قبل أن يعرف الخليج الرخاء، عرف سنوات القسوة والشدّة، سنوات الخوف والمرض... لكنّ الأعمال الأدبية والفنية عن تلكم السنوات لا تكاد تذكر...!، رغم أنها ما زالت دامية في الذاكرة الجمعية للمجتمعات الخليجية. نحن اليوم على مشارف النهاية لسنة عابسة وكئيبة هي «سنة الكورونا»، وهي أفضل حالاً لأنها تحظى بالتوثيق الرقمي الذي سيجعلها تعبر نحو الأجيال المقبلة.
ستختلف الصور والتحليلات، وتتعدد الذكريات، وتتنوع القصص، وتتلاطم أمواج المآسي التي خلفتها هذه الجائحة على الكرة الأرضية برمتها، مشاهد من بطولات وفجائع... شجاعة وشهامة، وأيضاً سلوك أناني وعنصري... مشاهد دفن الضحايا بدون مراسيم ووداع... ومشاهد الصفوف الطويلة في انتظار المناديل الورقية، حتى لأصبح أتفه شيء ذا قيمة غالية.
ما يجعل هذه الذكرى باقية بنبضها وحرارتها هي الأعمال الأدبية وخاصة الروائية والشعرية والفنية، أي الدراما والسينما... وهي الراوي والمؤرخ للزمن الآتي.
في ذاكرتنا في الخليج العديد من السنوات الصعبة، التي لم تجد تصويراً مناسباً لها في الأعمال الأدبية، خاصة في الفترة ما بين الحربين العالميتين: سنوات عرفت باسم المرض؛ كسنة الجدري والطاعون والكوليرا، وسنوات باسم الجوع، كسنة المجاعة والبطاقة وغيرها... وسنة الكارثة الرهيبة التي عرفت بسنة «الطبعة».
في عام 1923م (1343هـ)، وخلال موسم الغوص حيث كانت مئات القوارب والسفن التابعة لسكان الخليج إبان موسم الغوص واستخراج اللؤلؤ، هبت عاصفة مدارية شديدة في الخليج والمحيط الهندي تسببت في غرق مئات المراكب وهلك أصحابها، وقيل إن عدد الصيادين الخليجيين الذين توفوا في تلك الكارثة يتراوح بين 5 و8 آلاف إنسان، كلهم خلّف وراءه عائلة ثكلى على سواحل الخليج.
من بين هؤلاء شاعر وغواص من القطيف بالسعودية هو أحمد بن سلمان الصايغ (الكوفي)، حيث كان في جملة الغرقى، فقد انكسر المركب الذي كان يقله مع مجموعة من الغواصين... وشاهد الموج يبتلع زملاءه واحداً واحداً... وكان هذا الشاعر من جملة الغرقى غير أنه تشبث ببعض حطام السفينة العائمة، فمكث يومين هناك إلى أن جاءت بعض السفن التي هبت لنجدة البحارين لانتشال الضحايا، فأنقذوه. يتحدث المحقق والشاعر عدنان العوامي، عن معاناته بالقول: «... يوم أنشبته العاصفة المعروفة لدى أهل الخليج بـ(الطبعة) فوق صارية سفينته المحطمة أياماً بقي خلالها يصارع الموج، وينازع أسماك القرش، حتى تسلخ جلد فخذيه، إلى أن تداركه لطف الله، فانتشلته سفينة عابرة».
لكن أين هذه السنة من الأعمال الفنية والأدبية...؟، هذه السنة كانت مؤسسة فعلاً لتحولات اقتصادية واجتماعية وتغيرات في نمط المعيشة والعمران... خاصة بعد اكتشاف اللؤلؤ الصناعي... ثم اكتشاف البترول...
أعقبت سنة «الطبعة» سنة أخرى أشد إيلاماً، هي سنة المجاعة، يقول أحمد الكوفي، عنها:
أسامر في الليل الكواكب كلما / بدا لي نجم بعد نجم تغوّرا
نأى النوم عن جفني فلم تغف مقلتي / وقلبي غدا في مهمة الفكر مسحرا
وألهمت شعراً فيك تبصرة لمن / تبصر أو ذكرى إلى من تذكرا
يخبّر عن ماضي الزمان وما جرى / على أهله فيه من الجوع والعرى
فيا سنة قد عمَّ في كل بلدة / عناها الذي بين الملا قطّ ما جرى
تكاثر فيها المعسرون وقلَّ من / يحضّ على إسعاف من كان معسرا
فشا الفقر في الأمصار طراً وإنما / مظاهره كانت على (الخط) أظهرا
تعذر فيها كل سعي ومكسب / فما حال قوم كسبهم قد تعذرا
فلا لوم إن لم يستطيعوا تصبّراً / أهلْ تَرَكَ الإملاق فيهم تصبرا؟
وناهيكم لم يبق حتى لأشعب / بها مطمع لو كان أشعب محضرا
خلا كل كيس واختفى كل درهم / ولم يبق جاه للوجيه لدى الورى
بين «سنة الطبعة»... و«سنة الكمامة»!
بين «سنة الطبعة»... و«سنة الكمامة»!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة