«لقاء الجمعة»... لعبة سردية مسكونة بالصحراء

حامد فاضل نجح في إعادة تمثلها بالتركيز على الشرائح المسحوقة

«لقاء الجمعة»... لعبة سردية مسكونة بالصحراء
TT
20

«لقاء الجمعة»... لعبة سردية مسكونة بالصحراء

«لقاء الجمعة»... لعبة سردية مسكونة بالصحراء

تكشف رواية «لقاء الجمعة»، للروائي حامد فاضل، عن نفسها منذ البداية بصفتها رواية شخصية تشتبك مع الحدث، فاعلة منفعلة، مؤثرة في الحدث الواقعي الاجتماعي بالقدر الذي تتأثر بهذا الحدث نفسه، وكأن الروائي يقتحم السجال النقدي المستمر حول تعالق الحدث بالشخصية. فبعد أن كان ينظر إلى الشخصية بصفتها تابعة للحدث، جرياً مع المفهوم الأرسطي، حصل تحول مهم مع الثورة البرجوازية، عندما أصبحت الشخصية مستقلة عن الحدث، وربما مؤثرة فيه.
شخصية البطل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمكان، وتحديداً مدينة السماوة، حاضرة وبادية صحراوية على السواء، كما نتعرف إليه منذ البداية شاباً يافعاً من أبنائها، اسمه سهيل السماوي، يروي حكايته للراوي المركزي أو ذات المؤلف الثانية، منذ إن كان طالباً في متوسطة السماوة، ونكتشف أن هذا النص الحكائي أو الروائي هو حصيلة حوارات أجراها الراوي مع البطل سهيل السماوي في سبع جلسات أيام الجمعة. ومن هنا جاء اشتقاق عنوان الرواية.
أما سهيل السماوي هذا فهو مجرد قناع لشخصية مرجعية واقعية، هو الأستاذ خضير عباس الذي أهدى له المؤلف روايته، بصفته مرجعاً سردياً لها «له السداة، وللخيال اللحمة، ولي الحياكة»، كاشفاً عن مرجعيات روايته التكوينية الثلاث، المتمثلة في مرجع حكائي واقعي هو الأستاذ خضير، وخيال سردي، و«حياكة» سردية أنجزها المؤلف، أو ذاته الثانية، وكأنه يكرر ما يقوله النقد الثقافي عن «المؤلف المزدوج» الذي بلوره الناقد عبد الله الغذامي في كتابه «النقد الثقافي»، كاشفاً أن النتاج الإبداعي هو ثمرة تأليف مزدوج من قبل المؤلف التقليدي، وما سماه الثقافة.
يستهل الروائي روايته في فصل استهلالي، أطلق عليه اسم «عتبة»، بتوظيف ضمير المتكلم، في سرد فني مبأر، يمر من خلال شاشة وعي الراوي المركزي في الرواية، أو الذات الثانية للروائي، وهو يصدمنا بحدث يجتذب اهتمامنا منذ البداية، هو سرقة حاسوبه المحمول الذي دون فيه لقاءات الجمعة مع سهيل السماوي، وكأن الروائي يستجيب لنصيحة عدد من الروائيين والنقاد وكتاب الرواية بأن يستهلوا رواياتهم بحدث ما، ربما كما يفعل كتاب القصص والأفلام البوليسية. فهذا الحدث سوف يستدرج القارئ إلى «أفق توقع» معين يتعلق بسر اختفاء الحاسوب، وبالتالي ملاحقة تجربة بطل الرواية سهيل السماوي. ومن الطريف أن هذا الفصل الاستهلالي، غير بعيد عن مفهوم العتبات النصية عند جيرار جنيت، هو جزء عضوي من النسيج الروائي الذي «حاكه» المؤلف من خلال لعبة سردية ذكية. كما ستكمل هذا الفصل في نهاية الرواية في فصل ختامي يحمل عنوان «العتبة أيضاً»، بالكشف عن مصير الحاسوب المسروق، ليعود بالرواية إلى نقطة الشروع عبر بنية دائرية.
الرواية تتحرك من خلال منحى «ميتا سردي» واضح يتجلى منذ البداية، وإعلان الراوي المركزي أنه قام بإجراء لقاءات دونها على حاسوبه مع سهيل السماوي نفسه، روى فيها كثيراً من تجاربه التي مرّ بها في السجون والمعتقلات في دفتر صغير، قرأ فقرات منه لزملائه السجناء السياسيين، وأخيراً قيام سهيل السماوي بكتابة الرواية بنفسه، بعد أن سرق حاسوب الراوي. لذا كان الانشغال بكتابة الرواية، وكيفية تنظيمها وصياغتها أو «حياكتها» هو الهم المهيمن على تفكير الراوي المركزي الذي فجع منذ الاستهلال الروائي بضياع مسودات روايته التي دونها على حاسوبه المسروق: «ربما هي المرة الألف التي تعيد فيها ذاكرتي شريط ذلك الصباح الشباطي المطير الذي فقدت فيه حاسوبي المحمول. ماذا أقول لسهيل السماوي... بأي وجه أقابل من وثق بي وسلمني مدخرات ذاكرته؟ تلك الذكريات التي شكلت مادة نسيج روائي».
واللعبة التي اعتمدها المؤلف في وضع ما سماه «ملف رواية لقاء الجمعة»، وفصله عن الاستهلال الموسوم بـ«عتبة»، والخاتمة الموسومة بـ«العتبة أيضاً»، توفر الانطباع لدى القارئ بأنه أمام مخطوطة «مستقلة»، وهو ما يدعم الجوهر الميتاسردي للرواية عبر هذا التنوع السردي والأسلوبي والحكائي.
لذا ينطوي السرد الروائي في «لقاء الجمعة» على أكثر من لعبة سردية ماكرة، إذ تكشف الرواية عن أكثر من سارد، بل توحي بأنها عمل تأليفي مشترك بين الراوي المركزي، أو ذاته الثانية، والشخص المجهول الذي سرق الحاسوب، وتنكر باسم «جابر عثرات الروائيين» الذي سنكتشف في الفصل الختامي أنه اسم مستعار لسهيل السماوي نفسه. كما أن سهيل، خلال السنوات الطويلة التي أمضاها في السجون والمعتقلات، وبشكل خاص في سجن بعقوبة وسجن نقرة السلمان، كان يدوّن ملاحظات عن حياته وتجربته، أصبحت هي الأخرى مادة أساسية من مواد النسيج الداخلي للرواية. وفضلاً عن ذلك، فقد لعب السرد الشفاهي الحكائي دوراً في إضفاء «أسلبة» لغوية وأسلوبية بتعبير باختين على لغة السرد. وظهور عنصر الحكاية، وتحديداً من خلال السرد الشفاهي، هو من الخصائص الأسلوبية الراسخة في أغلب ما كتب مؤلف الرواية حامد فاضل، وإن كان قد كرس واحداً من مؤلفاته السردية لهذا النمط الحكائي في كتابه «ألف صباح وصباح»، وجعل منه حكاءً متميزاً.
لا تخلو الرواية من جوهر تسجيلي ووثائقي، مع أنها رواية تخييلية مبأرة. كما أن كثيراً من الحقائق التي كشفت عنها، وبشكل خاص عن وضع السجناء في سجن بعقوبة، وعملية هروبهم الجماعية، والحياة الاجتماعية للسجناء في نقرة السلمان، وحتى إدراج أسمائهم الحقيقية، تكاد تكون تسجيلية ووثائقية وقريبة من الحقيقة وجزءاً من التاريخ النضالي للحركة الوطنية.
لكن الجانب الوثائقي قد تسربل برداء السرد الفني، ولم يكن مقحماً أو مصطنعاً. وبذا، فالروائي نجح في إعادة خلق الواقعة التاريخية سردياً وتخييلياً من خلال التركيز على الحياة الداخلية للشرائح المسحوقة تحت وطأة نظام الاستبداد آنذاك. ويمكن القول إن الروائي وفق في تقديم تاريخ بديل لنضال الشعب العراقي، ممثلاً بسهيل السماوي، منذ كان طالباً صغيراً في متوسطة السماوة في أوائل الخمسينيات، واعتقاله وسجنه بسبب قيادته لمظاهرة جماهيرية تضامناً مع متظاهري انتفاضة تشرين عام 1952، ومن ثم سجنه في سجن بعقوبة، ومشاركته الفعالة في حفر نفق خاص لهروب السجناء السياسيين آنذاك، ومن ثم نقله إلى سجن نقرة السلمان في بادية السماوة، حتى لحظة إطلاق سراحه مع انتصار ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958.
والرواية أيضاً مهدت لاستكمال شخصية سهيل السماوي من خلال السرد الاستهلالي في «عتبة»، والختامي في «العتبة أيضاً»، من خلال التعرف إلى الوجه الآخر المعاصر لشخصية سهيل السماوي في مرحلة ما بعد الاحتلال، وتعرضه إلى التهميش والإقصاء من قبل قوى الفساد والطائفية التي هيمنت على مرافق الحياة في العراق.
ويمكن القول إن الرواية، بصفتها رواية شخصية، قد خلقت «هوية سردية» بمفهوم بول ريكور لبطلها من خلال المرويات التي كان يرويها إلى الراوي المركزي، وبسبب اهتمامها بالمكان، وتحديداً السجن السياسي، خلقت هوية سردية مكانية للسجن السياسي في العراق في ظل أنظمة الاستبداد. وفضلاً عن ذلك، وبسبب تركيز الروائي على مدينة السماوة، حاضرة وبادية، وبأهل «الوبر والمدر» -كما يقول- فقد أسس لهوية سردية لمدينة السماوة، وبشكل خاص لامتدادها الصحراوي الساحر الذي كان سجن نقرة السلمان جزءاً منه.
لقد بدا لنا الروائي مسكوناً مفتوناً بالصحراء في معظم ما كتب من أعمال سردية، وكشف في هذه الرواية بالذات عن خبرة كبيرة بالصحراء وأسرارها وأهلها وحكاياتها. ويمكن القول إنه قد كشف بعمله السردي هذا عن وجود مقومات لشعرية الصحراء، تذكرنا بعوالم الروائي الليبي إبراهيم الكوني، وهذا الثراء السحري الذي تنطوي عليه الصحراء بامتداداتها اللانهائية.
في الختام، لا يسعني إلا أن أقول عن حامد فاضل، وقدرته المدهشة على كشف شعرية الصحراء وأسرارها وأناسها وحكاياتها، ما سبق أن قلته عن الروائي إبراهيم الكوني، من أنه ذلك الساحر، البدوي، الذي يفتح لنا صندوقه الصحراوي السحري، بكل ما فيه من لقى وتمائم وحكايات وأسرار.



