انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

واجه «الحرس القديم» وأحكم قبضته على أذربيجان... وعيّن زوجته نائباً للرئيس

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف
TT

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

لم يكن رئيس أذربيجان إلهام علييف الذي يتربع على سدة الحكم في بلاده منذ نحو عقدين، في حاجة إلى نصر عسكري حاسم في إقليم ناغورنو قره باغ من أجل تثبيت أركان حكمه. ذلك أنه نجح عبر أربع ولايات رئاسية متتالية، في إضعاف خصومه، وفرض سلطات مطلقة في الجمهورية القوقازية السوفياتية السابقة.
إلا أن الزعيم القوي الذي عاش طوال حياته في جلباب أبيه حيدر علييف، الرئيس القومي صاحب لقب «صانع الاستقلال»، كان يحتاج بقوة إلى رفع رايات «نصر عظيم» ليعزز صورته وإنجازاته كبطل قومي، ليكون أول مرسوم رئاسي يصدره بعدما وضعت «حرب قره باغ» الأخيرة أوزارها تحديد العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام «عيداً للنصر». هذه الهالة التي سيدخل علييف الابن سجلات تاريخ البلاد من بوابتها، تشكل سلاحاً إضافياً لتثبيت مقعده الرئاسي مدى الحياة، مهما بلغت حدة التعقيدات والصراعات في الفضاء المحيط. بعبارة أخرى، لم يعد الزعيم الذي يطلق عليه البعض صفة «الملك المتوّج» يخشى تداعيات «الثورات الملوّنة» التي هزّت الكراسي في بلدان مجاورة، وأطاحت كثيرين من زملائه السابقين... فمن ذا الذي يجرؤ الآن على تحدي «بطل الانتصار العظيم»؟
لا شك أن للنصر الذي حققت القوات الأذربيجانية في إقليم ناغورنو قره باغ الذاتي الحكم على الانفصاليين الأرمن، رمزية خاصة للرئيس الأذري، الذي ارتبط تاريخ عائلته بالنزاع المزمن مع أرمينيا. إذ إن والده، حيدر علييف، أول رئيس لأذربيجان بعد «إعلان الاستقلال» في نهاية العهد السوفياتي (والقيادي البارز سابقاً في السلطة السوفياتية)، ولد في ناخيتشيفان (نخجوان)، الإقليم الأذري الواقع داخل الأراضي الأرمينية. ثم إن عائلة علييف نفسها تتحدّر من قرية جومارتلي في منطقة زانجيزور، التي سميت فيما بعد سيسيان. والمنطقة كانت في مرحلة من التاريخ جزءاً من أذربيجان، لكنها الآن مدينة سيونيك في أرمينيا.
- نشأة مثيرة وظروف تاريخية
ولد الهام علييف في عام 1961، ونشأ في أحضان السلطة السوفياتية؛ إذ كان والده رئيساً لجهاز الاستخبارات الرهيب المعروف اختصاراً باسم الـ«كي. جي. بي». في أذربيجان. ثم ترأس الجمهورية كسكرتير أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية، قبل أن ينتقل إلى موسكو، حيث عمل نائباً لرئيس مجلس الوزراء (الحكومة) في الاتحاد السوفياتي المنحل.
لذا؛ لم يكن صعباً بالنسبة إلى إلهام الذي تخرّج عام 1977 من المدرسة الثانوية أن يلتحق فوراً بـ«معهد العلاقات الدولية» في موسكو، وهو المعهد المرموق التابع لوزارة الخارجية، الذي تخرّج فيه أبرز رموز الدبلوماسية الروسية، وبينهم رئيس الوزراء الراحل يفغيني بريماكوف ووزير الخارجية حالياً سيرغي لافروف.
في وقت لاحق سوف يتذكر إلهام علييف تلك المرحلة ليقول لأحد الصحافيين «تم قبولي على أساس شهادة تنص رسمياً على أنه في غضون خمسة أشهر فقط سأبلغ من العمر 16 سنة. كانت السنة الأولى من الدراسة هي الأكثر مسؤولية. إن الدراسة في باكو (عاصمة أذربيجان) لابن السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأذربيجاني شيء... والدراسة في موسكو شيء آخر تماماً، في بيئة مختلفة، وحتى في هذه السن المبكرة. لكنني لم أخيّب ظن والدي، فقد درست جيداً في المعهد، ثم نجحت في الدراسات العليا».
في عام 1985، بعدما دافع إلهام عن أطروحته للحصول على درجة مرشح العلوم التاريخية، عمل في التدريس بالمعهد الدبلوماسي ذاته، لسنوات محدودة عاد بعدها إلى باكو عام 1991 عندما كان الاتحاد السوفياتي يلفظ أنفاسه الأخيرة. غير أن تلك الفترة كانت مهمة جداً، لكونها مهّدت لبروز نجم «ابن الرئيس الأذري» داخل الأوساط الدبلوماسية الروسية، وهي المرحلة التي تلتها خطوة أخرى لا تقل أهمية، مهّدت لبناء إلهام علييف علاقات وثيقة ظلت مستمرة لسنوات طويلة لاحقا مع تركيا.
