انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

واجه «الحرس القديم» وأحكم قبضته على أذربيجان... وعيّن زوجته نائباً للرئيس

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف
TT

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

لم يكن رئيس أذربيجان إلهام علييف الذي يتربع على سدة الحكم في بلاده منذ نحو عقدين، في حاجة إلى نصر عسكري حاسم في إقليم ناغورنو قره باغ من أجل تثبيت أركان حكمه. ذلك أنه نجح عبر أربع ولايات رئاسية متتالية، في إضعاف خصومه، وفرض سلطات مطلقة في الجمهورية القوقازية السوفياتية السابقة.
إلا أن الزعيم القوي الذي عاش طوال حياته في جلباب أبيه حيدر علييف، الرئيس القومي صاحب لقب «صانع الاستقلال»، كان يحتاج بقوة إلى رفع رايات «نصر عظيم» ليعزز صورته وإنجازاته كبطل قومي، ليكون أول مرسوم رئاسي يصدره بعدما وضعت «حرب قره باغ» الأخيرة أوزارها تحديد العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام «عيداً للنصر». هذه الهالة التي سيدخل علييف الابن سجلات تاريخ البلاد من بوابتها، تشكل سلاحاً إضافياً لتثبيت مقعده الرئاسي مدى الحياة، مهما بلغت حدة التعقيدات والصراعات في الفضاء المحيط. بعبارة أخرى، لم يعد الزعيم الذي يطلق عليه البعض صفة «الملك المتوّج» يخشى تداعيات «الثورات الملوّنة» التي هزّت الكراسي في بلدان مجاورة، وأطاحت كثيرين من زملائه السابقين... فمن ذا الذي يجرؤ الآن على تحدي «بطل الانتصار العظيم»؟
لا شك أن للنصر الذي حققت القوات الأذربيجانية في إقليم ناغورنو قره باغ الذاتي الحكم على الانفصاليين الأرمن، رمزية خاصة للرئيس الأذري، الذي ارتبط تاريخ عائلته بالنزاع المزمن مع أرمينيا. إذ إن والده، حيدر علييف، أول رئيس لأذربيجان بعد «إعلان الاستقلال» في نهاية العهد السوفياتي (والقيادي البارز سابقاً في السلطة السوفياتية)، ولد في ناخيتشيفان (نخجوان)، الإقليم الأذري الواقع داخل الأراضي الأرمينية. ثم إن عائلة علييف نفسها تتحدّر من قرية جومارتلي في منطقة زانجيزور، التي سميت فيما بعد سيسيان. والمنطقة كانت في مرحلة من التاريخ جزءاً من أذربيجان، لكنها الآن مدينة سيونيك في أرمينيا.
- نشأة مثيرة وظروف تاريخية
ولد الهام علييف في عام 1961، ونشأ في أحضان السلطة السوفياتية؛ إذ كان والده رئيساً لجهاز الاستخبارات الرهيب المعروف اختصاراً باسم الـ«كي. جي. بي». في أذربيجان. ثم ترأس الجمهورية كسكرتير أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية، قبل أن ينتقل إلى موسكو، حيث عمل نائباً لرئيس مجلس الوزراء (الحكومة) في الاتحاد السوفياتي المنحل.
لذا؛ لم يكن صعباً بالنسبة إلى إلهام الذي تخرّج عام 1977 من المدرسة الثانوية أن يلتحق فوراً بـ«معهد العلاقات الدولية» في موسكو، وهو المعهد المرموق التابع لوزارة الخارجية، الذي تخرّج فيه أبرز رموز الدبلوماسية الروسية، وبينهم رئيس الوزراء الراحل يفغيني بريماكوف ووزير الخارجية حالياً سيرغي لافروف.
في وقت لاحق سوف يتذكر إلهام علييف تلك المرحلة ليقول لأحد الصحافيين «تم قبولي على أساس شهادة تنص رسمياً على أنه في غضون خمسة أشهر فقط سأبلغ من العمر 16 سنة. كانت السنة الأولى من الدراسة هي الأكثر مسؤولية. إن الدراسة في باكو (عاصمة أذربيجان) لابن السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأذربيجاني شيء... والدراسة في موسكو شيء آخر تماماً، في بيئة مختلفة، وحتى في هذه السن المبكرة. لكنني لم أخيّب ظن والدي، فقد درست جيداً في المعهد، ثم نجحت في الدراسات العليا».
في عام 1985، بعدما دافع إلهام عن أطروحته للحصول على درجة مرشح العلوم التاريخية، عمل في التدريس بالمعهد الدبلوماسي ذاته، لسنوات محدودة عاد بعدها إلى باكو عام 1991 عندما كان الاتحاد السوفياتي يلفظ أنفاسه الأخيرة. غير أن تلك الفترة كانت مهمة جداً، لكونها مهّدت لبروز نجم «ابن الرئيس الأذري» داخل الأوساط الدبلوماسية الروسية، وهي المرحلة التي تلتها خطوة أخرى لا تقل أهمية، مهّدت لبناء إلهام علييف علاقات وثيقة ظلت مستمرة لسنوات طويلة لاحقا مع تركيا.
حصل ذلك، بعدما انخرط إلهام علييف في الأعمال الخاصة. وسرعان ما أصبح رئيساً لشركة «أورينت» المتخصّصة في مجال النفط، لينتقل عام 1992 انتقل إلى إسطنبول، حيث ارتبط النشاط الرئيسي للشركة بتركيا. وفي العام التالي عاد إلهام إلى أذربيجان بعدما غدا والده رسمياً رئيساً للجمهورية الوليدة على أنقاض الدولة العظمى السابقة. ومنذ ذلك الوقت، لم يكن للحظة بعيداً عن السلطة في بلاده. ذلك أنه شغل في السنوات بين 1994 إلى 2003 منصب نائب الرئيس، ثم النائب الأول لرئيس SOCAR (شركة النفط الحكومية لجمهورية أذربيجان). ما يعني أنه شارك عملياً في تنفيذ «استراتيجية النفط لحيدر علييف».
خلال تلك الفترة، انتُخب عام 1995 نائباً في البرلمان، وظل في موقعه النيابي مع عمله في الشركة النفطية العملاقة، حتى تولى في أغسطس (آب) 2003 منصب رئيس وزراء جمهورية أذربيجان، وهو المنصب الذي بقي فيه مدة شهرين فقط، بتوصية من والده تمهيداً لانتقاله إلى مقعد الرئاسة.
- رئيساً لأذربيجان
حصل علييف الابن على أصوات نحو 80 في المائة من الناخبين، وسط تشكيك واسع من جانب مراقبين دوليين تحدثوا عن انتهاكات عديدة، ولم تعترف المعارضة الأذربيجانية بنتيجة الانتخابات. وفي اليوم التالي تحرك أكثر من 3000 من أنصار أحد مرشحي الرئاسة المعارضين من حزب المساواة على طول الشوارع المركزية بالعاصمة باكو، لكن التحرك قُمع بسرعة، وظهر علييف على شاشة التلفزيون الوطني ليقول:
«أؤمن بمستقبل سعيد لأذربيجان. أنا واثق من أن بلادنا ستستمر في التطور والتعزيز. ستحصل الديمقراطية في أذربيجان على مزيد من التطور، وسيصار إلى ضمان التعددية السياسية وحرية التعبير. ستصبح بلادنا دولة حديثة. لتحقيق كل هذا، يجب عمل الكثير في أذربيجان. ولكن من أجل تنفيذ كل هذا وتحويل أذربيجان إلى دولة قوية، من الضروري، أولاً وقبل كل شيء، مواصلة سياسة حيدر علييف في البلاد». هذه الكلمات كرّرها مرات عدة. وفي مقابلة مع صحيفة حكومية روسية، قال إن «أذربيجان اليوم هي عمل حيدر علييف، ويمكنك التحدث لساعات عما فعله للبلاد. ويجب أن نواصل مسيرته. لقد جاهدت دائماً وسأسعى لأكون مثل والدي».
عكست تلك العبارات جوهر المشكلة التي يواجهها الرئيس الشاب، الذي راكم خبرات عملية في شركات النفط، لكنه ما زال يفتقد الخبرات السياسية، كما أنه يفتقد «الكاريزما» التي كان يملكها والده. لقد ظل لسنوات يعيش على التركة السياسية لوالده صانع الاستقلال و«باني أذربيجان الحديثة».
لذا؛ سادت توقعات بأنه لن يكون قادراً على اتباع أسلوب قيادة صارم. لكن الأمر لم يقتصر على قدراته وخبراته؛ إذ اضطر إلهام علييف إلى الاعتماد كلياً على النخبة الحاكمة القديمة، وشغل أولئك الذين احتلوا مواقع مؤثرة في عهد الرئيس الأب جميع المناصب الوزارية المهمة. واستغرق الأمر سنتين للتحضير لتغيير الجهاز الرئاسي وتشكيل فريق مقرب منه.
- الانقلاب على الحرس القديم
في أكتوبر (تشرين الأول) 2005، أعلنت أذربيجان إحباط محاولة انقلاب، وجرى اعتقال 12 من أبرز الشخصيات في البلاد، بينهم وزير التنمية الاقتصادية ووزير المالية ووزير الصحة والرئيس السابق لأكاديمية العلوم في البلاد. وكان البعض، يعتقد وفقاً لتقارير، أن إلهام علييف لن يستطيع حكم البلاد. حتى أن أوساطاً اعتبرته شخصية انتقالية ستضمن انتقالاً ناجحاً إلى عضو آخر في النخبة الحاكمة. لكن اتضح أن إلهام كان سياسياً أكثر ذكاءً بكثير من تلك الافتراضات.
