انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

واجه «الحرس القديم» وأحكم قبضته على أذربيجان... وعيّن زوجته نائباً للرئيس

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف
TT

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

انتصار قره باغ يعزّز سمعة «الملك المتوّج» إلهام علييف

لم يكن رئيس أذربيجان إلهام علييف الذي يتربع على سدة الحكم في بلاده منذ نحو عقدين، في حاجة إلى نصر عسكري حاسم في إقليم ناغورنو قره باغ من أجل تثبيت أركان حكمه. ذلك أنه نجح عبر أربع ولايات رئاسية متتالية، في إضعاف خصومه، وفرض سلطات مطلقة في الجمهورية القوقازية السوفياتية السابقة.
إلا أن الزعيم القوي الذي عاش طوال حياته في جلباب أبيه حيدر علييف، الرئيس القومي صاحب لقب «صانع الاستقلال»، كان يحتاج بقوة إلى رفع رايات «نصر عظيم» ليعزز صورته وإنجازاته كبطل قومي، ليكون أول مرسوم رئاسي يصدره بعدما وضعت «حرب قره باغ» الأخيرة أوزارها تحديد العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام «عيداً للنصر». هذه الهالة التي سيدخل علييف الابن سجلات تاريخ البلاد من بوابتها، تشكل سلاحاً إضافياً لتثبيت مقعده الرئاسي مدى الحياة، مهما بلغت حدة التعقيدات والصراعات في الفضاء المحيط. بعبارة أخرى، لم يعد الزعيم الذي يطلق عليه البعض صفة «الملك المتوّج» يخشى تداعيات «الثورات الملوّنة» التي هزّت الكراسي في بلدان مجاورة، وأطاحت كثيرين من زملائه السابقين... فمن ذا الذي يجرؤ الآن على تحدي «بطل الانتصار العظيم»؟
لا شك أن للنصر الذي حققت القوات الأذربيجانية في إقليم ناغورنو قره باغ الذاتي الحكم على الانفصاليين الأرمن، رمزية خاصة للرئيس الأذري، الذي ارتبط تاريخ عائلته بالنزاع المزمن مع أرمينيا. إذ إن والده، حيدر علييف، أول رئيس لأذربيجان بعد «إعلان الاستقلال» في نهاية العهد السوفياتي (والقيادي البارز سابقاً في السلطة السوفياتية)، ولد في ناخيتشيفان (نخجوان)، الإقليم الأذري الواقع داخل الأراضي الأرمينية. ثم إن عائلة علييف نفسها تتحدّر من قرية جومارتلي في منطقة زانجيزور، التي سميت فيما بعد سيسيان. والمنطقة كانت في مرحلة من التاريخ جزءاً من أذربيجان، لكنها الآن مدينة سيونيك في أرمينيا.
- نشأة مثيرة وظروف تاريخية
ولد الهام علييف في عام 1961، ونشأ في أحضان السلطة السوفياتية؛ إذ كان والده رئيساً لجهاز الاستخبارات الرهيب المعروف اختصاراً باسم الـ«كي. جي. بي». في أذربيجان. ثم ترأس الجمهورية كسكرتير أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية، قبل أن ينتقل إلى موسكو، حيث عمل نائباً لرئيس مجلس الوزراء (الحكومة) في الاتحاد السوفياتي المنحل.
لذا؛ لم يكن صعباً بالنسبة إلى إلهام الذي تخرّج عام 1977 من المدرسة الثانوية أن يلتحق فوراً بـ«معهد العلاقات الدولية» في موسكو، وهو المعهد المرموق التابع لوزارة الخارجية، الذي تخرّج فيه أبرز رموز الدبلوماسية الروسية، وبينهم رئيس الوزراء الراحل يفغيني بريماكوف ووزير الخارجية حالياً سيرغي لافروف.
في وقت لاحق سوف يتذكر إلهام علييف تلك المرحلة ليقول لأحد الصحافيين «تم قبولي على أساس شهادة تنص رسمياً على أنه في غضون خمسة أشهر فقط سأبلغ من العمر 16 سنة. كانت السنة الأولى من الدراسة هي الأكثر مسؤولية. إن الدراسة في باكو (عاصمة أذربيجان) لابن السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأذربيجاني شيء... والدراسة في موسكو شيء آخر تماماً، في بيئة مختلفة، وحتى في هذه السن المبكرة. لكنني لم أخيّب ظن والدي، فقد درست جيداً في المعهد، ثم نجحت في الدراسات العليا».
في عام 1985، بعدما دافع إلهام عن أطروحته للحصول على درجة مرشح العلوم التاريخية، عمل في التدريس بالمعهد الدبلوماسي ذاته، لسنوات محدودة عاد بعدها إلى باكو عام 1991 عندما كان الاتحاد السوفياتي يلفظ أنفاسه الأخيرة. غير أن تلك الفترة كانت مهمة جداً، لكونها مهّدت لبروز نجم «ابن الرئيس الأذري» داخل الأوساط الدبلوماسية الروسية، وهي المرحلة التي تلتها خطوة أخرى لا تقل أهمية، مهّدت لبناء إلهام علييف علاقات وثيقة ظلت مستمرة لسنوات طويلة لاحقا مع تركيا.