حصل ذلك، بعدما انخرط إلهام علييف في الأعمال الخاصة. وسرعان ما أصبح رئيساً لشركة «أورينت» المتخصّصة في مجال النفط، لينتقل عام 1992 انتقل إلى إسطنبول، حيث ارتبط النشاط الرئيسي للشركة بتركيا. وفي العام التالي عاد إلهام إلى أذربيجان بعدما غدا والده رسمياً رئيساً للجمهورية الوليدة على أنقاض الدولة العظمى السابقة. ومنذ ذلك الوقت، لم يكن للحظة بعيداً عن السلطة في بلاده. ذلك أنه شغل في السنوات بين 1994 إلى 2003 منصب نائب الرئيس، ثم النائب الأول لرئيس SOCAR (شركة النفط الحكومية لجمهورية أذربيجان). ما يعني أنه شارك عملياً في تنفيذ «استراتيجية النفط لحيدر علييف».
خلال تلك الفترة، انتُخب عام 1995 نائباً في البرلمان، وظل في موقعه النيابي مع عمله في الشركة النفطية العملاقة، حتى تولى في أغسطس (آب) 2003 منصب رئيس وزراء جمهورية أذربيجان، وهو المنصب الذي بقي فيه مدة شهرين فقط، بتوصية من والده تمهيداً لانتقاله إلى مقعد الرئاسة.
- رئيساً لأذربيجان
حصل علييف الابن على أصوات نحو 80 في المائة من الناخبين، وسط تشكيك واسع من جانب مراقبين دوليين تحدثوا عن انتهاكات عديدة، ولم تعترف المعارضة الأذربيجانية بنتيجة الانتخابات. وفي اليوم التالي تحرك أكثر من 3000 من أنصار أحد مرشحي الرئاسة المعارضين من حزب المساواة على طول الشوارع المركزية بالعاصمة باكو، لكن التحرك قُمع بسرعة، وظهر علييف على شاشة التلفزيون الوطني ليقول:
«أؤمن بمستقبل سعيد لأذربيجان. أنا واثق من أن بلادنا ستستمر في التطور والتعزيز. ستحصل الديمقراطية في أذربيجان على مزيد من التطور، وسيصار إلى ضمان التعددية السياسية وحرية التعبير. ستصبح بلادنا دولة حديثة. لتحقيق كل هذا، يجب عمل الكثير في أذربيجان. ولكن من أجل تنفيذ كل هذا وتحويل أذربيجان إلى دولة قوية، من الضروري، أولاً وقبل كل شيء، مواصلة سياسة حيدر علييف في البلاد». هذه الكلمات كرّرها مرات عدة. وفي مقابلة مع صحيفة حكومية روسية، قال إن «أذربيجان اليوم هي عمل حيدر علييف، ويمكنك التحدث لساعات عما فعله للبلاد. ويجب أن نواصل مسيرته. لقد جاهدت دائماً وسأسعى لأكون مثل والدي».
عكست تلك العبارات جوهر المشكلة التي يواجهها الرئيس الشاب، الذي راكم خبرات عملية في شركات النفط، لكنه ما زال يفتقد الخبرات السياسية، كما أنه يفتقد «الكاريزما» التي كان يملكها والده. لقد ظل لسنوات يعيش على التركة السياسية لوالده صانع الاستقلال و«باني أذربيجان الحديثة».
لذا؛ سادت توقعات بأنه لن يكون قادراً على اتباع أسلوب قيادة صارم. لكن الأمر لم يقتصر على قدراته وخبراته؛ إذ اضطر إلهام علييف إلى الاعتماد كلياً على النخبة الحاكمة القديمة، وشغل أولئك الذين احتلوا مواقع مؤثرة في عهد الرئيس الأب جميع المناصب الوزارية المهمة. واستغرق الأمر سنتين للتحضير لتغيير الجهاز الرئاسي وتشكيل فريق مقرب منه.
- الانقلاب على الحرس القديم
في أكتوبر (تشرين الأول) 2005، أعلنت أذربيجان إحباط محاولة انقلاب، وجرى اعتقال 12 من أبرز الشخصيات في البلاد، بينهم وزير التنمية الاقتصادية ووزير المالية ووزير الصحة والرئيس السابق لأكاديمية العلوم في البلاد. وكان البعض، يعتقد وفقاً لتقارير، أن إلهام علييف لن يستطيع حكم البلاد. حتى أن أوساطاً اعتبرته شخصية انتقالية ستضمن انتقالاً ناجحاً إلى عضو آخر في النخبة الحاكمة. لكن اتضح أن إلهام كان سياسياً أكثر ذكاءً بكثير من تلك الافتراضات.