لقد أدرك أن التهديد الأكبر لحكمه لم يأت من المعارضة الهشة، بل من النخبة الحاكمة. فلقد أسفرت وفاة حيدر علييف عن إطلاق أيدي العديد من العناصر النافذة المؤثرة في «الحرس القديم» الذي ارتضى مرغما نقل السلطة إلى «شاب عديم الخبرة» كي يواصل التحكم بمفاتيح القرار في البلاد. وكان يترأس تلك المجموعة عمّ الرئيس، جلال علييف، وأقرب معاونيه علي إنسانوف وهو رئيس عشيرة إيراز (الأذربيجانيون من أرمينيا) ومؤسس حزب «أذربيجان الجديدة» الحاكم.
إلا أنه خلافاً لتوقعات الجميع، تعامل إلهام بقسوة مع خصومه السياسيين. إذ اعتقل إنسانوف وعدداً من أفراد عائلة علييف الممسكين بمواقع مهمة، بتهمة الوقوف وراء محاولة الانقلاب وأدينوا بالفساد والاختلاس. وأقدمت الحكومة على قمع المعارضة بعد الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2005.
هذه الإجراءات ساعدت، طبعاً، على محو صورة الرئيس على أنه ضعيف، وإن كانت قد نسفت في الوقت ذاته صورته كمصلح. ولكن المهم في اعتقال إنسانوف، زعيم إيراز، أنه بشّر بالنهاية الرمزية لحكم العشائر. ورغم أن بعض الشخصيات من إيراز واصلت الاحتفاظ بمعظم المناصب الرئيسية، فإن الولاء الشخصي والقرب من الرئيس أصبحا أكثر أهمية من الانتماء إلى عشيرة أو أخرى.
وعلى عكس والده، الذي اعتمد على عشيرته بالدرجة الأولى، اتجه إلهام إلى العمل مع أناس نشأوا في العاصمة باكو ونجحوا في العديد من الأحيان في الأعمال التجارية. وعموماً، ساهمت الإيرادات الكبيرة من صادرات النفط في تعزيز السلطة الرئاسية وتقوية هيمنة الأوليغارشية.
- تعديلات دستورية... ورئاسة مدى الحياة
أثناء الدورة الرئاسية الثانية أجرى إلهام علييف استفتاءً في البلاد لتعديل الدستور عام 2009، بمبادرة من حزب «أذربيجان الجديدة» الحاكم. وبحسب نتائج الاستفتاء صوّت 90 في المائة من المقترعين لصالح التعديلات. ومن التعديلات التي جرت الموافقة عليها منح الرئيس حق الترشح أكثر من مرتين. وهو ما مهد الطريق أمام إلهام لإنهاء الجدل الداخلي حول خلافته، مع أنه كان هناك اعتقاد شائع بأن الاستفتاء كان يهدف إلى توضيح للمتنافسين داخل النخبة الحاكمة أنه لا داعي للخوف من تغيير السلطة في المستقبل القريب. في أي حال، اتهمت المعارضة علييف بالعمل على تحويل أذربيجان إلى نظام حكم ملكي، واعتبرت المفوضية الأوروبية الاستفتاء «خطوة خطيرة إلى الوراء»، ووصفت منظمات دولية عدة، أذربيجان بأنها «بلد ركز فيه الرئيس سلطة واسعة بين يديه».
ووقع الاستفتاء الدستوري التالي خلال الولاية الرئاسية الثالثة عام 2016. هذه المرة بادر إلهام علييف نفسه إلى الطُلب من المواطنين التصويت لزيادة فترة الرئاسة من 5 إلى 7 سنوات، واستحدثت مناصب النائب الأول للرئيس ونواب الرئيس. وكان بين التغييرات المثيرة للجدل نقطتان أخريان تؤثران على أنشطة السلطتين التشريعية والتنفيذية. ففي عهد حيدر علييف - عندما كان إلهام رئيساً للوزراء - نظّم استفتاء نقلت على إثره نقل صلاحيات رئيس الدولة، في حال رحيله المبكر، ليس إلى رئيس مجلس النواب، بل إلى رئيس الوزراء. وفي هذه المرة، طُلب من المواطنين إقرار تعديل مختلف ينصّ على أنه إذا ما استقال الرئيس طواعية، فلا تنتقل صلاحياته إلى رئيس الوزراء، بل إلى النائب الأول للرئيس. ووفق على جميع التعديلات الـ29 في استفتاء عام 2016 بمستويات دعم تراوحت بين 90 و95 في المائة من الأصوات. ومجدداً، انتقد «مجلس أوروبا» هذا الاستفتاء، ووصفه بأنه ضربة جديدة للتطور الديمقراطي في البلاد.
ولكن، سرعان ما اتضحت بعد مرور ثلاثة أشهر على إقرار التعديلات الدستورية الجديدة، أهداف إلهام علييف منها. إذ أصدر في فبراير (شباط) 2017 مرسوماً رئاسياً بتعيين زوجته مهريبان لمنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية. وللعلم، كانت السيدة الأولى منذ 2005 نائبة في البرلمان، إلا أنها غدت مع التعديلات الدستورية صاحبة سلطة واسعة جدا، ومرشحة أكثر من محتملة للرئاسة في حال تعرّض الرئيس لأي طارئ. وبطبيعة الحال، آثار هذا التعيين عاصفة من الجدل في أوساط الباحثين.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.