علماء ينتجون مخططاً دقيقاً لتوصيلات دماغ الفأر

حدد العلماء البنية الدماغية في عينة نسيجية بحجم حبة رمل (أرشيفية - رويترز)
حدد العلماء البنية الدماغية في عينة نسيجية بحجم حبة رمل (أرشيفية - رويترز)
TT
20

علماء ينتجون مخططاً دقيقاً لتوصيلات دماغ الفأر

حدد العلماء البنية الدماغية في عينة نسيجية بحجم حبة رمل (أرشيفية - رويترز)
حدد العلماء البنية الدماغية في عينة نسيجية بحجم حبة رمل (أرشيفية - رويترز)

أنتج علماء الأعصاب أكبر مخطط توصيلات عصبية وخريطة وظيفية لدماغ الثدييات حتى الآن، باستخدام أنسجة من جزء من قشرة دماغ فأر مسؤول عن الرؤية، وهو إنجاز قد يُقدم فهماً أعمق لكيفية عمل الدماغ البشري.

وحدد العلماء البنية الدماغية في عينة نسيجية بحجم حبة رمل، تحتوي على أكثر من 200 ألف خلية، بما في ذلك ما يقرب من 84 ألف خلية عصبية تُسمى الخلايا العصبية، ونحو 524 مليون وصلة بين هذه الخلايا عند نقاط اتصال تُسمى المشابك العصبية.

وفي المجمل، جمعوا بيانات تغطي نحو 3.4 ميل (5.4 كيلومتر) من التوصيلات العصبية في جزء من الدماغ يُعالج المعلومات البصرية من العينين.

وقال عالم الأعصاب فورست كولمان، من معهد «ألين» لعلوم الدماغ، وأحد العلماء الرائدين في البحث الذي نُشر، اليوم الأربعاء، في مجلة «نيتشر»: «تأتي ملايين المشابك العصبية ومئات الآلاف من الخلايا بتنوع كبير في الأشكال والأحجام، وتحتوي على تعقيد هائل... النظر إلى تعقيدها يمنحنا شعوراً بالرهبة إزاء التعقيد الهائل لعقولنا».