لقد أدرك أن التهديد الأكبر لحكمه لم يأت من المعارضة الهشة، بل من النخبة الحاكمة. فلقد أسفرت وفاة حيدر علييف عن إطلاق أيدي العديد من العناصر النافذة المؤثرة في «الحرس القديم» الذي ارتضى مرغما نقل السلطة إلى «شاب عديم الخبرة» كي يواصل التحكم بمفاتيح القرار في البلاد. وكان يترأس تلك المجموعة عمّ الرئيس، جلال علييف، وأقرب معاونيه علي إنسانوف وهو رئيس عشيرة إيراز (الأذربيجانيون من أرمينيا) ومؤسس حزب «أذربيجان الجديدة» الحاكم.
إلا أنه خلافاً لتوقعات الجميع، تعامل إلهام بقسوة مع خصومه السياسيين. إذ اعتقل إنسانوف وعدداً من أفراد عائلة علييف الممسكين بمواقع مهمة، بتهمة الوقوف وراء محاولة الانقلاب وأدينوا بالفساد والاختلاس. وأقدمت الحكومة على قمع المعارضة بعد الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2005.
هذه الإجراءات ساعدت، طبعاً، على محو صورة الرئيس على أنه ضعيف، وإن كانت قد نسفت في الوقت ذاته صورته كمصلح. ولكن المهم في اعتقال إنسانوف، زعيم إيراز، أنه بشّر بالنهاية الرمزية لحكم العشائر. ورغم أن بعض الشخصيات من إيراز واصلت الاحتفاظ بمعظم المناصب الرئيسية، فإن الولاء الشخصي والقرب من الرئيس أصبحا أكثر أهمية من الانتماء إلى عشيرة أو أخرى.
وعلى عكس والده، الذي اعتمد على عشيرته بالدرجة الأولى، اتجه إلهام إلى العمل مع أناس نشأوا في العاصمة باكو ونجحوا في العديد من الأحيان في الأعمال التجارية. وعموماً، ساهمت الإيرادات الكبيرة من صادرات النفط في تعزيز السلطة الرئاسية وتقوية هيمنة الأوليغارشية.
- تعديلات دستورية... ورئاسة مدى الحياة
أثناء الدورة الرئاسية الثانية أجرى إلهام علييف استفتاءً في البلاد لتعديل الدستور عام 2009، بمبادرة من حزب «أذربيجان الجديدة» الحاكم. وبحسب نتائج الاستفتاء صوّت 90 في المائة من المقترعين لصالح التعديلات. ومن التعديلات التي جرت الموافقة عليها منح الرئيس حق الترشح أكثر من مرتين. وهو ما مهد الطريق أمام إلهام لإنهاء الجدل الداخلي حول خلافته، مع أنه كان هناك اعتقاد شائع بأن الاستفتاء كان يهدف إلى توضيح للمتنافسين داخل النخبة الحاكمة أنه لا داعي للخوف من تغيير السلطة في المستقبل القريب. في أي حال، اتهمت المعارضة علييف بالعمل على تحويل أذربيجان إلى نظام حكم ملكي، واعتبرت المفوضية الأوروبية الاستفتاء «خطوة خطيرة إلى الوراء»، ووصفت منظمات دولية عدة، أذربيجان بأنها «بلد ركز فيه الرئيس سلطة واسعة بين يديه».
ووقع الاستفتاء الدستوري التالي خلال الولاية الرئاسية الثالثة عام 2016. هذه المرة بادر إلهام علييف نفسه إلى الطُلب من المواطنين التصويت لزيادة فترة الرئاسة من 5 إلى 7 سنوات، واستحدثت مناصب النائب الأول للرئيس ونواب الرئيس. وكان بين التغييرات المثيرة للجدل نقطتان أخريان تؤثران على أنشطة السلطتين التشريعية والتنفيذية. ففي عهد حيدر علييف - عندما كان إلهام رئيساً للوزراء - نظّم استفتاء نقلت على إثره نقل صلاحيات رئيس الدولة، في حال رحيله المبكر، ليس إلى رئيس مجلس النواب، بل إلى رئيس الوزراء. وفي هذه المرة، طُلب من المواطنين إقرار تعديل مختلف ينصّ على أنه إذا ما استقال الرئيس طواعية، فلا تنتقل صلاحياته إلى رئيس الوزراء، بل إلى النائب الأول للرئيس. ووفق على جميع التعديلات الـ29 في استفتاء عام 2016 بمستويات دعم تراوحت بين 90 و95 في المائة من الأصوات. ومجدداً، انتقد «مجلس أوروبا» هذا الاستفتاء، ووصفه بأنه ضربة جديدة للتطور الديمقراطي في البلاد.
ولكن، سرعان ما اتضحت بعد مرور ثلاثة أشهر على إقرار التعديلات الدستورية الجديدة، أهداف إلهام علييف منها. إذ أصدر في فبراير (شباط) 2017 مرسوماً رئاسياً بتعيين زوجته مهريبان لمنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية. وللعلم، كانت السيدة الأولى منذ 2005 نائبة في البرلمان، إلا أنها غدت مع التعديلات الدستورية صاحبة سلطة واسعة جدا، ومرشحة أكثر من محتملة للرئاسة في حال تعرّض الرئيس لأي طارئ. وبطبيعة الحال، آثار هذا التعيين عاصفة من الجدل في أوساط الباحثين.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.