حصل ذلك، بعدما انخرط إلهام علييف في الأعمال الخاصة. وسرعان ما أصبح رئيساً لشركة «أورينت» المتخصّصة في مجال النفط، لينتقل عام 1992 انتقل إلى إسطنبول، حيث ارتبط النشاط الرئيسي للشركة بتركيا. وفي العام التالي عاد إلهام إلى أذربيجان بعدما غدا والده رسمياً رئيساً للجمهورية الوليدة على أنقاض الدولة العظمى السابقة. ومنذ ذلك الوقت، لم يكن للحظة بعيداً عن السلطة في بلاده. ذلك أنه شغل في السنوات بين 1994 إلى 2003 منصب نائب الرئيس، ثم النائب الأول لرئيس SOCAR (شركة النفط الحكومية لجمهورية أذربيجان). ما يعني أنه شارك عملياً في تنفيذ «استراتيجية النفط لحيدر علييف».
خلال تلك الفترة، انتُخب عام 1995 نائباً في البرلمان، وظل في موقعه النيابي مع عمله في الشركة النفطية العملاقة، حتى تولى في أغسطس (آب) 2003 منصب رئيس وزراء جمهورية أذربيجان، وهو المنصب الذي بقي فيه مدة شهرين فقط، بتوصية من والده تمهيداً لانتقاله إلى مقعد الرئاسة.
- رئيساً لأذربيجان
حصل علييف الابن على أصوات نحو 80 في المائة من الناخبين، وسط تشكيك واسع من جانب مراقبين دوليين تحدثوا عن انتهاكات عديدة، ولم تعترف المعارضة الأذربيجانية بنتيجة الانتخابات. وفي اليوم التالي تحرك أكثر من 3000 من أنصار أحد مرشحي الرئاسة المعارضين من حزب المساواة على طول الشوارع المركزية بالعاصمة باكو، لكن التحرك قُمع بسرعة، وظهر علييف على شاشة التلفزيون الوطني ليقول:
«أؤمن بمستقبل سعيد لأذربيجان. أنا واثق من أن بلادنا ستستمر في التطور والتعزيز. ستحصل الديمقراطية في أذربيجان على مزيد من التطور، وسيصار إلى ضمان التعددية السياسية وحرية التعبير. ستصبح بلادنا دولة حديثة. لتحقيق كل هذا، يجب عمل الكثير في أذربيجان. ولكن من أجل تنفيذ كل هذا وتحويل أذربيجان إلى دولة قوية، من الضروري، أولاً وقبل كل شيء، مواصلة سياسة حيدر علييف في البلاد». هذه الكلمات كرّرها مرات عدة. وفي مقابلة مع صحيفة حكومية روسية، قال إن «أذربيجان اليوم هي عمل حيدر علييف، ويمكنك التحدث لساعات عما فعله للبلاد. ويجب أن نواصل مسيرته. لقد جاهدت دائماً وسأسعى لأكون مثل والدي».
عكست تلك العبارات جوهر المشكلة التي يواجهها الرئيس الشاب، الذي راكم خبرات عملية في شركات النفط، لكنه ما زال يفتقد الخبرات السياسية، كما أنه يفتقد «الكاريزما» التي كان يملكها والده. لقد ظل لسنوات يعيش على التركة السياسية لوالده صانع الاستقلال و«باني أذربيجان الحديثة».
لذا؛ سادت توقعات بأنه لن يكون قادراً على اتباع أسلوب قيادة صارم. لكن الأمر لم يقتصر على قدراته وخبراته؛ إذ اضطر إلهام علييف إلى الاعتماد كلياً على النخبة الحاكمة القديمة، وشغل أولئك الذين احتلوا مواقع مؤثرة في عهد الرئيس الأب جميع المناصب الوزارية المهمة. واستغرق الأمر سنتين للتحضير لتغيير الجهاز الرئاسي وتشكيل فريق مقرب منه.
- الانقلاب على الحرس القديم
في أكتوبر (تشرين الأول) 2005، أعلنت أذربيجان إحباط محاولة انقلاب، وجرى اعتقال 12 من أبرز الشخصيات في البلاد، بينهم وزير التنمية الاقتصادية ووزير المالية ووزير الصحة والرئيس السابق لأكاديمية العلوم في البلاد. وكان البعض، يعتقد وفقاً لتقارير، أن إلهام علييف لن يستطيع حكم البلاد. حتى أن أوساطاً اعتبرته شخصية انتقالية ستضمن انتقالاً ناجحاً إلى عضو آخر في النخبة الحاكمة. لكن اتضح أن إلهام كان سياسياً أكثر ذكاءً بكثير من تلك الافتراضات.
لقد أدرك أن التهديد الأكبر لحكمه لم يأت من المعارضة الهشة، بل من النخبة الحاكمة. فلقد أسفرت وفاة حيدر علييف عن إطلاق أيدي العديد من العناصر النافذة المؤثرة في «الحرس القديم» الذي ارتضى مرغما نقل السلطة إلى «شاب عديم الخبرة» كي يواصل التحكم بمفاتيح القرار في البلاد. وكان يترأس تلك المجموعة عمّ الرئيس، جلال علييف، وأقرب معاونيه علي إنسانوف وهو رئيس عشيرة إيراز (الأذربيجانيون من أرمينيا) ومؤسس حزب «أذربيجان الجديدة» الحاكم.
إلا أنه خلافاً لتوقعات الجميع، تعامل إلهام بقسوة مع خصومه السياسيين. إذ اعتقل إنسانوف وعدداً من أفراد عائلة علييف الممسكين بمواقع مهمة، بتهمة الوقوف وراء محاولة الانقلاب وأدينوا بالفساد والاختلاس. وأقدمت الحكومة على قمع المعارضة بعد الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2005.
هذه الإجراءات ساعدت، طبعاً، على محو صورة الرئيس على أنه ضعيف، وإن كانت قد نسفت في الوقت ذاته صورته كمصلح. ولكن المهم في اعتقال إنسانوف، زعيم إيراز، أنه بشّر بالنهاية الرمزية لحكم العشائر. ورغم أن بعض الشخصيات من إيراز واصلت الاحتفاظ بمعظم المناصب الرئيسية، فإن الولاء الشخصي والقرب من الرئيس أصبحا أكثر أهمية من الانتماء إلى عشيرة أو أخرى.
وعلى عكس والده، الذي اعتمد على عشيرته بالدرجة الأولى، اتجه إلهام إلى العمل مع أناس نشأوا في العاصمة باكو ونجحوا في العديد من الأحيان في الأعمال التجارية. وعموماً، ساهمت الإيرادات الكبيرة من صادرات النفط في تعزيز السلطة الرئاسية وتقوية هيمنة الأوليغارشية.
- تعديلات دستورية... ورئاسة مدى الحياة
أثناء الدورة الرئاسية الثانية أجرى إلهام علييف استفتاءً في البلاد لتعديل الدستور عام 2009، بمبادرة من حزب «أذربيجان الجديدة» الحاكم. وبحسب نتائج الاستفتاء صوّت 90 في المائة من المقترعين لصالح التعديلات. ومن التعديلات التي جرت الموافقة عليها منح الرئيس حق الترشح أكثر من مرتين. وهو ما مهد الطريق أمام إلهام لإنهاء الجدل الداخلي حول خلافته، مع أنه كان هناك اعتقاد شائع بأن الاستفتاء كان يهدف إلى توضيح للمتنافسين داخل النخبة الحاكمة أنه لا داعي للخوف من تغيير السلطة في المستقبل القريب. في أي حال، اتهمت المعارضة علييف بالعمل على تحويل أذربيجان إلى نظام حكم ملكي، واعتبرت المفوضية الأوروبية الاستفتاء «خطوة خطيرة إلى الوراء»، ووصفت منظمات دولية عدة، أذربيجان بأنها «بلد ركز فيه الرئيس سلطة واسعة بين يديه».
ووقع الاستفتاء الدستوري التالي خلال الولاية الرئاسية الثالثة عام 2016. هذه المرة بادر إلهام علييف نفسه إلى الطُلب من المواطنين التصويت لزيادة فترة الرئاسة من 5 إلى 7 سنوات، واستحدثت مناصب النائب الأول للرئيس ونواب الرئيس. وكان بين التغييرات المثيرة للجدل نقطتان أخريان تؤثران على أنشطة السلطتين التشريعية والتنفيذية. ففي عهد حيدر علييف - عندما كان إلهام رئيساً للوزراء - نظّم استفتاء نقلت على إثره نقل صلاحيات رئيس الدولة، في حال رحيله المبكر، ليس إلى رئيس مجلس النواب، بل إلى رئيس الوزراء. وفي هذه المرة، طُلب من المواطنين إقرار تعديل مختلف ينصّ على أنه إذا ما استقال الرئيس طواعية، فلا تنتقل صلاحياته إلى رئيس الوزراء، بل إلى النائب الأول للرئيس. ووفق على جميع التعديلات الـ29 في استفتاء عام 2016 بمستويات دعم تراوحت بين 90 و95 في المائة من الأصوات. ومجدداً، انتقد «مجلس أوروبا» هذا الاستفتاء، ووصفه بأنه ضربة جديدة للتطور الديمقراطي في البلاد.
ولكن، سرعان ما اتضحت بعد مرور ثلاثة أشهر على إقرار التعديلات الدستورية الجديدة، أهداف إلهام علييف منها. إذ أصدر في فبراير (شباط) 2017 مرسوماً رئاسياً بتعيين زوجته مهريبان لمنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية. وللعلم، كانت السيدة الأولى منذ 2005 نائبة في البرلمان، إلا أنها غدت مع التعديلات الدستورية صاحبة سلطة واسعة جدا، ومرشحة أكثر من محتملة للرئاسة في حال تعرّض الرئيس لأي طارئ. وبطبيعة الحال، آثار هذا التعيين عاصفة من الجدل في أوساط الباحثين.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.