير من الأحيان)، أن تحقق لنا أيضاً الشعور بالرضا الذي نتطلّع فيه إلى ما وراء سراب الملكية الدائمة للكتب، وأعلم أنني أحب هذه الرواية وأنها ستسعدني كثيراً، وأعلم أيضاً أن ابنتي ستضعها يوماً ما على الرصيف بجانب مجموعة شطرنج وغلاية مكسورة تحتاج فقط إلى قابس جديد للبيع.
وعندما حان يوم إعادة نسخة المكتبة من رواية «The Debt to Pleasure»، مشيت بها إلى المدخل الجانبي الغريب الذي يعمل الآن نافذة لتسليم الكتب، وألقيت بالكتاب في العربة البلاستيكية الزرقاء المكتوب عليها «صندوق الإرجاع»، فهذا الكتاب، الذي كان قبل بضع ليالٍ بجانبي في الفراش، وجعلني أضحك بشدة لدرجة أنني لم أستطع أن أشرح لزوجتي ما سبب هذا الضحك، أصبح الآن مكدّساً بجانب مئات الكتب الأخرى، مثل كتب الأنظمة الغذائية، وكتب مصاصي الدماء، والكتب المصورة؛ فكل منها سيكون له دور جديد في حياة شخص ما وفي عقله، وفي أقرب وقت ممكن، سيُستبدل على الرّف مكان كتاب آخر. وفي ذلك اليوم مشيت من دون النظر إلى الوراء، فالكتاب لم يكن يوماً ملكاً لي.

* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
TT

تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)

قررت بيكا زيغلر البالغة 24 عاماً، تجميد جثتها في برّاد بعد وفاتها عن طريق مختبر في برلين، على أمل محدود بإعادة إحيائها مستقبلاً.

وقّعت هذه المرأة الأميركية التي تعيش وتعمل في العاصمة الألمانية، عقداً مع شركة «توموروو بايوستيتس» الناشئة المتخصصة في حفظ الموتى في درجات حرارة منخفضة جداً لإعادة إحيائهم في حال توصّل التقدم العلمي إلى ذلك يوماً ما.

وعندما تتوفى زيغلر، سيضع فريق من الأطباء جثتها في حوض من النيتروجين السائل عند حرارة 196 درجة مئوية تحت الصفر، ثم ينقلون الكبسولة إلى مركز في سويسرا.

وتقول زيغلر، وهي مديرة لقسم المنتجات في إحدى شركات التكنولوجيا في كاليفورنيا، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «بشكل عام، أحب الحياة ولدي فضول لمعرفة كيف سيبدو عالمنا في المستقبل».

ولم يعد علم حفظ الجسم بالتبريد الذي ظهر في ستينات القرن العشرين، مقتصراً على أصحاب الملايين أو الخيال العلمي كما ظهر في فيلم «ذي إمباير سترايكس باك» الذي تم فيه تجميد هان سولو، وفيلم «هايبرنيتس» حين يعود رجل تحرر من الجليد القطبي، إلى الحياة.

توفّر شركات في الولايات المتحدة هذه الخدمة أصلاً، ويُقدّر عدد الأشخاص الذي وُضعت جثثهم في التبريد الأبدي بـ500 فرد.

50 يورو شهرياً

تأسست «توموروو بايوستيتس» عام 2020 في برلين، وهي الشركة الأولى من نوعها في أوروبا.

وفي حديث إلى «وكالة الصحافة الفرنسية»، يقول إميل كيندزورا، أحد مؤسسي الشركة، إن أحد أهدافها «هو خفض التكاليف حتى يصبح تبريد الجثة في متناول الجميع».

إميل كيندزورا أحد مؤسسي «توموروو بايوستيتس» يقف داخل إحدى سيارات الإسعاف التابعة للشركة خارج مقرها في برلين (أ.ف.ب)

ولقاء مبلغ شهري قدره 50 يورو (نحو 52.70 دولار) تتقاضاه من زبائنها طيلة حياتهم، تتعهد الشركة الناشئة بتجميد جثثهم بعد وفاتهم.

يضاف إلى الـ50 يورو مبلغ مقطوع قدره 200 ألف يورو (نحو 211 ألف دولار) يُدفع بعد الوفاة - 75 ألف يورو (نحو 79 ألف دولار) لقاء تجميد الدماغ وحده - ويمكن أن يغطيه نظام تأمين على الحياة.

ويقول كيندزورا (38 سنة) المتحدر من مدينة دارمشتات في غرب ألمانيا، إنه درس الطب وتخصص في الأبحاث المتعلقة بالسرطان، قبل أن يتخلى عن هذا الاختصاص بسبب التقدم البطيء في المجال.

وتشير «توموروو بايوستيتس» إلى أنّ نحو 700 زبون متعاقد معها. وتقول إنها نفذت عمليات تبريد لأربعة أشخاص بحلول نهاية عام 2023.

ويلفت كيندزورا إلى أنّ غالبية زبائنه يتراوح عمرهم بين 30 و40 سنة، ويعملون في قطاع التكنولوجيا، والذكور أكثر من الإناث.

عندما يموت أحد الزبائن، تتعهد «توموروو بايوستيتس» بإرسال سيارة إسعاف مجهزة خصيصاً لتبريد المتوفى باستخدام الثلج والماء. يتم بعد ذلك حقن الجسم بمادة «حفظ بالتبريد» ونقله إلى المنشأة المخصصة في سويسرا.

دماغ أرنب

في عام 2016، نجح فريق من العلماء في حفظ دماغ أرنب بحال مثالية بفضل عملية تبريد. وفي مايو (أيار) من هذا العام، استخدم باحثون صينيون من جامعة فودان تقنية جديدة لتجميد أنسجة المخ البشري، تبين أنها تعمل بكامل طاقتها بعد 18 شهراً من التخزين المبرد.

لكنّ هولغر رينش، الباحث في معهد «آي إل كاي» في دريسدن (شرق ألمانيا)، يرى أنّ الآمال في إعادة شخص متجمد إلى الحياة في المستقبل القريب ضئيلة جداً.

ويقول لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «نشكّ في ذلك. أنصح شخصياً بعدم اللجوء إلى مثل هذا الإجراء».

ويتابع: «في الممارسة الطبية، إنّ الحدّ الأقصى لبنية الأنسجة التي يمكن حفظها بالتبريد هو بحجم وسمك ظفر الإبهام، والوضع لم يتغير منذ سبعينات القرن العشرين».

ويقرّ كيندزورا بعدم وجود ضمانات، ويقول: «لا نعرف ما إذا كان ذلك ممكناً أم لا. أعتقد أن هناك فرصة جيدة، لكن هل أنا متأكد؟ قطعاً لا».

بغض النظر عما يمكن أن يحدث في المستقبل، تقول زيغلر إنها متأكدة من أنها لن تندم على قرارها. وتضيف: «قد يبدو الأمر غريباً، لكن من ناحية أخرى، البديل هو أن يضعوك داخل تابوت وتأكلك الديدان».