القشرة المخية هي الطبقة الخارجية للدماغ، وهي الموقع الرئيسي للإدراك الواعي، والأحكام، وتخطيط الحركات وتنفيذها. وقال عالم الأعصاب أندرياس تولياس من كلية «بايلور» للطب، وأحد رواد البحث: «يدرس العلماء بنية الدماغ وتشريحه - بما في ذلك مورفولوجيا أنواع الخلايا المختلفة وكيفية ارتباطها - منذ أكثر من قرن».

وأضاف: «مع ذلك، كان فهم كيفية ظهور الوظيفة العصبية على مستوى الدائرة العصبية أمراً صعباً، إذ نحتاج إلى دراسة كلٍّ من الوظيفة والتوصيلات العصبية في الخلايا العصبية نفسها. وتمثل دراستنا أكبر جهد حتى الآن لتوحيد بنية الدماغ ووظيفته بشكل منهجي داخل فأر واحد».

رغم وجود اختلافات ملحوظة بين أدمغة الفئران والبشر، فإن العديد من المبادئ التنظيمية لا تزال محفوظة لدى مختلف الأنواع.

ركز البحث على جزء من هذه المنطقة يُسمى القشرة البصرية الأولية، وهو جزء من المرحلة الأولى من معالجة الدماغ للمعلومات البصرية وأُجري بواسطة «MICrONS»، وهو اختصار لعبارة «الذكاء الآلي» من «Cortical Networks»، وهو اتحاد علمي يضم أكثر من 150 عالماً من مؤسسات مختلفة.

أنشأ باحثون في كلية «بايلور» للطب خريطة للنشاط العصبي في مليمتر مكعب من القشرة البصرية الأولية من خلال تسجيل استجابات خلايا الدماغ خلال ركض فأر المختبر على جهاز المشي أثناء مشاهدة مجموعة متنوعة من صور الفيديو، بما في ذلك من أفلام «الماتريكس».

عُدِّل الفأر جينياً لجعل هذه الخلايا تُصدر مادة فلورية عند نشاط الخلايا العصبية. ثم صُوِّرت الخلايا العصبية نفسها في معهد «ألين».

جُمعت هذه الصور ثلاثية الأبعاد، واستخدم باحثو جامعة «برينستون» الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لإعادة بناء الخلايا العصبية وأنماط ارتباطها.

يتكون الدماغ من شبكة من الخلايا، بما في ذلك الخلايا العصبية التي تُنشَّط بواسطة مُحفِّزات حسية مثل البصر أو الصوت أو اللمس، وتتصل ببعضها البعض عبر نقاط تشابك عصبي. تتضمن الوظيفة الإدراكية التفاعل بين تنشيط الخلايا العصبية والارتباطات بين خلايا الدماغ.

يرى الباحثون فوائد عملية من هذا النوع من الأبحاث. وقال تولياس: «أولاً، يُمكن لفهم قواعد توصيلات الدماغ أن يُسلِّط الضوء على مُختلف الاضطرابات العصبية والنفسية، بما في ذلك التوحد والفصام، التي قد تنشأ عن تشوهات دقيقة في التوصيلات العصبية. ثانياً، إن المعرفة الدقيقة لكيفية تشكيل التوصيلات العصبية لوظائف الدماغ تُتيح لنا اكتشاف الآليات الأساسية للإدراك».

من النتائج الرئيسية التي سُلِّط الضوء عليها في البحث، رسم خريطة لكيفية تنظيم الاتصالات التي تشمل فئة واسعة من الخلايا العصبية في الدماغ تُسمى الخلايا المثبطة. عندما تنشط هذه الخلايا، فإنها تُقلل نشاط الخلايا التي تتصل بها. وهذا على عكس الخلايا المُثيرة، التي تزيد من احتمالية نشاط الخلايا التي تتصل بها.

تُمثل الخلايا المثبطة نحو 15 في المائة من الخلايا العصبية القشرية. وقال كولمان: «لقد وجدنا أنماط تثبيط أكثر تحديداً بكثير مما توقعه الكثيرون، بمن فيهم نحن». وأضاف: «لا تتصل الخلايا المثبطة عشوائياً بجميع الخلايا المُثيرة المحيطة بها، بل تختار أنواعاً محددة جداً من الخلايا العصبية للاتصال بها. علاوة على ذلك، كان من المعروف وجود أربعة أنواع رئيسية من الخلايا العصبية المثبطة في القشرة المخية، لكن أنماط التحديد تُقسّم هذه الفئات إلى مجموعات أدق بكثير».